كان من الممكن ان تشهد شعوب المشرق، في النصف الأول من عام 1999 الجاري، عدم استقرار وتقلبات تشبه تماماً تقلبات عربات الافعوانية سكة حديد مرتفعة - عادة ما تكون في مدينة للملاهي - تتلوى وتنخفض وترتفع وتجري فوقها عربات صغيرة، حتى من دون "الانقلاب" الذي حصل في الاردن. فاسرائيل ستشهد انتخابات عامة في خلال هذا النصف، مع كل ما قد يتسبب فيه موسم الانتخابات نفسه من شكوك وغموض، ناهيك عما ستسفر عنه هذه الانتخابات من اضطراب وشكوك، مثلها في ذلك مثل الانتخابات في تركيا. كما سيشهد النصف الأول من العام الجاري الفراغ الكبير الهائل في سياسات الاميركيين والعالم العربي حيال عراق ما بعد لجنة اونسكوم. لكن الاضطراب الاكبر الذي ستشهده المنطقة والذي سيؤثر فيها هو ذلك الناشئ من غموض الموقف، والشكوك، في اسرائيل. فالحدث الأهم في هذه الدولة الذي يتبلور هو الحرب التي تخوضها ثلاثة اطراف بغية الحصول على رئاسة وزراء الدولة. وهذه الاطراف هي نتانياهو والجنرالان. لكن هل هذه المعركة هي معركة يبدأها الجنرال باراك متمتعاً بميزة، لأنه بخلاف خصميه، يستمد دعماً من حزب راسخ غير مفسّخ وسليم؟ لا، كلا. فقد يكون نتانياهو مزّق اللحمة السياسية لليكود لكنه استبقى ما يكفي من الحرس القديم - شارون وأرينز الخ... - ما مكّنه من استبقاء اسس آلة سياسية اسرائيلية عامة. والأهم من هذا ان في وسعه الاعتماد على حصوله على دعم اكبر بكثير من الدعم الذي يمكن ان يحصل عليه الجنرال باراك او الجنرال موردخاي من المقترعين الاسرائيليين المتدينين الحريصين على التقيد بأحكام الشريعة اليهودية الذين لا يستهان أبداً بعددهم. وبالاضافة الى هذا، تعلّمنا مما حدث منذ ثلاث سنوات ان نتانياهو خبير في شن الحملات الانتخابية في نظام اسرائيل الجديد الذي يركّز كثيراً على الانتخابات الشخصية التي تشبه الانتخابات الرئاسية الاميركية وغيرها، اي يركز على شخصية المرشح لرئاسة الوزراء. ومنذ ثلاث سنوات كان خصم نتانياهو السياسي شيمون بيريز الذي تخيّل خطأ ان خبرته الطويلة في عالم السياسة وقوة حزب العمال حزبه ستمنحاه نصراً سهلاً سريعاً. لكن نتانياهو يعارك الآن باراك، الذي اظهر حتى الآن ان حنكته السياسية تشبه حنكة فيل لم يعد في وسعه استخدام عقله بما يفيد وينفع، وموردخاي الذي قد يكون محنكاً سياسياً واستراتيجياً لكنه يفتقر الى منظمة او تنظيم سياسي يدعمه ويقف وراءه. وقد تشير استطلاعات الرأي المبكرة الى تقدم نتانياهو على خصميه ما قد يجعله لا يشعر بالحاجة الى شن هجوم عسكري على لبنان يعزز مكانته الانتخابية؟ وإذا حصل هذا فستكون المرة الأولى تقريباً في تاريخ الانتخابات الاسرائيلية الحديثة اذ يجب علينا ان نتذكر 1981 و1985 و1996 الخ... وإذا قرر بيبي شن هجوم على لبنان، بصرف النظر عن طبيعة هذا الهجوم، فما هو نوع الرد الذي في وسعنا ان ننتظره من واشنطن؟ فاذا نظر المرء الى الوضع الفوضوي الذي تعيشه العاصمة الاميركية، لخلص الى القول ان واشنطن لن ترد أبداً في اتجاه لجم اي عدوان قد يختاره نتانياهو. وبالاضافة الى هذا يمكن نتانياهو ان يدّعي، مع بعض الصحة لادعائه، ان الكلينتونيين أمدّوا بيريز بالدعم كله الذي كان يحتاج اليه عام 1996 لكي يشن هجومه الكاسح على لبنان. وإذا اعطى الكلينتونيون نتانياهو أقل مما اعطوا بيريز فسيكونون كمن يمارس نفاقاً كبيراً جداً ويظهر تحيزاً ضد ليكود. ولو كنت ممن يهوون المراهنة، وأنا لست منهم، لراهنت بمبلغ كبير، الآن، على ان نتانياهو سيفوز في الانتخابات الاسرائيلية المقبلة بسهولة تامة. وأنا اعتقد ان في وسعه الحصول على دعم كاف اكثر من 50 في المئة من الاصوات في الدورة الأولى، وانه لن يحتاج الى خوض دورة ثانية ضد اي من المرشحين الآخرين. وإذا فاز نتانياهو بأكثرية كبيرة فسيصبح في وسعه الادعاء، على نحو ذي صدقية، بأنه "يمثل ارادة الشعب الاسرائيلي" وفي وسعه ان يواصل تغيير الوزراء حسب ما تمليه عليه اهواؤه الشخصية. وفي وسعه أيضاً تصليب موقفه الى حد بعيد حيال "عملية السلام" والى أبعد مما شهدناه حتى الآن. ومَنْ من الذين يحكمون في واشنطن 1999/ 2000 سيختار مجابهته؟ والاتجاه طويل المدى المهيمن على المجتمع اليهودي الاسرائيلي حالياً يمالئ بيبي بقوة ويشير الى بروز اكثرية دائمة وتزداد لصالح المتدينين. طبعاً الى ان يجد المتدينون شخصاً آخر اكثر يمينية او حتما اكثر تديناً من نتانياهو ليمدوه بدعمهم، رغم ان نتانياهو يفعل ما يريدون على نحو جيد، كما انه يوفر لهم ما يبدو وكأنه واجهة حديثة معاصرة لمشاريعهم المغالية في القبلية والتي تنتمي الى العصور الوسطى. وإذا فاز نتانياهو عى نحو بيّن في خلال العام الجاري، فقد يأذن هذا بانتهاء مقدرة حزب العمل أو أي حزب علماني صريح آخر على ان يقدم نفسه منافساً ذا صدقية على السلطة العليا في اسرائيل. وقد يصبح العلمانيون، الذين يرغبون في علمنة اسرائيل، عنصراً مهدداً بالزوال، في مجتمع يهودي اسرائيلي، كداعمين ناشطين لعلاقات متبادلة كيّسة انسانية مع جيران اسرائيل العرب. وإذا فاز نتانياهو في الانتخابات ولا أقول حتى الآن عندما يفوز، اعتقد اننا نعرف ما في وسعنا ان نتوقعه حيال "عملية السلام". فهذه العملية ستتجمّد نهائياً على الجبهتين الفلسطينية والسورية، علماً بأن في وسع السوريين ان يتعايشوا مع اطالة أمد أو فترة الوضع الحالي الى حد بعيد كما فعلوا منذ 1974. ومن البيّن انه سيتعيّن عندئذ على زعامة فلسطينية ملتزمة اتفاقات اوسلو ان تواجه اوقاتاً صعبة جداً. فمنذ 1974 سعت هذه الزعامة الفلسطينية الى تحقيق أو انشاء "كيان" فلسطيني في داخل الأراضي المحتلة يتساكن مع دولة اسرائيل الحالية. وفي خلال ربع القرن الماضي تقلّصت حدود هذا الكيان على مراحل. فبعدما كان الكيان "سلطة وطنية" رُسمت كمحطة في الطريق الى انشاء دولة علمانية ديموقراطية اكبر، حدّد كدولة نهائية، لا كمحطة في الطريق الى أمر آخر، تضم الأراضي المحتلة كافة بما فيها القدسالشرقية. وأخيراً تطور الوضع الى وضع مكبّل مُذل ومقزَّم، اي ما اسفرت عنه اتفاقات اوسلو. وخلال هذه التطورات كافة صارعت الزعامة الفلسطينية في سبيل كيان "فلسطيني" خالص وفريد رغم معارضة التوسعيين الاسرائيليين والقوميين العرب الخالصين لكيان كهذا. وربما بالنظر الى ما اوصلت اليه هذه الرغبة من الزعامة الفلسطينية الفلسطينيين، حان الوقت الآن لاعادة النظر في اصرار الفلسطينيين على الانفراد بمسألتهم وفصلها عن المسائل العربية الاخرى وهو الانفراد الذي لم يوصله الا الى بانتستان فلسطينية. وكان في فكرة انشاء كيان فلسطيني خالص خير كثير. فقد كان محرك الفكرة الى حد ما رد فعل على، ودفاع ضد، محاولات من اسرائيل ومن الدول العربية اساءة معاملة الفلسطينيين سياسياً وجغرافياً. وكانت الغاية من فكرة انشاء "وطن قومي" للفلسطينيين يكون ملاذاً لهم كافة للشتات كله كما جعلت اسرائيل من نفسها ملاذاً ليهود العالم. وكانت الغاية ان يكون هذا "الوطن القومي الفلسطيني" ملاذاً للهوية الفلسطينية وللثقافة الفلسطينية للهوية والثقافة الفلسطينيتين. لكن لم يكن الهدف أبداً بانتستاناً هزيلاً يتمسك بأذيال اسرائيل وال "سي آي اي" وكالة الاستخبارات الاميركية كما يتمسك الغريق بقشة على امل البقاء في عداد الاحياء. فآباء التمسك بالهوية الفلسطينية الخاصة المؤسسون مثل أبو اياد وأبو جهاد والآخرين، الذين كانوا أول من نادى بفكرة انشاء سلطة فلسطينية عام 1974، لم يكن هذا كله ما رموا اليه. وبات من البيّن الآن ان الوقت حان للنظر في الخيارات المتاحة كافة، بالنظر الى ما حدث منذ 1974. وربما يجب ان تتضمن هذه الخيارات على الأقل بذل محاولة جدية للنظر في الحد الذي تبدي بقايا حركة السلام الاسرائيلية استعداداً للذهاب اليه في التحالف مع الفلسطينيين والاتفاق معهم على صيغة "صوت واحد لكل شخص" وإذا حصل تمسك مخلص بهذه الصيغة، وتمّ اعتبار الاسرائيليين والفلسطينيين كافة بشراً سوياً، فسيظهر نتانياهو، واليهود الذين يعتمدون القبعات السوداء ويطالبون بأقصى ما في وسعهم الحصول عليه بالطرق "التقليدية" الاسرائيلية، فوراً على انهم أقلية. وحتى لو عدّ المرء البشر كافة الذين يقيمون حالياً الى الغرب من النهر، لوجد، في اعتقادي، ان المغالين اليهود قلة اقلية رغم عدم وجود اي مبرر في القانون الدولي لحرمان اللاجئين الفلسطينيين من حق الاقتراع والمواطنة. فعندما قَبِل أبو عمار بعملية اوسلو لم يحرم اكثرية اللاجئين الفلسطينيين من حق المواطنة والاقتراع وحسب، بل حرم سكان المناطق المحتلة الفلسطينيين عملياً من القدرة على تقرير مصيرهم بأنفسهم من طريق "حبسهم" سياسياً ضمن الحدود التي تحد ادارة بانتستانية لا سلطة لها ولا قوة ولا حول. ولن تكون دعوة بقايا الجماعات الاسرائيلية المؤيدة للسلام الى الائتلاف مع الفلسطينيين في التخطيط لمستقبل مشترك، يستند الى المساواة بين الاشخاص كافة، سهلة. فقد تعود الاسرائيليون كافة على ان يعاملوا "كشعب مختار" بحيث صار من الصعب على عدد كبير منهم استيعاب فكرة المساواة بين البشر. لكن عدداً كبيراً من الاسرائيليين يشعر ان قيمهُ ومُثُله العليا تتهدد مباشرة بسبب اليهود المغالين. ولهذا توجد فرصة لاكتساب دعم لا يستهان به من هذا العدد الكبير من الاسرائيليين ومن الأسرة الدولية لفكرة "صوت واحد لكل شخص واحد". قلت ان الواجب يدعو الى النظر في الخيارات المتاحة كافة. ومما لا شك فيه ان ما اقترحته هو احدى هذه الخيارات. لكن ليس من السهل حالياً على الفلسطينيين ان يسجلوا انتصارات في مجال التمسك بما تبقى من أرضهم ومن كرامتهم، بصرف النظر عن الاستراتيجيات التي يتّبعونها. ففي خلال الأشهر والسنوات المقبلة المنظورة يبقى الاحتمال الاكبر والرئيسي ان يندفع اليهود المغالون ويهجمون. فالمشرق يشرف على هبوط حاد من النوع الذي تفعله عربات الافعوانية. * كاتبة بريطانية متخصصة في شؤون الشرق الأوسط.