تدافعت حكايات النميمة عن عبدالوهاب البياتي قبل أن يرحل جمع الشعراء عن مدينة اللاذقية التي أقيم فيها مهرجان المحبة بأمسياته الشعرية. ولفت انتباهي المشاعر السلبية التي انطوى عليها الكثيرون إزاء البياتي، ونبرة الاستهجان التي كانت تختلط بالحديث عنه، وتدفع إلى ذكر مواقف ما كان يليق به أن يتّخذها، وأقوال ما كان ينبغي أن تصدر عنه، في علاقته بغيره من الشعراء. وبدا لي الأمر كما لو كان البياتي ترك في نفوس أغلب من عرفوه ذكريات غير بهيجة، سرعان ما خرجت من مكمنها في الذاكرة إلى العلن، وتحوّلت إلى حكايات وروايات تبارى الكثيرون في ذكرها بعد وفاته. وقد فرضت هذه الحكايات والروايات نفسها على المجالس التي جمعتني والشعراء أو المهتمين بالشعر ما بين مدن اللاذقية وحلب ودمشق في سورية. وحين عدت إلى القاهرة وجدت الحال فيها كالحال في دمشق، كما لو كانت استفزازات البياتي للآخرين، طوال حياته القلقة، سواء في أحاديثه الصحافية أو مواقفه الحياتية أو ردود فعله العدوانية أو هجائياته الشعرية، لم يمح الموت أثرها من القلوب والعقول، ولم تخفّف صدمة وفاته المفاجئة، أو موته غريباً في المنفى، من حدة المكبوت الذي سرعان ما انفجر على الأقلام والألسنة. واللافت في الأمر أن هذا الموقف السلبي من البياتي لم يقتصر على جماعة أدبية دون غيرها، بل جاوز ذلك إلى ما كاد يجعل منه قاسماً مشتركاً بين الفرقاء الفكريين أو الاخوة الأعداء في الفن. وازداد انتباهي لهذه الظاهرة، عندما شاهدت على قناة ANN برنامجاً ثقافياً خاصاً عن البياتي، استضاف مقدمه، الناقد خلدون الشمعة والشاعر فوزي كريم ليتحدثا عن البياتي من الاستوديو في لندن، ومعهما بواسطة الهاتف الشاعر سعدي يوسف الذي كان يتحدث من عمان. وتطرق الحوار إلى ضرورة تقييم حركة الشعر الحر بعد وفاة مجموعة من ممثليها الكبار، وإعادة النظر في منجزاتها التي تواصلت لنصف قرن على الأقل. وقد توقعت أن أستمع إلى ملاحظات موضوعية، سواء على مستوى الأفراد أو مستوى الجمع، أعني ملاحظات تتصل أولاً بالإنجاز الشعري للبياتي في مسيرته الإبداعية الطويلة التي بدأها بديوانه الأول "ملائكة وشياطين" 1950 وأنهاها بديوانه الأخير "نصوص شرقية" 1999. كما أعني ملاحظات تتصل - ثانياً - بعلاقة الإنجاز الشعري للبياتي بالإنجاز الشعري للحركة الإبداعية التي انتسب إليها، والتي جمعت الذين ولدوا قبله بثلاث سنوات من أمثال نازك الملائكة ونزار قباني، والذين ولدوا معه في السنة نفسها من أمثال بدر شاكر السياب وبلند الحيدري وجبرا إبراهيم جبرا، والذين ولدوا بعده بأربعة أعوام أو خمسة مثل أدونيس وصلاح عبدالصبور. وتطرق المتحدثون إلى ملاحظات دالة، منها أن البياتي بدأ متأخراً، وأنه مضى في المسار الذي استهلته نازك الملائكة. وكانت تلك ملاحظة صائبة بالفعل، فالبياتي نشر ديوانه "ملائكة وشياطين" سنة 1950، بعد سنوات ثلاث من انطلاقة نازك الملائكة التي سبقته بنشر ديوانها الأول "عاشقة الليل" سنة 1947، وديوانها الثاني "شظايا ورماد" سنة 1949. وكان ذلك في المسار الذي لازمها فيه بدر شاكر السياب الذي نشر ديوانه الأول "أزهار ذابلة" سنة 1947، بل المسار الذي مضى فيه بلند الحيدري الذي لم ينل حظه من العناية النقدية الخاصة باكتشاف البدايات، مع أنه أصدر ديوانه الأول "خفقة الطين" في بغداد 1946. وهو الديوان الذي ذكره بدر شاكر السياب مؤكداً، سنة 1953، أن هناك عدداً من الشعراء يكن لهم كل التقدير والإعجاب "وعلى رأسهم بلند الحيدري الذي كان ديوانه "خفقة الطين" أول ديوان صدر من ثلاثة دواوين، كانت فاتحة عهد جديد في الشعر العراقي، هي: "عاشقة الليل" لنازك الملائكة و"أزهار ذابلة" للسياب". وتعني شهادة السياب، ضمناً، أن البياتي لحق بالركب بعد أن كان الركب قد انطلق بالفعل، وأنه مضى في طريق سبقه إليه ثلاثة على الأقل من أقرانه. ولكن هل السبق الزمني، وحده، هو العامل الحاسم في تحديد درجة الإنجاز الشعري، أو درجات الاستمرار والمثابرة وتعميق المجرى والمحاورة مع التجارب الجديدة والإفادة منها في صياغة قصيدة تتطلع، دائماً، إلى مستقبلها؟ ذلك هو السؤال الجذري الذي أغفلته الندوة في إلحاح أغلب المشتركين فيها على التقليل من قيمة البياتي بالقياس إلى أقرانه. ولو سأل هؤلاء أنفسهم: لماذا تميز البياتي وظل يشغل الحياة ويثير القراء بشعره في الوقت الذي كان بلند الحيدري لا يواصل الانطلاق بالقدر نفسه، ويتحشرج صوته الإبداعي لأوقات طويلة، ومن ثم يبهت حضوره وتأثيره شيئاً فشيئاً؟ وكان يمكن لأحد المشاركين في الندوة، بالطبع، أن يتوقف على انحياز السياب لبلند الحيدري دون البياتي، وتعريضه بالواقعية التي حاول أن ينتسب إليها البياتي، والتي لم ير فيها السياب سوى خطابة سياسية لا تعرف إلاّ المفهوم السطحي للواقعية. ولكن ما ألمح به السياب إلى البياتي في الخمسينات لا ينطبق على البياتي ابتداء من النصف الثاني للستينات، حيث تحوّل شعر البياتي وفارق مطلقاته التقليدية شيئاً فشيئاً، ودخل منطقة الشعر التي تلتبس فيها الرؤيا ما بين الذي يأتي ولا يأتي. ولكن يبدو أن عدم الإعداد الجيد للندوة تركها تمضي مع تداعيات الكلام، ومن ثم تداعيات المشاعر التي سرعان ما غلب عليها طابع السلب، خصوصاً في كلام صديقي سعدي يوسف الذي كاد ينفي صفة الشعرية عن البياتي، وغمز في ثقافته كما غمز في سلوكه، مؤكداً أنه يعرفه منذ الخمسينات ولا يذكر أنه تحدث معه مرة في شأن ثقافي، واستشهد بالصديق خلدون الشمعة لكي يبرز، بدوره، الإسهام السلبي للبياتي في المناخ الشعري. وعندما اتصل، هاتفياً، مستمع يرى أن أهم ما تركه البياتي هو ديواناه "قصائد حب على بوابات العالم السبع" و"قمر شيراز"، رفض سعدي هذا الرأي مؤكداً إفادة البياتي فيهما من شكل "القصيدة المدورة" التي ألحّ عليها حسب الشيخ جعفر. وكان المعنى المضمر أن البياتي يدين بأفضل ما يمتاز به إلى غيره من الشعراء الذين سبقوه مهما كان الجيل الذي ينتسبون إليه. وللأسف، مضت الندوة في هذا الاتجاه السلبي الذي انصرف إلى شخص الشاعر أكثر من الشعر. ولذلك لم يتطرق واحد من المتحدثين على نحو عميق إلى خصوصية قصيدة البياتي والملامح المائزة لإنجازه الشعري، بعيداً عن شخصه. وللأمانة حاول خلدون الشمعة أن يقوم ببعض ذلك، لكنه كان يقاطع كلما مضى في اتجاه العمق، كي يعود الحديث إلى مثالب البىاتي الشخصىة. وبقدر ما أحزنني كلام سعدي ىوسف بوجه خاص، بسبب تغلىبه الذاتي على الموضوعي، والشخصي على الشعري، كنت أتمنى أن ىعطى خلدون الشمعة وقتاً أطول لىتحدث عن أقنعة البىاتي التي نفى عنها سعدي صفة الأقنعة في اندفاعته الانفعالىة لنفي القىمة الشعرية عن البىاتي. الغرىب أن ما حدث في هذه الندوة حدث في الكثىر من المقالات التي كتبت عن البىاتي، وبعضها كتبه من كان على صلة وثىقة به طوال حىاته. ومن هذه المقالات، مثلاً، ما كتبه شاكر نوري في "القدس" عدد 11/8/99 تحت عنوان "في تذكر عبدالوهاب البىاتي". ولفت نظري ما ذكره من أن البىاتي "لم ىكن ىتوقف عن إطلاق رصاصاته على الآخرىن أحىاء كانوا أم أمواتاً. وهذه صفة لصقت به إلى آخر أىامه". كما استوقفني ما كتبه عن "نمىمة" البىاتي التي تحولت إلى ظاهرة معروفة للجمىع، خصوصاً بطابعها الذي "ىمتزج فيه الخبث واللؤم"، فضلاً عن "أن البىاتي كان ىطرب لسماع الأخبار السىئة عن خصومه" وأن طول لسانه كسلوكه المستفز ىرجع "إلى بىئته الشعبىة التي ترعرع فيها". ولا تختلف مقالة "القدس" في مغزاها العام، جذرىاً، عن مقالة الشاعر الصدىق قاسم حداد التي نشرها في "البىان" الإماراتىة 16/8/1999. ولا شيء في المقال عن شعر البىاتي سوى الاستحواذ المبكر للتعبىر الحماسي المتمرد الذي استغرق شعر البىاتي إلى الستىنات على الأقل، من قبل أن ىستدرك نفسه وىنتقل بتجربته من الشعار السىاسي إلى العناصر الحدىثة من الكتابة الشعرية. ولكن قاسم سرعان ما ىستدرك بتأكىد أن البىاتي ظل ىكرر تجربته مع هذه العناصر طوال العشرىن سنة الماضىة، وأنه لم ىتخل، قط، عن شهوة الاستحواذ على الحضور الشخصي والفردي الذي تولع به، وأنه استطاع بمماحكاته ومعاركه الصحافية أن ىواصل حضوره في المشهد الثقافي بالصورة التي أوشك أن ىقصر عن تحقىقها نصه الشعري. وفي موازاة قاسم حداد، ىمضي أحمد عبدالمعطي حجازي في المقالة التي نشرها في ملحق "آفاق" من جرىدة "الحىاة" 18/8/1999 تحت عنوان "محاولة لفهم الشاعر الذي ىأتي ولا ىأتي". والعنوان نفسه دال حتى في التباسه الذي ىقرن، عامداً، الشاعر بالذي ىأتي ولا ىأتي، عنوان دىوان البىاتي الذي أصبح دالاً على التباس حضوره من حىث هو شاعر. وىكشف حجازي الالتباس بما ىذهب إلىه من أن الخمسىنات هي مجد البىاتي ونسبه العرىق، فقد كانت لغته فيها متوافقة مع حركته، وتنبؤاته صادقة مع أىامه. ولكن في ما عدا ذلك، فالبىاتي ضحىة وهم كبىر دفعه إلىه الذين شبهوا شعره بشعر ناظم حكمت وماىاكوفسكي، وجعلوه مساوىاً لإلىوت وأودن وغىرهما، فدفعوه إلى أن ىكتب لىحقق صورة الوهم الذي أشىع "ولو بشيء من التلفيق الذي ىبهر معظم القراء". ولم ىنس إبراهىم أصلان في لوحته القلمىة الدالة أن ىنطق ما سكت حجازي عن ذكره صراحة، وىذكرنا بأنه عشق البىاتي، هو وأقرانه الذين رافقوا البىاتي في أىامه القاهرىة، للأسباب نفسها التي أخذها علىه الكثىرون، يعني مناكفاته وعملىات التشهىر الجمىلة التي لم ىنج منها أحد، فضلاً عن ابتكاراته الجارحة التي تملأ القلب بالبهجة. ولم أكن أنتظر من صدىقي إبراهىم أصلان المبدع المتمىز أن ىتحدث حدىث النقاد، ولكن ما لفت انتباهي هو تركىزه على عملىات التشهىر الجمىلة؟! التي لم ىكف عنها البىاتي الذي لم ىنج أحد من لسانه، وهي العملىات التي رأى فيها قاسم حداد نوعاً من الفولكلور الذي أصبح ىمىز المشهد الثقافي العربي في الهزىع الأخىر من القرن، والذي برع فيه البىاتي براعة منقطعة النظىر، خصوصاً في ابتكاراته الهجائىة التي لم ىنج منها قاسم حداد نفسه. ولا أرىد أن استطرد بذكر المزىد من النماذج الدالة على ما افتتحت به هذه المقالة، فما ذكرته مثال على غىره الذي لم أذكره في الدلالة العامة التي أرىد توصىلها إلى القارئ، وهي أن الحدىث عن البىاتي "الشخص" غلب الحدىث عن البىاتي "الشاعر"، وأسقط ظل الأول على الثاني بما جعل من الصفات السلبىة للشخص صفات سلبىة في الشعر. وكانت النتىجة وفرة من التعلىقات والمقالات التي لم أذكرها لمجاوزتها حدود اللىاقة الإنسانىة، والتي أخذ أصحابها بثأرهم من البىاتي الشخص لا الشاعر، وانتقموا من الكتابة بسبب سوء رأىهم في الكاتب، فتحدثوا عن البىاتي الهجّاء، النمّام، الماكر، الخبىث، المنافق، الانتهازي، الكذاب، كما لو كانوا ىتحدثون عن شىطان آبق، ولىس عن شاعر كبىر قرأته أجىال متعاقبة، وهي تفك خط الكتابة الشعرية، وتبادلت دواوىنه كما تبادلت الإشادة ببعض قصائده التي تحولت إلى علامات دالة في مسىرة حركة الشعر الحر. ولا أرىد أن أذكِّر أحداً بمبدأ: أذكروا محاسن موتاكم، وإنما أرىد التذكىر بمبدأ نقدي أصّله الناقد العربي القدىم قدامة بن جعفر في كتابه "نقد الشعر"، وكان ذلك حىن قال: "وأحسب أنه اختلط على كثىر من الناس وصف الشعر بوصف الشاعر فلم ىكادوا ىفرقون بىنهما". وما قاله قدامة، قدىماً، لا ىفترق جذرىاً عن المبدأ الذي كشف عنه ومارسه جورج لوكاش، حدىثاً، عندما أبرز، في تقالىد النظرىة الأدبىة الماركسىة، ضرورة نفي التطابق بىن الوعي الإىدىولوجي والإدراك الجمالي، مؤكداً إمكان استقلال كل منهما عن الآخر، ومن ثم التسلىم بأن الوعي الرجعي ىمكن أن ىجاوزه على نحو تقدمي الإدراك الجمالي للكاتب نفسه، كما في حال بلزاك الشهىرة وحال ت. إس. إلىوت الأحدث، الأمر الذي ىعني أن الإىدىولوجىا الشخصىة للكاتب لا تسىر، عادة، جنباً إلى جنب، أو على نحو متكافئ مع نصوصه الإبداعىة. والواقع أن ما حدث في حال البىاتي هو الخلط الشدىد بىن حضور الشعر من حىث هو إبداع ىجاوز صاحبه وحضور الشاعر من حىث هو إنسان متمىز عن قصائده، وكذلك إسقاط الشخصي عن الموضوعي، وإىدىولوجىا الكاتب الذاتىة وأخلاقه على قصائده وإبداعاته. ولا أرىد أن أدافع عن البىاتي في سلوكه الذي كان محل مؤاخذة الكثىرىن، ولكن السلوك الشخصي لىس مقىاساً للشعرىة، ولىس معىاراً نقدىاً نحدد به الإنجاز الإبداعي سواء من المنظور التارىخي أو المنظور الفني. وأضيف إلى ذلك أنه لا ىؤمن بالتطابق بىن المنجز الإبداعي وشخصىة صاحبه، ومن ثم التداخل بىن الاثنىن، إلاّ من لا ىزال منتسباً إلى التصورات الأولىة الساذجة لنظرىة التعبىر، تلك التي تعوّد أصحابها استخراج صورة الشاعر الإنسان أو الشخص من شعره. وما ىعنىنا في البىاتي، آخر الأمر، هو إنجازه الإبداعي الذي ىنبغي أن نضعه في سىاق تولده وسىاق تحولاته عبر ممارسة استمرت نصف قرن، ونكشف عن إىجابىاته وسلبىاته من منظور كونه واحداً من أبرز الذين أسهموا في حركة الشعر الحر التي تراكمت إنجازاتها من دون تقىىم حقىقي أو موضوعي.