تحت العنوان أعلاه كتب سعدي يوسف كلمة في عدد "الكرمل" الأخير لمناسبة رحيل عبدالوهاب البياتي. والحق انها لم تكن مجرد كلمة عابرة، بل تسجل ظاهرة غريبة في عالم الثقافة يتوجب علينا ان نقف عندها. في هذه الكلمة يعلن الشاعر حربه على رجل لم يجف بعد تراب قبره كما يقال، وكأنه كان يختزن غيضاً طوال السنوات المنصرمة من دون ان يجد المناسبة أو الشجاعة للتعبير عنه. ولا يمكن والحالة هذه، ونحن نتوغل نحو مجاهل قرن جديد، ان نطالب ببقاء تقاليد الفروسية التي أودت بحياة بوشكين، شاعر روسيا الكبير، ولكن ما تقتضيه الأعراف الانسانية يبقي باستمرار على الجوهر الاساسي في اعتبارات طقوس المحبة والكراهية وطرق ومناسبات الافصاح عنها. وسعدي يوسف صاحب الكلمة الرهيفة، التي يحسن كيف يضعها في المكان المناسب، اخطأ القول هذه المرة، فبدا معلقاً بأنشوطة أعدها لسواه. كان عجولاً في تصفية حسابه فلم يرهب الموت، يستلب كل الأسلحة، حتى سلاح الشماتة. غير ان من المجدي ان ننتبه الى ظاهرة أشد خطورة من تلك التي تنحصر في معركة بين رجل لا يقوى على الرد وآخر يملك متسعاً، الذي يهمنا هنا ان سعدي يوسف صاحب مشروع لتوحيد الثقافة العراقية يتعدى اسمه كرمز الى ما تحتاجه هذه الثقافة من قدرة على انتزاع أشواكها التي زرعتها حقول الكراهية والتحاسد والتطرف. والحال ان عطوب الكبار من الشعراء العرب، لا تنحصر بتصورهم حدود ممالك قولهم وتصرفاتهم، بل تتعدى الى المحيطين بهم الذين يسكتون عن تلك العطوب. وهذا ما حصل مع البياتي ويحصل اليوم مع أدونيس ومحمود درويش... وكأن صفات شاعر كبير غدت في عالمنا العربي أشبه بصفات حكامنا الذين لن يتعبوا من التحديق في مراياهم. وإلا كيف يجوز لسعدي يوسف المرهف الودود الخجول ان ينتهز فرصة ضعف الآخر لكي يهاجمه بهذه القسوة. أي درب يريد سعدي يوسف ان يسلكه لكي يوحد الثقافة العراقية، واي رفاق يمكن ان يقودهم الى هذا الدرب غير الحواري والساكتين عن الخطأ، مثلما سكت هو عن خطأ البياتي وهو في عز سطوته. ويبدو ن من سوء حظ الثقافة العراقية ان تكون طوال سنواتها العجاف أسيرة استقطابات السياسة لا على مستوى الجدل والإبداع الفكري والمعرفي، بل على مستوى السلوك اليومي الذي جعل منها قبائل. ان ما تركته سلطة البعث من تشويهات خطيرة في جسد الثقافة والمثقفين في العراق لا يمكن ان يمحى لأجيال متعاقبة، ولن يكون بمقدور الثقافة التي نجت بجلدها الى الخارج تضميد بعض جراحها وهي تحمل إرث تلك العقائد الواحدية، وإرث المثقف الذي لا يعرف قلق الشك بعبادة الطواطم. الراية الحمراء التي يفاخر سعدي يوسف بحملها نيابة عن البياتي وبحر العلوم، هي التي جعلت قلمه يضيق برهافته التي كان ينبغي ان تقيه شر تطرف الكراهية، ليجمع حول مشروعه رحابة شعره وصوته الوديع الذي بمقدوره ان يمسح عن جبين الثقافة العراقية عذابات المصادرة والقسوة ونقص التسامح حتى مع الموتى. * كاتبة عراقية.