يعتبر الشاعر محمد الفيتوري نفسه "ظاهرة سوريالية" إذ بحسب ما ورد في مقدمة مجموعته الشعرية "يأتي العاشقون اليك" وهي واحدة من أربع مجموعات، كانت قد ملأت صفحات الجزء الثالث من أعماله الكاملة التي صدرت أخيراً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في القاهرة. وهو يتوغل في الآخرين، ثم لا يلبث أن يتسلل هارباً بجسده أو يتسللوا هم منه الى البعيد، يقول: "ان أولد في وطن. ثم تتمدد أغصاني في وطن. ثم تجتاحني الغربة في وطن ثالث، حيث لا يتشكل انتمائي اليه، الا بقدر ما يتشكل انتماؤه الى ذاتي، أنا هذا الراحل أبداً. من أفق الى أفق، المقيم في التناقضات والتفاصيل المجهولة... تركيبة العلاقات الاستثنائية والغامضة. بركان العواطف والميول المضطربة، حائط التوازنات الدقيقة، المدهشة، المنسوجة من لحظات اختلال التناغم، وانعدام التساوي والانسجام. هل كان لكل هذه الأشياء مجتمعة، تأثيرها الطاغي على شخصيتي، وطموحي، وشعري، وارتباطاتي؟ هل أملك إلا أن أضع أصبعي على فمي؟ بيد أنني أجرؤ على أن أسأل نفسي، عما كنت سأتصور نفسي، فيما لو لم أكن ذلك الذي يجد نفسه دائماً، غائصاً في ما يحب وما يكره، من دون أن تكون له ارادة، وفي ما يحب وما يكره، إلا أنه هذا الشاعر، وهذا الأنسان". هذا هو محمد الفيتوري. هو هكذا كان وسوف يكون، وتلك السطور تختصر تجربة الشاعر في أربعة عقود وتزيد. فالقصيدة لغته دون سواها، بروح صوفية وتوجه صوفي بما يشبه المجهول، بما يشبه البحث عن اليوتوبيا الفاضلة. فبالشعر يتحرر الإنسان من هواجسه وبالشعر ينجو المرء من الشيطانية التي تتلبّس البشر، على طريقة قابيل وهابيل حيث القتل المجاني في رموزه المتنوعة التي تتشكل عند الإنسان المعاصر: إذا لم أقتلك تقتلني... وإذا لم أطردك من أرضك سوف تطردني. والفيتوري خلال سيرته الشعرية بأجملها شاعر اجتماعي سياسي عاطفي ان صح التعبير، لأنه ممزوج بمجتمعه، من قبل في أفريقيا كسوداني من أصل ليبي ومن ثم بالعرب والانتماء العربي بكل ما في هذه الكلمة من معنى. وشعره يسبح في هذه الأقانيم مستمداً من المدن التي عاش فيها مزاجه الشعري، كما لو أن الشعر هو الذي يكتبه وليس العكس. أي ان الفيتوري يأكل ويشرب وينام ويستيقظ ويحب ويكره شعراً. كأنه مرصود للشعر دون أي هدف آخر. لكن المدينة الأولى التي اختزنته شعرياً كانت بيروت، أسوة بعدد كبير من الشعراء والفنانين والكتاب العرب. فما من مجموعة شعر له الا وتجد فيها ظلالاً عميقة في شعره، ففيها الحب وفيها القتل وفيها الحنين والجمال والسيدة المعشوقة والورد والخضرة، والبحر الساحر. لذا فإن الشاعر يتألم ألماً كبيراً عندما رأى الهمجيين المجرمين يحاولون قطع رأس بيروت أو تدميرها أو اشعال النار في حضارتها وانجازاتها. ويمتلىء لبنانوبيروت في شعر الفيتوري بصور أخرى متعددة، ولا ينسى الشاعر انطلاقته الأولى من مسرح اليونسكو عندما جاء يمثل السودان في مهرجان الأخطل الصغير وكان لا يزال برعم شعر أمام العمالقة الذين شاركوا في ذلك المهرجان أمثال سعيد عقل وعمر أبو ريشة وأمين نخلة وكمال ناصر الى لميعة عباس عمارة وغيرهم. ظل الفيتوري على وفاء لبيروت منذ العام 1969 الى يومنا هذا، أقام فيها ردحاً من الزمن... ولم تفته مناسبة في بيروت إلا وكان فيها. بل جاء ذات يوم ديبلوماسياً اليها لسنوات عدة قبل أن تدفع به الحرب الأهلية خارجاً منها جسداً باقياً فيها روحاً وتواصلاً لم يفترا أبداً. وكيفما تصفحت المجموعات الأربع وجدت بيروت بكل أوجهها وبكل ناسها، تدخل القصيدة من حيث لا يدري الشاعر أو لا يدري. وثمة مواقف للشاعر أهمها موقفه من الحرية ودفاعه المستميت عنها، وموقفه من الديكتاتوريات العسكرية والهرولة نحو الاستسلام لإسرائيل، فهو رافض لكل ما هو مسيء للإنسان العربي أو محطم لكبرياته أو سالب لحرياته. أما إذا أطللنا على الأسلوب واللغة ومبنى القصيدة عند الفيتوري فنجد متانة لغته العربية المؤسسة أصلاً على دراسته اللغوية، متانة لا تقل قوة عن ذروة اللغة العربية. والشاعر الذي مر في تجربة الحداثة لم يكن مروره عابراً، بل تمثلها واستخلصها واندمج فيها، أي، كما قال أحد النقاد: أن يسمح الشاعر للتجربة أن تسيطر عليه وتصوغ حساسيته، في قالب من السبك الذي يجعل اللغة تتجلى بإيقاعاتها وتغير مدلولاتها وتبقى متماسكة متراصة - فإن مثل هذا الشعر يرتفع بشعر أمته الى ذرى من الأصالة تضطرنا لاعادة النظر في شعر المرحلة ومفاهيمنا عن الشعر بعامة. فالحداثة تعتمد على وعي نقدي بالاجراء الشعري من جهة... وبالتجربة العامة من جهة أخرى. كما أنها تقوم على الموضوعية في الأداء بحيث تبرز التجربة وتتوارى ذات الشاعر حتى كأننا نسمع التجربة ذاتها تتحدث عن نفسها بلسانها، وفي هذا السديم تلغي المقولات بعضها بعضاً فتبقى في فضاء الشعور الصافي. وشعر الفيتوري بشكل عام لا يفهم إلا بمعرفة خلفيته التاريخية ووراء ظواهر كونية يؤديها الشعر. يضم المجلد الثالث من أعمال الفيتوري الكاملة أربع مجموعات نشرت خلال السنوات العشر الماضية هي: شرق الشمس غرب القمر" يأتي العاشقون اليك" فرس الليل فرس النهار" أغصان الليل عليك. ويمكن قراءة كل هذه المجموعات من دون أن يوقع الفيتوري عليها وسرعان ما نعرف أنها له، فلا يغيب عن المتابع لشعر الفيتوري أسلوبه ولغته ومعاناته، والأسباب الكامنة وراء حزنه الشفيف. ففي تضاعيف قصائده وجمله الشعرية الكثير من هذه الخلفيات وخصوصاً الموت الذي نلمحه من دون ذكر اسمه. وكل شيء عند الفيتوري ليس كما نراه نحن وليس كما نفسره نحن. وإذا سألناه يتركنا أمام اشارة استفهام كبيرة. وهو عنده كما يقول الناقد والروائي الراحل فاروق البقيلي: "ان الأشياء عند الفيتوري ليست هي الأشياء. انها تتحول وتتغير وتتبادل الأسماء والأسرار والأقنعة والأدوار فكلمات كالموت، الوطن، اللانهائي على سبيل المثال هي كلمات فيها القابلية ما تتمراه ذاكرة الشاعر الكونية فوراً. وتعكسه في مراياه المجلدة في صورة رمز أو اشارة أو صوت أو لون وتصب جميعها في عين واحدة: الحقيقة، ومنها تتفرع أنوار شجرة المعرفة. وتمد أغصانها عليه". ولا نستطيع في هذه العجالة أن نتحدث عن ديوان شعر من 585 صفحة، ولكن يمكن القول أنه شاعر نسيج نفسه، ذو بصيرة نفاذة، يستخدم القصيدة في كل شيء يريد أن يقوله: في الوطن، في الغربة، في الموت، في الحب، في الحياة، في الصداقة. في الوفاء. في كل ما يتعلق بالبشرية، وأصبح بالفعل أحد كبار الرواد في التجربة الشعرية الحديثة، وهو على كل حال، كما قال هو نفسه: "أمس جئت غريباً / وأمس مضيت غريباً / وها أنت ذا حيثما أنت / تأتي غريباً...".