اشتهرت مدينة القدس بموروثها الثقافي، وفنونها الاسلامية والمسيحية التراثية، وتتمتع بمزايا فنية من طراز الهندسة المعمارية. وبمرور مئة عام على تأسيس المكتبة الخالدية العمومية في القدس، يكتسب المعنى العميق لهذه المناسبة لما تدخره من نظرة اعتزاز بمنجزات الثقافة لهذه المكتبة التراثية في مدينة القدس وجوارها الحرم الشريف. والمكتبة الخالدية الكائنة في حارة باب السلسلة بالقدس أسسها المرحوم الحاج راغب الخالدي، وهي مدرسة اسلامية قديمة، بناها الأمير حسام الدين بركة خان الخوارزمي، ودفن هو وولديه، في ساحتها سنة 644 ه 1244 ميلادي. واشترت العائلة الخالدية هذا المكان وكان يستخدم كمدرسة ومصلّى الى أن أسست فيه المكتبة، وجعله الحاج راغب وقفاً اسلامياً وأوقف بعض أملاكه بصرف ريعه على المكتبة وعين عليها مشرفاً المرحوم الشيخ أمين الأنصاري، سنة 1900 م. وضع فهرس المكتبة المرحوم اسطفان اسطفان وتم نشره في المتحف الفلسطيني سنة 1947 كما نشر الفهرس الذي أعدّه السيدان المرحوم حازم محمود الخالدي والسيد حيدر كامل الخالدي سنة 1967، والمكتبة على بكل محتوياتها لا تزال في مكانها. وقبل سنوات عمل مشرفها على برنامج لإعادة التعريف بهذه المكتبة ونشر ما تحتويه من كتب قيّمة لكي تكون تحت تصرف الباحثين في هذا الوقت العصيب الذي تمر به القدس، وأكد هذه الحقيقة وناشد كل من عادل وراغب الخالدي قبل عشرين عاماً، أن تبقى هذه المكتبة وغيرها من الآثار والمقدسات الاسلامية مصونة من عبث العابثين. وتضم المكتبة الخالدية العمومية أمهات الكتب التراثية والمعاجم والمخطوطات القديمة ويبلغ مجموعها ما يقارب 1156 نذكر منها: القرآن الكريم وكتب تتناول مختلف الفروع والفنون الاسلامية مثل التفاسير، والتجويد والقراءات والرسم، الحديث والمصطلح، الأصول، الفتاوي، الفقه الحنفي، الفقه في المذاهب الأربعة، الفرائض، التوحيد والتصوف، المواعظ والحكم وصوابه، النحو، المعاني والبيان وما يتعلق بها، اللغة، الأدب وما يتعلق به، السياسة والقوانين، الدواوين الشعرية والمدائح النبوية، دواوين تركية وفارسية، كتب المدائح النبوية، السير النبوية والمناقب، التاريخ والتراجم، القصص والحكايات والغرائب، المنطق، الحكمة وآداب البحث والمناظرة، الحساب والجبر والهندسة، كتب فلكية، كتب الجغرافية والطبيعيات والفلسفة والنباتات والكيمياء، الطب، الروحانيات، المجاميع العلمية وكتب متنوعة المواضيع. هذه النفائس هي بمثابة تحف تاريخية من الواجب حمايتها وصيانتها، وتذكرنا المكتبة الخالدية بمراحل الاستشراق الذهبية في القرون الماضية. عمل الفلسطينيون في القدس على مدى 13 قرناً على ترميم وتجميل المباني المقدسة، وآثارها بما فيها المكتبات التراثية القديمة ومخطوطاتها، وأيضاً المطابع القديمة ومنها مطبعة جورجي حبيب حنانيا في القدس. ومع تنامي ظاهرة المؤثرات البصرية وتطورها في عصرنا الراهن التي انتقلت عبر الصورة والشاشات، بات من الضروري أن تكون هناك جهات ممولة مثل اليونيسكو لترميم هذه المكتبة والحفاظ على محتوياتها وأرشفة المخطوطات باستخدام اجهزة ومعدات تكنولوجية حديثة ومشروع إعادة طباعة الكتب والمجلدات النادرة على نفقة اليونيسكو ومنظمات الثقافة العالمية. سابقاً كانت ظاهرة الرسامين والجوالين المسافرين الى الاستشراق تندرج في جماليات أثر المكان، وتلك ظاهرة رائعة لما راكمته من شواهد تاريخية المدينة المقدسة وآثارها ومآثرها. وباعتبار أن وظيفة الكتاب والكلمة أكثر ديمومة، فالمخطوطات القديمة في مكتبات القدس بحاجة الى عناية وترميم بعضها للحفاظ عليها، ومنها ما تقتنيه الى جانب المكتبة العمومية الخالدية أيضاً مكتبات الكنائس والأديرة المقدسة. ويحضرنا هنا ما قام به الرسام الانكليزي - الاسكوتلندي ديفيد روبرتس من عمل رائع عندما رسم ما يقارب 120 لوحة فنية عن القدس بين عام 1842 - 1849 وهذا الكتاب المصور صدر للمرة الأولى بالعربية عام 1996، عن دار جروس برس اللبنانية، التي حصلت على حقوق الترجمة والطباعة. وبمقارنة هذا العمل التاريخي مع ما نجده من أعمال ومخطوطات في المكتبات، نعثر على ما هو بحاجة الى طباعة مجدداً، وبعض الكتب التراثية بحاجة الى ترميم أيضاً، ذلك لما يحصل من متغيرات مواجهة تطرأ على المدينة المقدسة، في ظل الاحتلال الاسرائيلي والتهويد المستمر وتغيير معالمها ومحاولة شطب هويتها الفلسطينية. وفي ضوء الحصار الاسرائيلي المفروض على القدس منذ احتلالها عام 1967، أصبحت معالمها التاريخية ومحتوياتها الأثرية وكتبها ومخطوطاتها، مهددة بفعل الاجراءات والقوانين الجائرة الاسرائيلية. ربما نعثر في جانب آخر على حقيقة يؤكدها طموح المدينة المقدسة وأهلها في التصور المستقبلي من مشروعات عمرانية مؤجلة، ومن ضمنها أعمال الترميم والتجديد سواء بيوت المدينة وأحياء القدس العتيقة - أضف الى الصور والخرائط والكتب والمخطوطات والآثار التي تعود الى عصور قديمة. وربما من واجب منظمة اليونيسكو أن تسجل لديها مناسبة "احتفالية مئوية المكتبة الخالدية في القدس". وإرسال طاقم خبراء لمعرفة متطلبات المكتبة وحاجاتها ودعمها في مشاريع الطباعة والترميم، مثلما فعلت اليونيسكو قبل سنوات في بيت لحم من دعم مشاريع صيانة التراث الديني والثقافي. هذه الأماكن المقدسة والتاريخية لا تزال حتى الآن شاهداً على هويتها، لما تمثله من جمالية معمارية مع قيمة مقتنيات المكتبات، وهذا يعكس صورة واقع الحياة الثقافية والحضارية التي تعيشها القدس. وعلى الدول العربية والاسلامية دعم مشاريع القدس الإنمائية والخيرية ودعم صمود سكانها، وأيضاً دعم جامعة القدس العربية من قبل الجامعات العربية. ومثلما هي فلسطينوالقدس في سدنة الذاكرة، فإن المكتبة الخالدية العمومية بعد مرورة مئة عام على تأسيسها تحوز على المكانة العالية نفسها اضافة الى كل المكتبات التاريخية والمراكز الثقافية في المدينةوفلسطين. * كاتب فلسطيني