توشك المواجهة بين العرب والاسرائيليين ان تشهد تحولاً هو الأكثر خطورة اطلاقاً خلال 103 سنوات من تاريخ الصهيونية الحديثة. واذا صحت توقعاتي، بالاستناد على دراستي لجولات سابقة من المحادثات الاسرائيلية السورية بين عامي 1991 و 1996، وعلى قراءتي للتطورات في منتصف كانون الاول ديسمبر 1999، فإن اسرائيل ستتوصل قريباً الى اتفاقات سلام مع سورية ولبنان، وعندئذ لن تكون في حال حرب مع اي دولة على حدودها. واذا استمر بعدذاك اي تنافس بين اسرائيل وجيرانها العرب فإنه سيكون تنافساً في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية - لكن ليس تنافساً عسكرياً. يمثل تحول بهذه الدرجة من العمق تحدياً هائلاً لكل الاطراف المعنيين. فهذا التحول يؤثر في الطريقة التي ينظر بها، ويفكر بها، ويتعامل وفقها الافراد والقيادات الوطنية مع "العدو السابق، والشريك الآن في السلام". لكنه يؤثر ايضاً، بشكل محتوم، في الطريقة التي ينظر هؤلاء الاطراف ويقدرون بها انفسهم. ليس من السهل لأي شخص ان يتحول من استخدام طريقة الحساب التي تقوم على السؤال "هل انا بطل المواجهة والصمود الوطنيين؟" الى "هل انا بطل السلام العادل والقابل للبقاء؟" او ربما ينبغي ان نتطلع الى عصر لما بعد البطولة، يتساءل فيه المرء "هل انا بنّاء فاعل للسلام العادل والقابل للبقاء؟". بدأ كثيرون في النخب السياسية المصرية والفلسطينية والاردنية يواجهون، على مستوى معين، هذا التحدي. وبدأ كثيرون في النخبة الاسرائيلية يواجهون هذا التحدي، في ما يتعلق ب "اعدائهم السابقين، وشركائهم الآن في السلام" في مصر والاردن ووسط القيادة الفلسطينية. لكن الاسرائيليين لم يضعوا موضع تشكيك عميق، حتى الآن، رؤيتهم "التقليدية" لأنفسهم كمواطني دولة صغيرة محصنة يهددها اعداء متربصون على حدودها. هذا التحدي سيفرضه عليهم احتمال سلام وشيك مع سورية ولبنان. "التطبيع" اذاً ليس تحدياً للعرب فحسب، بل للاسرائيليين ايضاً! حسب فهمي للخوف من "التطبيع" بالنسبة الى كثيرين من العرب، فإنه خوف من انك اذا بدأت تمنح الاسرائيليين انواعاً معينة من الاعتراف فإنك عندئذ تخون بمعنى ما القضية العربية، او القضية الفلسطينية - وهي قضية مهمة بالنسبة اليك، وربما مات من اجلها كثيرون من اصدقائك وعانوا الكثير بسببها على مدى العقود الماضية وبالتالي فإنك ستخون تضحياتهم ايضاً. ما هي انواع "الاعتراف" التي تولّد هذه المخاوف من الخيانة؟ الاعتراف الرسمي، نعم، الى حد ما. لكن هناك، عدا ذلك، اشكالاً كثيرة من الاعتراف الشخصي والثقافي. يبدو الاعتراف بالاسرائيليين اليهود كاشخاص - بالترحيب بهم او المساهمة في عمل مشترك معهم، حتى في اماكن "محايدة" - اشبه بخطوة كبيرة. ويمثل منح اي اعتراف لثقافتهم العبرية المميزة تحدياً آخر، يمكن ان يبدو كتحدٍ صعب. يمكن ان اكتب أكثر بكثير عن تفاصيل التحدي الذي يرى كثيرون من العرب ان "تطبيع" العلاقات مع اسرائيل يجسّده. لكن يمكن ان اكتب ايضاً عن قناعتي بأن من الممكن تماماً اللقاء بآخرين والتحدث اليهم والاستماع الى وجهات نظرهم، حتى استعمال لغتهم، من دون ان يفقد المرء بأي شكل قناعاته وثقافته او احساسه بالكرامة. لكنني متأكدة بأن معظم قراء "الحياة" يمكن ان يكتبوا حول هذا الموضوع بسعة اطلاع وعمق اكبر بكثير. ما اريد ان اكتب بشأنه هنا هو تحدي "التطبيع" الذي سيواجه اسرائيليين كثيرين عندما لا يعودون ينظرون الى انفسهم "كمواطني دولة صغيرة محصنة يهددها اعداء متربصون على حدودها". كيف سينظر الاسرائيليون الى انفسهم عندما لا تعود الحال هكذا؟ ما هي خياراتهم؟ هل يمكن ان يستمروا في النظر الى انفسهم باعتبارهم يمثلون بشكل ما "مخفراً امامياًً للحضارة" يتصدى ل "قوى ظلامية عدوانية"؟ لا شك ان بعض الاسرائيليين سيسعى الى التمسك بهذا النوع القديم من جنون الارتياب، هذا الاحساس بعدم الامان الذي منحهم - على نحو ينطوي على مفارقة - نوعاً من الامان لمجرد انه مألوف جداً لديهم. ومع ذلك، فان كل شعب يضم بعض الاشخاص المصابين بجنون الارتياب! اذا كانوا يريدون حقاً التمسك بهذا الاحساس من عدم الامان، لا يزال في امكانهم ان يصوغوه بشكل عسكري - ربما بتصوير اسرائيل كمخفر امامي في مواجهة تهديدات صاروخية ايرانية او عراقية؟ ومن المؤكد ان كثيرين في المجمع العسكري - الصناعي المنتفخ في اسرائيل سيحاولون، لدوافع اقتصادية، ان يديموا هذا النوع من جنون الارتياب العسكري. لكن "اهداف" مثل هذا النوع من جنون الارتياب ستكون بعيدة نوعاً ما عن حدود اسرائيل، والارجح انها لن تتمتع بصدقية مباشرة. فالعراق لا يزال مقيداً ويقاسي منذ حوالي عقد من السنين. والايرانيون يواصلون بحذر التعبير عن اهتمامهم بتحسين العلاقات مع الغرب - وكذلك، على نحو لا يقل اهمية، عن تأييدهم لمحادثات السلام الاسرائيلية - السورية. البديل هو ان يلجأ الاسرائيليون الذين يريدون التمسك باحساسهم المألوف بعدم الامان الى صياغته بشكل سياسي - ثقافي. ربما بتصوير اسرائيل كمخفر امامي للديموقراطية الموالية للغرب في مواجهة القوى الظلامية للرجعية السياسية والاصولية الاسلامية. سيسعى بعض الاسرائيليين، كما قلت، الى التمسك باحساسهم القديم بعدم الامان. لكن ايهود باراك لن يكون، وفقاً لكل التقديرات، واحداً من هؤلاء. فمنذ ان اصبح رئىساً للوزراء، دأب على ابلاغ مواطنيه انه لا يوجد اي سبب يدعوهم الى الاستمرار في النظر الى وضعهم عبر عدسة انعدام الامان. فهم ليسوا بحاجة لأن يفكروا في انفسهم دائماً كضحايا! وباستطاعتهم ان يكونوا اقوياء بما يكفي وواثقين بأنفسهم بما يكفي لأن يتوصلوا الى سلام مع جيرانهم! هذه كلها اشياء لم يألف الاسرائيليون سماعها، وخصوصاً من زعيمهم بالذات. مكاشفة باراك للاسرائيليين بشأن الحاجة الى التصدي والتغلب على الاحساس بعدم الامان المتأصل بقوة في ماضيهم جعلته يمتاز عن آخر اسلافه. فهو يختلف عن نتانياهو الذي كان لا يتردد في تأجيج الاحساس بالخوف لدى الاسرائيليين ازاء جيرانهم الى مديات لم يبلغها من قبل. كما يختلف عن بيريز الذي حاول ان يتجاهل حقيقة ان اسرائيليين كثيرين لا يزالون يحتفظون باحساس عميق من عدم الامان، وسعى الى اخفائها خلف طبقات سميكة من طلاء "وردي اللون" حول عجائب الحياة في "الشرق الاوسط الجديد" الذي كان يبشّر به. ويختلف باراك عن رابين، فاذا كان الاخير حاول فعلاً ان يعيد صوغ اراء الاسرائيليين بشأن امنهم القوميي، فإنه لم يفعل ذلك إلاّ خلسة، بطريقته الكتومة المعتادة. واذا كان باراك صريحاً بدعوته للاسرائيليين لأن يفكروا بأنفسهم بطريقة جديدة تعبّر عن ثقة اكبر بالنفس، فإنه بدأ ايضاً يستحثهم على ان يفكروا بأشكال جديدة، اكثر حساسية، في نوع العلاقة التي يمكن ان يتطلعوا اليها مع شركائهم في محادثات السلام. وفي الوقت الذي لم يتحدث فيه رابين اطلاقاً عن "العلاقات"، ربما ذهب بيريز ابعد مما يجب في الاتجاه الاخر بكلامه عن عجائب "الشرق الاوسط الجديد"، حتى قبل ان تُحل القضايا الاساسية. واعتبر كثرة من الاسرائىليين كلام بيريز بأنه مجرد احلام طوباوية. وبدا بيريز والكثيرون من مساعديه عاجزين او غير مستعدين للإنصات عندما كان اصدقاء يقولون لهم ان كثرة من العرب - حتى اولئك الذين كانوا صادقين بشأن السعي الى سلام مع اسرائيل - ينظرون هم ايضاً بحذر الى كلامه عن "الشرق الاوسط الجديد". فقد كانوا يخشون الاّ يكون هذا "الشرق الاوسط الجديد" سوى غطاء لهيمنة اقتصادية اسرائيلية في المستقبل تحت اسم آخر. اذا كان هناك من يريد ان يبني حقاً علاقة جيدة مع شخص آخر، فإن اظهار حسن الاستماع هو خطوة اولى اساسية. ولسوء حظ بيريز كانت تلك خطوة لم يقدم عليها ابداً. وعلى رغم سجل باراك كبطل عسكري فانه حسب ما يبدو يجيد الاصغاء - لشعبه ولشركائه في صنع السلام - على نحو افضل بكثير من بيريز. هكذا، بدلاً من الكلام المبالغ فيه حول "شرق اوسط جديد"، يتحدث باراك بمعقولية اكبر عن الحاجة الى التبادلية، والى تبادلية المصالح والاحترام. ان التفاعل بين تأثير القيادة والميول الكامنة العميقة شىء مثير للاهتمام دائماً. ويظهر الرئيس الاسد ورئىس الوزراء باراك على المسار الاسرائيلي السوري، في الوقت الحاضر، حسب ما يبدو قيادة جيدة تستند بشكل ايجابي الى ميول كامنة في كلا المجتمعين، في اتجاه انهاء حال الحرب بين العرب والاسرائيليين. نعم، ستبقى بالطبع، حتى بعد ان تتوصل سورية ولبنان الى السلام مع اسرائيل، تحديات اخرى هائلة في المشرق، وفي مقدم هذه التحديات السعي الى تسوية عادلة وقابلة للبقاء للقضية الفلسطينية. لكن انهاء حال الحرب القائمة بين اسرائيل من جهة وسورية ولبنان من جهة اخرى، يمكن ان يدعم هذه العملية، باشكال كثيرة. فهذه الخطوة يمكن ان تنشىء سابقات مفيدة، مثل الانسحاب الاسرائيلي الكامل، واجلاء المستوطنات، والعودة الكاملة للاجئين، والغاء اجراءات الالحاق والضم. ويمكن ان تقوي الائتلاف المؤيد لتلبية حاجات الفلسطينيين وسط الدول العربية التي ترتبط باتفاقات سلام مع اسرائيل. لكن ما هو اكثر اهمية انها ستزيل من ايدي الاسرائيليين اخر بقايا حجة "الامن القومي" التي استخدموها على امتداد تاريخهم كي يتجنبوا الايفاء بالتزاماتهم للفلسطينيين. لن تواجه اسرائيل، كدولة، عندئذ اي خطر عسكري يهدد وجودها. لذا لن يكون باستطاعة الاسرائيليين، كشعب، ان يستمروا في التستر وراء هذه الحجة. وسيكون التحدي الذي يواجهوه، عندئذ، هو ان يتعاملوا مع كل الفلسطينيين - اولئك الموجودين خارج فلسطين الاصلية وداخلها ايضاً - كبشر كاملين يجب ان تلبى بشكل عاجل كل حقوق الانسان والحقوق السياسية العائدة لهم. * كاتبة بريطانية متخصصة في شؤون الشرق الاوسط.