التقيت مرة رئيس وزراء اسرائيل الجديد ايهود باراك، او "مستر برليانت" "السيد ألمعي!" كما يسميه في احيان كثيرة الأصدقاء والخصوم، وذلك في أيامه الأخيرة في منصب رئيس الأركان. لم اختر ذلك اللقاء، بل رتبته كاتبة اسرائيلية كانت تبحث عن مادة صحافية. وأملت بأن تناولي القهوة مع باراك وعدد من الاسرائيليين من مختلف الاتجاهات السياسية سيؤدي الى حوار ساخن تحصل منه على المادة المطلوبة. لكن اللقاء كان أبعد ما يكون عن الحدّة. فقد اردت اثارة نقاش عن طريق القول ان تركيز اسرائيل على ماضيها يجعلها على ما يبدو لا تلاحظ الضرر الذي الحقته بالآخرين، من ضمن ذلك الهزات الكبرى التي اصابت المجتمعات العربية نتيجة احداث 1948 و1967. لكن باراك لم يبد اهتماماً بنقاش الماضي، وأكتفى بالتعليق الى واحد من مساعديه أن ما حصل قد حصل ولا سبيل الى تغييره الآن. تذكرت تلك اللحظة مراراً منذ انتصار باراك في الانتخابات الاسرائيلية الأخيرة وتصريحاته عن السلام. وظهر في قسم من التصريحات كأنه استوعب بعض دروس الماضي، خصوصاً عندما قال انه لو كان فلسطينياً لأنضم الى المقاومة. لكن تصريحات اخرى أوحت انه، مثل الكل تقريباً، لا يزال أسير تجربته التاريخية. اعتقد ان من المفيد مقارنة باراك برئيس الوزراء الراحل اسحق رابين، قدوته في حياته السياسية والعسكرية. إذ كان على الاثنين التركيز على القضايا التي تتعلق بأمن الضفة الغربية - باراك عندما كان مسؤولاً عسكرياً كبيراً ورابين عندما تسلم رئاسة الحكومة ووزارة الدفاع مرّتين، في حكومة الوحدة الوطنية في الثمانينات ثم في حكومة العمل اوائل التسعينات. وكان نصب اعينهما دوماً السؤال عن الأراضي من الضفة الغربية التي يمكن تسليمها، من دون المخاطرة بأمن اسرائيل، الى الأردن أو، بعد أوسلو، الكيان الفلسطيني الجديد. كما كان عليهما التوفيق بين مفهوم كل منهما لأمن اسرائيل والحاجة الملحة، كما اعتبراها، لحماية كل مستوطنات الضفة الغربية اينما كان موقعها. لكن من الصحيح أيضاً، كما اعتقد، ان نفترض ان تغيراً طرأ على تفكير باراك ورابين نتيجة الانتفاضة وحرب الخليج والمفاوضات التي أدت الى اتفاق أوسلو. وكان من بين استنتاجاتهما الجديدة، كما لنا ان نقدّر، امكان الاعتماد على ياسر عرفات لكي يلعب في غزة ومدن الضفة الغربية بعد الانسحاب الاسرائيلي دور الملك حسين في ضبط الفلسطينيين. من الاستنتاجات الأخرى كان امكان عزل الفلسطينيين واليهود عن بعضهما بعضا في شكل شبه كامل، أي حصر الفلسطينيين في مناطق مقفلة وتصعيب انتقالهم. وجرت المحاولة الأولى لذلك أثناء حرب الخليج. وها هو انتصار باراك في الانتخابات الأخيرة يعيد ادراج كل هذا في جدول الأعمال، لكن مع فروق مهمة. فقد شهدت الفترة منذ اغتيال رابين في 1995 تزايداً هائلاً في عدد المستوطنات في الضفة الغربية، وتكرّس الوضع باتفاق واي عندما اقتصر على انسحاب مستقبلي بالغ الضآلة. وعنى هذا تغييراً في خريطة اسرائيل الأمنية، بدا معه لشخص مثل باراك، يؤمن في الوقت نفسه بالفصل التام بين الشعبين والحاجة المطلقة لحماية كل مستوطنات الضفة الغربية من دون استثناء، أن ليس هناك المزيد من الأراضي يمكن تقديمه الى الفلسطينيين. يمكن القول ان الفرق الرئيسي بين باراك ورابين هو ان الأخير تمتع في 1993 و1994 بهامش للمناورة يفتقر اليه خلفه في 1999. فقد كانت هناك مستوطنات أقل، وأمل بالسلام لدى الفلسطينيين والاسرائيليين أقوى وأكثر واقعية مما الآن. كما كان هناك نوع من الزخم التاريخي بدا معه وكأن الكثير من المشاكل المستعصية في انحاء العالم في طريقها الى الحل. وسمح الجو العام هذا أن تصور حتى زوال العديد من المستوطنات عندما يهجرها سكانها بفعل الاحباط، فيما يجري تفكيك غيرها بأمر من حكومة اسرائيل. اذا صح هذا فهو يعني ان باراك يمسك أوراقاً تختلف عما كان في يد رابين. ذلك ان مستوطنات الجولان هي الوحيدة المطروحة على التفاوض الآن. أما التعويض الأرضي على الفلسطينيين فلن يكون في الضفة الغربية، بل من مناطق غير مسكونة من اسرائيل، ربما من النقب. يمكننا ايضاً ان نرى ان شخصية باراك تختلف عن رابين، فهو يبدو أضيق افقاً وأقل قدرة على المخاطرة، وأقل رغبة في التراجع عن الاتجاه الذي يأخذه تاريخ اسرائيل حتى الآن. واذا نظرنا الى ما عرف به رابين من تصلب حول العديد من القضايا فلا بد ان استنتاجنا عن باراك لن يكون متفائلاً. وليس من مثال أفضل على ضيق افق باراك وسوء فهمه من افتراضه ان في امكان ياسر عرفات القبول بتنفيذ جزئي لاتفاق واي - ذلك الاتفاق الذي تضافر على انتزاعه من الفلسطينيين المساكين الرئيس بيل كلينتون والملك الراحل حسين ورئيس وزراء اسرائيل وقتها بنيامين نتانياهو. يمكننا ان نشير أيضاً الى ان باراك يختلف عن رابين من حيث افتقار الأول الى منافس قديم وشريك "لدود" مثل شيمون بيريز، ينازعه الفضل في صنع السلام. ومهما كانت نقائص بيريز فلا بد من الاعتراف بأنه تمكن من دفع عملية السلام قدماً في لحظات حاسمة من تاريخها. مع ذلك فقد منعه غروره من الدعوة الى انتخابات عامة فور اغتيال رابين، وهي الانتخابات التي كان سيفوز فيها بالتأكيد، ما يعطيه تفويضاً قوياً بمتابعة عملية السلام خلال السنوات الخمس الباقية من مهلتها الزمنية، ويجنبها الضرر الذي الحقه بها انتصار نتانياهو. لكن بيريز، كما نعلم، اراد للتاريخ ان يذكره كشريك كامل في صنع السلام وليس مجرد مساعد لرابين يكمل المسيرة التي بدأها زعيمه. بدا لرابين وبيريز في اوائل التسعينات ان مركز ثقل التاريخ آخذ في الانتقال من الماضي الى المستقبل، أي من تأمل الجراح القديمة الى فرصة انقاذ اجيال الاسرائيليين والفلسطينيين المقبلة من الصراع القاتل. هل يمكن لباراك القيام بتحول مشابه؟ ام هل اطال النظر فى الخرائط الأمنية للضفة الغربية الى درجة تمنعه من مواجهة التحديات التي يتطلبها السلام الدائم والعادل. ليس لنا، كما هي العادة، سوى الانتظار لكي نرى ما يحصل. * مدير مركز دراسات الشرق الاوسط في جامعة هارفرد.