في كل مرة يكتب سعدي يوسف كلمات هجاء، أضع يدي على قلبي، لا خوفاً على من يهجوهم، بل خوفاً عليه. خوفاً على الشعر الذي كتبه، وعلى الإنسان الهادئ الحيي الذي عرفته أيام العراق. كل من هجاهم سعدي يوسف حاولوا إيجاد تفسيرات منطقية لهجائه، ولكنهم يدركون غفلتهم حين يضعون الحجة السياسية أو الشخصية أو الطائفية، منطلقاً لفهم شتائمه. فالشيوعي الأخير يرمي حجارته على الكل، مثل طفل عابث، لا يعرف تبعات من يبصق على السماء فترتد بصقته على وجهه. سعدي يوسف يعبث مع الوقت الضائع من عمره الشعري، ويلهو مع تاريخه الشخصي، فهناك حدود للكلام، وهناك أدب للاختلاف عليه معرفته قبل أن يكتب بهذه الطريقة، التي أقل ما يقال عنها إنها تصدر عن رجل يستهين بقدرته على استخدام عقله. فما من شتيمة أطلقها إلا وغدت تبعث على الأسى والرثاء لرجل جاوز الثمانين، وعركته التجارب، والعمر والتجربة دائماً لهما اعتبارات شتى، وما أفدح أن يخذلنا العمر ونحن لا نملك من الدنيا سوى كيس حجارة نرميه بوجه كل عابر سبيل. مرة خاصمت سعدي لأنه تعرّض في قصيدة مضحكة إلى مجموعة الأدباء العراقيين الذين احتضنوه بعد أن حل بلندن، وحصل مثلهم على حق اللجوء السياسي، فكانت تلك الخطوة مدعاة لشتم من أسماهم «الذين يعيشون على موائد الأجنبي». كتبت كلمة في «الحياة» حاولت تفسير قصيدته على أنها جزء من الوعي الشقي للمثقف. بعد كل هذا الوقت، أجد نفسي على خطأ، لأن عدوانية سعدي على الأقربين والأبعدين، غدت سعادة من سعادات ذئب البراري الذي يسكن قلب هذا الإنسان المتوحد الذي أدمن الغياب عن نفسه. فالكحول والوحشة والفراغ الذي يعيشه والشعور بالنقصان، كلها تحوّل الشتائم إلى ملاذات من الهجر والنسيان. في كل مرة أستذكر ما قاله لي في لقاء صادفني بعد الذي كتبت عنه: لماذا تأخذين كلامي على محمل الجد، فأنا أمزح فقط. كنت أقول لنفسي، لو أستطيع أن أعتذر عنه، أو يكون بمقدوري أن أردّ عنه نفسه الأمّارة بالخراب، فسعدي لا يستأهل هذا المصير. وحيث لم أفلح إلى اليوم في استنهاض ذرة كراهية له، مثلما الكثير من الأصدقاء الذين كان سعدي جزءاً من إرثهم الشخصي والأدبي، فسيكون بمقدوري أن أرثيه، وأنا أجده على تعب بعد كل هذه الرحلة المضنية مع الأدب والحياة. سينسى عبارته عن المزحة التي يمارسها محض كراهية يطلقها دون حساب، فله الآن ثارات مع كل الناس، وعليه أن يصفّي حساباته مع من يخالفه الرأي. ولكن هل لسعدي يوسف آراء جديرة بالنقاش؟ بالطبع، فهو الرافض لمطلب الناس بالديمقراطية، لأن الديمقراطية بضاعة إمبريالية. فليكن له هذا الرأي، ولكن هل افتقد الحجة، وهو الأديب والمثقف، كي يكتب شتائم كمن يقف على رأس زقاق من أزقة البؤس في عالمنا العربي. هل خذلته معرفته بالكلمات، وهو يلعب بالمضحكات من الأقوال، وهل وصل به الغرور حد قذف عيوبه على الآخرين؟ فما من ممارسة عيّر بها الناس إلا وكان مبتكرها، وما من عيب في الخلقة والهيئة تنابز به، إلا وكان يملك منه أضعافاً مضاعفة. لعل الذين لم يتحفهم الرب بهيئة سعدي البهية، جديرون بالرحمة والعطف، قبل أن يتواضع سعدي ويقبل بخلقتهم. والحق أن شاعرنا لا يحتاج التسول على أبواب محمود درويش، كي يُسكت الناس بتاريخه النضالي، فالنضال غدا خرقة يتمسح بها الطباخون في أروقة الأحزاب والتنظيمات التي مضت من فوات إلى حتفها. لعل الثورة الشبابية، سواء خذلها الناس أم انتصروا لها، خير دليل على بؤس المآل الذي انتهت إليه الأفكار العتيقة التي يتشبث بها سعدي يوسف. الماركسية التي كانت من علامات عصرنا، ومر تحت رايتها الكثير من مفكري الغرب وفلاسفته، سواء الذين انسلخوا عنها، أو الذين أغنوها باجتهادات تنتصر للإنسان والحياة، جديرة بألا تتحول على يد من يحسب نفسه الشيوعي الأخير، إلى هراوة تقع على رؤوس الخلق دون رحمة. فما تحتاجه الماركسية اليوم هو أن لا تنسى تلك التواريخ التي مسخت وجهها الإنساني، وحولّتها إلى معتقلات ومشانق وعذابات متصلة لكل الشعوب التي رفعت حكوماتها راية الشيوعية وعاثت في الأرض فساداً وقهراً. فإن كان سعدي يوسف لا يجد من إرث الماركسية سوى صورة الأنظمة التي يدافع عنها اليوم، فله الحق في استخدام وسائلها، فما من حجة تُسكت السادرين في حلم التغيير، سوى الانتصار لشتيمة مارسها الجلادون بحق معارضيهم، قبل أن يخرسوهم بالرصاص.