يتوج رحيل الشاعر السوداني محمد الفيتوري سلسلة طويلة من قائمة الشعراء الكبار الذين غادروا الواحد تلو الآخر منصة الشعر العربي المعاصر، تاركين وراءهم فراغا يصعب أن يشغله أحد في المدى المنظور. ففي العام المنصرم فقد الشعر العربي كلا من أنسي الحاج وجورج جرداق وجوزف حرب وآخرين غيرهم، وصولا إلى الأبنودي الذي جعل من شعر المحكية المصرية الناطق الوجداني باسم ملايين الفقراء الباحثين عن الخبز والكرامة. ولم يكن الفيتوري من جهته بعيدا عن وضع شعبه الذي رزح طويلا تحت نير الاستبداد والفقر، ووجد في الكثير من قصائد الشاعر ما يؤازره ويعكس تطلعاته نحو حياة أفضل. كما لم تغب عن بال صاحب «عصفورة الدم» تطلعات الأمة الأوسع نحو ما يعصمها من التمزق والجهل وغياب الحرية. لكن كلا الهاجسين لم يشكلا رغم ذلك العلامة الفارقة في تجربة الفيتوري الذي شاطره الكثيرون أرض معاناته المؤرقة تلك، بل استطاع الشاعر أن يتفرد في دائرة المواجهة مع العنصرية، حيث قارب موضوع الملونين السود بشكل لم يسبقه إليه أحد في الشعر العربي منذ عنترة العبسي. لقد تشكلت شعرية الفيتوري من عناصر متباينة أمدت تجربته بالطاقة الحيوية اللازمة لكل شاعر حقيقي. فهو استقى من أبيه نزوعا إلى التصوف بدا واضحا في ديوانه الشهير «معزوفة لدرويش متجول»، حيث يحفظ الكثيرون عنه أبياته الشهيرة «في حضرة من أهوى/ عبثت بي الأشواق»، وصولا إلى بيت القصيد «مملوكك لكني/ سلطان العشاق». على أن صوفيته لم تكن وفق ما يقوله في مقدمة أعماله الشعرية صوفية الأفكار المتهالكة والمهزومة، بل صوفية الانتماء إلى الصحوة الإنسانية والروحية. تغذت تجربة الشاعر بالمقابل من الأفكار القومية والتحررية التي حكمت النصف الثاني من القرن الفائت وتركت آثارها العميقة في الأدب والفن. وفي إطار السجال بين الحداثة الجذرية والمتخففة من كل وظيفة اجتماعية وسياسية للشعر، وبين حداثة الالتزام بالتغيير والقضايا الإنسانية الكبرى، فقد انحاز الفيتوري إلى الحداثة الثانية، موظفا لغته العالية وتمرسه بالإيقاع وشغفه بالتقفية في تحويل بعض قصائده إلى مرافعات موزونة ضد القهر والتخلف وفساد القيم «زمني يا أخت هواي عجب/ زمني جلاد لا يرحم/ زمني جلاد يتفجر من شفتيه الدم/ يخنقني كي لا أتكلم/ وأنا إنسان يتألم». على أن النماذج الأعلى لشعرية الفيتوري تتبدى في بعض قصائده الأفريقية التي تقف في مناهضتها للعنصرية واغتيال القارة إزاء شعراء كبار من وزن سنغور وأوغستينو نيتو وإيميه سيزار. أما قصيدته في رثاء عبدالخالق محجوب، فهي إحدى الذرى الأخيرة لشاعريته المتفاوتة في عمقها وجمالياتها الفنية، حيث لا نملك سوى الشعور بنشوة الإبداع إزاء نص من مثل «لا تحفروا لي قبرا/ سأرقد في كل شبر من الأرض/ أرقد كالماء في جسد النيل/ أرقد كالشمس فوق حقول بلادي/ لقد وقفوا ووقفت/ لماذا يظن الطغاة الصغار وتشحب ألوانهم/ أن موت المناضل موت القضية». لكن الغريب في الأمر أن لا أحد من الذين عناهم الفيتوري تنطبق عليه صفة الطغيان والصغر كما كان الحال مع معمر القذافي. فكيف، إذا، سمح الشاعر الذي حمل في قصائده راية المقهورين أن يجلس لعقود عدة في حضن طاغية دموي هو في كل ما ارتكبه من فظاعات النقيض الصارخ لقصائد الفيتوري؟ لا بل إن جفاف ينابيع الفيتوري الشعرية وضحالة نتاجه اللاحق لم يكونا سوى المحصلة لخيانة المعنى الذي رفد شعره بمياه الإبداع والتوتر الدرامي والوجداني. لعل الزمن وحده هو الكفيل بوضع الفيتوري في الخانة التي يستحقها من الأهمية. لكننا بين قوة نصوصه الطافحة بالألم والمهارة الجمالية والحب الإنساني، وبين خياراته السياسية النفعية والصادمة ننحاز من جهتنا إلى الشعر الذي، ودون قصد، رد به الفيتوري المبدع الأبدي على الفيتوري الضعيف أمام المكاسب العابرة.