أن تجري حواراً مع شاعر في قامة محمد الفيتوري فهذامعناه أنك ستواجه ملمحاً من ملامح حلم حركة التحرر العالمي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. شاعر ارتبط اسمه بالقارة الإفريقية؛ بل إن دواوينه الأولى حملت حلم قارة سوداء كانت تهفو للحرية مع النزعات الوطنية التي عبرت سماء تلك البلاد. وإن كانت إفريقيا هي قضية الفيتوري الأولى فقد كان موفقاً حين لم يستسلم لذلك التصنيف فانتقل إلى مسارات شعرية صوفية ذات مذاق عربي خالص في دواوينه التالية، كما تناول الحب كقيمة إنسانية شديدة التأثير في حياة الناس. شاعر جرّب المسرحية الشعرية والمقال السياسي والعمل الدبلوماسي، ورغم ارتحاله لسنوات طويلة بعيداً عن السودان مسقط رأسه إلا أن الحنين إليها ظل مقيماً. ماذا يمكننا أن نقوله عن هذا الصوت العربي الأصيل. تعالوا نأخذكم معنا في هذا المشوار الذي تميّز بالدفء والبساطة وروعة الذكريات القديمة. ؟ حدثنا عن جذورك، ونشأتك الأولى؟ - جاءت ولادتي في مدينة "الجنينة" التي تقع غرب السودان، وهي لمن لا يعرفها مدينة حدودية تربط السودان بكل من تشاد وليبيا، وبغيرهما من دول الجوار الإفريقي. أما عن أسرتي فقد كانت أسرة بسيطة تتكون من أمي وأبي وشقيقة واحدة. كان أبي شيخاً من شيوخ الطرق الصوفية، وهو خليفة من خلفاء الطريقة الشاذلية العروسية الأسمرية. اسمه بالكامل هوالشيخ مفتاح رجب الشيخي الفيتوري، وهو شيخ سجادة كما يسمونه، ومثل هذه النشأة غرست فيّ مبكراً إيماناً عميقاً بالدين الإسلامي الحنيف، أما عن والدتي فهي سيدة فاضلة. ومما عمّق ارتباطي بالمكان وعمق إحساسي بأهمية صلة القربى والدم أن جذوري تتداخل فيها دماء كثيرة لقبائل بعضها ليبي وبعضها الآخر مصري والثالث إفريقي، ومثل هذا الانصهار بين الأصول أدى إلى انتماء قوي لكل هذه الألسنة والسحنات؛ حيث زادني ذلك ثراءً خاصة وأنني وعيت مبكراً لسطوة المكان على البشر، فالمكان يشكلهم وفق طبيعته ويسمهم بسمات خاصة تنعكس حتماً على سلوكهم. منذ تشكل وعيي بدأت أدرك معنى بعض العبارات التي كان يرددها والدي ليلاً مع بعض زواره من قراءات قرآنية، وأدعية دينية، وأوراد وترانيم تسربت إلى نفسي من حيث لم أقصد، وجعلني هذا أتعلق بما أسمع، فبدأت أفكر تفكيراً عميقاً لدرجة أنني تركت زملائي في اللعب، وأنا طفل بحاجة إلى اللعب كي أنخرط في جماعات كانت تأتي إلى أبي في فناء البيت الواسع، وأصبحت مستمعاً ومستمتعاً بآي الذكر الحكيم وبعض التواشيح الصوفية والأوراد والقصص الدينية على تنوعها، وهي التي كانت تؤدى بأصوات في غاية العذوبة. كما أنني لا أنكر أنني استمعت كذلك إلى أدوار وطقاطيق ومونولوجات محمد عثمان، وسيد درويش وعبده الحامولي وصالح عبد الحي؛ حيث كنت أقطن مدينة الإسكندرية، وهي المدينة التي فتنتني وفتحت عينيّ على الكثير من المباهج؛ خاصة في طوافي بحلقات المنشدين وجوقات المغنيين، وسهرات جميلة كانت تقام في الأحياء الشعبية حتى الصباح. يالها من مدينة لها رونق في غاية الروعة، فهي المدينة الرائعة والمدهشة التي عشت وتربيت فيها في الأربعينيات، وسوف أضيف إلى هذا الجمال أغاني جدتي التي كانت تضفيرة مدهشة من التراث الإفريقي السوداني والليبي والمصري. ؟ متى كان مولدك؟ - ولدت سنة 1936، بالسودان كما أخبرتك، أما نشأتي فقد كانت مدينة الإسكندرية. ؟ هذا الجو المثير للخيال، واختلاطك برفاق أبيك من الصوفيين. هل ترك أثراً في نفسك؟ - بالطبع فقد حفظت القرآن الكريم مبكراً، وزدت على ذلك تمكني من التلاوة، ومعرفة واسعة بالأوراد والإنشاد الديني مما عرّفني على اللغة العربية في أحسن صورها، وهذا ملأ نفسي غبطة فانطلقت منشداً للشعر في وقت مبكر. ؟ ثمة حكايات تروى عن أصولك الإفريقية. هلا مددتنا بشيء منها؟ - تكاد تكون بعض حكايات أجدادي تشبه الأساطير، ومنها حكاية جدتي "زهرة". كانت ابنة شيخ القبيلة، وكان أهلها فرساناً، و كانت صغيرة عمرها تسع سنوات عندما خرجت لتحضر الماء من البئر مع صويحباتها، وفجأة وجدت شخصاً أسمته بالجلابي خطفها وأردفها وراء ظهره ثم أهداها إلى جدي. هذا الجد هو السيد علي بن سعيد بن يعقوب الشريف. كان يعمل تاجراً للرقيق. عندما استمعت من جدتي لهذه الحكاية شعرت وأنا طفل صغير لا يعرف معنى العبودية بقسوة ما حدث معها، وأنا أظن أن هذه الجدة هي التي بذرت داخل نفسي هذه التي تقاوم العبودية وتتطلع على نسائم الحرية. هي البذرة السوداء التي لونت بشرتي وامتدت إلى روحي وأشعلت داخلي الرغبة في المقاومة وضرورة الثورة! ؟ ما طبيعة دراستك الأولى؟ - الحقيقة أنني درست بالمعهد الديني بالإسكندرية ثم انتقلت إلى القاهرة، وهي محطة مهمة في حياتي؛ حيث أكملت تعليمي بالأزهر في كلية دار العلوم. ؟ ما الأصوات التي تركت بصمة عميقة على ذاكرتك الشعرية المتقدة؟ - قرأت وتأثرت بعنترة بن شداد. كان أسود، وأمه جارية كما كان جده شداد من شرفاء العرب ربما لهذا السبب لم يعترف أبوه ببنوته، وما حدث أن المنازعات بين قبيلته والقبائل المتخاصمة معهم أبانت شهامته، وفروسيته، وهو ما فرض على أبيه أن يعترف به، وقد تأثرت بهذا الفارس الأسود، واتخذته نموذجاً في بداياتي الشعرية؛ بل بحثت عن الشعراء السود، فوجدت من هم على شاكلة عنترة. قرأت الإمام العبد وهو شاعر مصري أسود. قرأت سحيم عبد بني الحسحاس، وتنوعت قراءاتي وتوقفت متأملاً المعلقات وقصائد العصور العباسية والأموية والموشحات الأندلسية وغيرها من الشعر الرصين. شعراء آخرون ؟ من هو الشاعر الذي تعلمت منه "الحرفة" بكل ما في الكلمة من دلالات؟ - الشاعر العظيم أبو الطيب المتنبي. هذا الداهية الذي تعد قصائده نبراساً لكل من يريد أن يقدم نصاً قوياً يحمل الرقة والقوة في آن. إنني أقرؤه حتى الآن بكثير من الاندهاش والتقدير فهو شاعر لن يتكرر بسهولة. ؟ ومن من الشعراء الأجانب؟ - قرأت للجميع مثل ناظم حكمت وبول ايلوار؛ لكنني توقفت بدهشة مضاعفة أمام الشعراء الزنوج، ومنهم بيبت دبوس، وسنقور ربولدت،وسيزار الشاعر الأمريكي العظيم، وهو زنجي الأصل طبعاً. كل هؤلاء استفدت من منجزهم الشعري في بداياتي وحتى بعد نشر دواويني الأولى؛ حيث طبع لي أول ديوان سنة 1955م. التجربة الشعرية ؟ وماذا عن تجربتك الشعرية؟ - مضت على هذه التجربة الشعرية أكثر من خمسين عاماً، ولحسن الحظ أنني بدأتها وأنا في طور مبكر هو طلب العلم؛ إذ كنت طالباً مع انطلاقتي الأولى، وما زلت حتى هذه اللحظة أشعر أنني مازلت طالباً للعلم وللمعرفة متطلعاً للغد المشرق التي تتحقق فيه الطموحات البشرية والتطلعات الإنسانية المشروعة والمقبولة. ؟ لكن لماذا ارتباط اسمك بالثورات التي نشبت في إفريقيا نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي؟ - كنت مهيئاً لهذا التفاعل الأكيد لسببين: الأول: أنني ابن هذه القارة السوداء التي ظلمت كثيراً، ووجدت من واجبي أن أعبر عن رغبتها في التحرر من الاستعمار، ونيل الاستقلال، وتنمية البلدان التي رسفت في الأغلال طويلاً. الثاني: أنني امتلكت وقتها روح الشباب المتطلع بكل عنفوانه نحو بناء مستقبل زاهر يعتمد على سواعد أبناء الدول التي سعت للتحرر في كل أنحاء إفريقيا. كانت القاهرة وقتها هي المكان الأكثر ملاءمة لهذا النبوغ الشعري الذي كان يمثله عدد من الشعراء الشبان. ؟ وهل وجدت تجاوباً لتجربتك الشعرية؟ - بالتأكيد، وأعتقد أن صوتنا أسس لمسار جديد في الشعرية العربية مع الأخذ بالاعتبار أن الأقطار العربية الأخرى كانت تشهد مثل هذه الثورة الأدبية المبدعة؛ خاصة في سوريا والعراق والسودان ومصر، وربما تونس واليمن وغيرها من مناطق تحررت شعرياً ونفضت عنها الصوت الرتيب المستسلم للتقليد الجامد. كان شعري يجمع بين التعامل العميق مع ما ورثته وما أحسسته في ذاتي من مشاعر وأحاسيس إفريقية انحدرت لروحي من أجدادي القدماء، وما لمسته في الواقع من خلاصة التجربة التي مدت الثورات الوليدة بشيء من الصدق والعنفوان والقيمة. ؟ في هذه الظروف ظهر ديوانك الأول "أغاني إفريقيا"؟ - نشرت القصائد فرادى في الصحف وكان لها وقع النجاح المدوي، ثم جمعتها بعد ذلك في دواوين عديدة منها "أغاني إفريقيا"، "عاشق من إفريقيا"، "إذكريني يا إفريقيا"، وكانت القصائد متأججة بالحماس؛ وكأنها مكتوبة بدمي وعروقي وأعصابي. وأعتقد أن هذه المرحلة هي التي جعلت مني شاعراً عربياً إفريقياً يرتبط بالهموم القومية أكثر من أي شيء آخر. ؟ هل تتذكر أول قصيدة كتبتها؟ - بالطبع أتذكرها، كتبتها وأنا في مدينة الإسكندرية التي عشقتها. كنت طالباً في الصف الأول الثانوي بمعهد الإسكندرية الديني، وقد قلت في مطلع تلك القصيدة: فقير.. أجل.. ودميم.... دميم بلون الشتاء بلون الغيوم يسير فتسخر منه الوجوه..... وتسخر حتى وجوه الهموم فيحمل أحقاده في جنون.... ويحتضن أحزانه في وجوم وهي - كما ترى - انعكاس لما كان يعيش فيه طالب مغترب لا يجد نفسه في الواقع من حوله؛ ولكنها بداية حزينة كما ترى فكأن الشعر يلتمس مادته الأساسية من هموم الحياة وأحزان الناس. ؟ رأينا تربيتكم الدينية المبكرة. هل لونت فضاء قصائدك؟ - بعد أن قدمت للساحة العربية دواويني حول إفريقيا رأيت أن أخرج عن النمط، وضرورة أن أبحث عن تجربة أخرى لكي لا تنضب المواد التي أحاول التعبير عنها في حياتي فاتجهت إلى التجربة الصوفية، وكتبت بضعة دواوين شعرية حول المدد الصوفي والإيقاعات العميقة في الروح الإنسانية المتجاوبة مع هذا الأفق الروحاني والفضاء الإشراقي بتعبير الصوفية. كما رحت أنقب في ذاكرتي عن تجربة أخرى وهي تجربة العواطف الإنسانية، وكتبت فيها بضعة أعمال شعرية مهمة ومختلفة من حيث الشكل الجمالي والتنويع الإيقاعي. صدام سياسي * لكنك دخلت غمار السياسة فيما بعد حيث اختلفت مع الرئيس النميري؟ - هذه تجربة في غاية القسوة ولا يمكن نسيانها. وقد حدثت نهاية الستينيات وبداية السبعينيات عندما اصطدمت بنظام مايو الذي كان يقوده الرئيس الأسبق جعفر نميري. وكان من نتيجة صدام النظام مع المثقفين والأدباء ما نراه من تراجع دور المثقف، وبداية الانحدار للفكر وللمواقف الإنسانية في عالمنا العربي والإفريقي؛ حيث قضت تلك المرحلة على أروع شباب السودان والقارة الإفريقية فكرياً مثل عبد الخالق محجوب وفاروق حمد الله وبابكر النور وهاشم العطا والشفيع أحمد الشيخ وغيرهم. ؟ ماذا سببت لك تلك الأزمة؟ - في الحقيقة إنها كانت تجربة ذات أثر عميق في نفسي، أقلقت نفسي المستقرة، وأودت بطمأنينتي؛ حتى بت أتحسسها ليل نهار، فقد كانت من القسوة حيث دمغت بقية عمري بالكآبة العميقة التي لا أعتقد أنها سوف تنتهي بسهولة، وهي كما أرى البداية الرهيبة في هذه الانحدارات التي احتوت قارتنا الإفريقية وأمتنا العربية، فبعدها استمر الانحدار الرهيب الذي نراه في سلم القيم، وفي الأخلاق وفي كافة الرؤى القومية والمظان الإنسانية. دوائر أساسية ؟ هلا حدثتنا عن الدوائر الأساسية التي تشكل نبضك الشعري؟ - الدوائر الأساسية متداخلة ومتعددة وجميعها شكلت وعيي الشعري وأفقي الجمالي أولها في رأيي واقعنا الثقافي العربي الزاخر بآماله وتطلعاته في مشارف الأربعينيات. كذلك حركة التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي طرأت على أنظمة الحكم وأشكال العمل السياسي في المنطقة العربية منذ بداية الخمسينيات من القرن الماضي؛ حين انفجرت حركات التحرر الوطني بداخلنا كما أشرت في ردي على سؤالك السابق، ومن هذه الدوائر ما يحمله داخلي من الميراث الثقيل الذي أخذته من الأقطار السودانية والليبية والمصرية؛ وهي لو تأملناها جيداً سنجدها تشكل بداخلي الكثيرمن العطاءات بدءاً من مجموعة الأساطير العربية والإيقاعات الإفريقية والمدائح الصوفية والفيوض الإسلامية. وهذا يكشف سر عذاباتي العميقة، والتي هي سبيكة من هذه التناقضات، ولهذا أراني صوتاً خالصاً يعبّر بصدق وعفوية عن كل هذه التناقضات التي تمس مبنى ومعنى النص الشعري. ؟ هل لك أن تلقي نظرة على تجربتك الثرية بحق؟ - هو دور النقاد بلا شك، فمهمتهم تقييم القصائد الشعرية ووضعها تحت المجهر مع وجود معايير متوازنة لعملهم كي يكون جاداً وموثقاً. لكنني أقول إنني بلغت الآن ما بلغت من العمر، وهذا بالطبع انعكس على تجربتي الشعرية بكل زخمها، وأحمد الله وأشكر فضله على أني لم أبع ضميري يوماً، ولم أبتذل عمري في ما لا جدوى من ورائه، كما أنني لم أبتذل كرامتي قط. لقد عشت إنساناً محباً لبلادي و لوطني العربي، ولأصولي الإفريقية، وقد حاولت من خلال شعري أن أقدم شهادة حب لقومي وحسبي أن أنال الرضا من خلال تكريم الآخرين لمسيرتي ولي شخصياً على الرغم من كون الواقع مازال يشهد مواجهات ضارية بين حضارتنا وحضارات أخرى تظن أنها تملك الحقيقة المطلقة. نعم، ما زالت أوطاننا تعاني الكثير من الإشكاليات الفكرية و المصاعب الاقتصادية والضغوط الأمنية، وتحتاج إلى معجزة كي تعود إلى حيّز الوجود بنفس ألقها القديم. كتابة النص ؟ هل هناك طريقة معينة في كتابتك للنص الشعري؟ - بالطبع هناك طرق متعددة لكتابة النص الشعري ولا توجد طريقة واحدة؛ لكنني من الشعراء الذين يبذلون مجهوداً في التحضير للقصيدة فهي مسؤولية تقع على عاتقي، وطالما كتبت قصائد في جلسة واحدة؛ لكن هناك من التجارب الشعرية ما يستغرق أياماً. وعلى العموم فكتابة القصيدة تتغير طبقاً لتغيير الظروف والمعطيات وتطور المناهج. كتابة القصيدة تتغير من حالة إلى حالة تبعاً لتغير التجربة الشعورية، وتبعاً لتغير الظروف من حولنا، فهناك من القصائد ما تنهمر عليَّ كشاعر دونما إنذار مسبق، وكأنها مكتوبة في ذهني مسبقاً، بينما يأخذ البعض الآخر من النصوص في تلمس طريقه أو تأخذ أنت في تلمس طريقك إليه بمشقة وصعوبة بالغين، وهنا يكمن السبب الأساسي الذي قلت فيه ذات مرة أنني لم أؤمن في سنواتي الأخيرة بما كان يكتب به مسبقاً وهو عنصر الإلهام الشعري والفيض الشعوري. وحسب خبرتي الطويلة فتجدني أعد قائمة جمالية وفكرية تشمل التفاصيل الدقيقة للعمل الشعري الذي أعالجه، وأبسط أمامي الفكرة الاجتماعية أو السياسية على منضدة البحث ثم أتركها لبعض الوقت لتتشكل على مهل. ثم أطلقها تشق طريقها عبرالنطاق الداخلي إلى فضاء أوسع من الكلمات التي تأخذ شكلها النهائي أي مبنى القصيدة. وبالطبع تدخل ضمن هذه العملية كلها عناصر متنوعة وأساسية لتشكيل المتن من دروب وعناصر موسيقية وإيقاعية وتشكيلات نغمية وتلاوين صورية وغيرها من ركائز وعناصر النص الشعري المعاصر. ؟ هل أثر الاغتراب في قصائدك بعد أن عشت بعيداً عن الوطن فترة طويلة؟ - ومن منا لا يشعر بالحزن والمواجيد تتبعه أينما ذهب طالما بقيت قدماه بعيداً عن تراب الوطن. في بعض الأوقات كانت الغربة اختيارية، وفي أحيان أخرى كانت قسرية. وكلاهما له مرارة لا يعرفها إلا من مر بمثل هذه التجربة؛ لكن وجودي بعيداً عن السودان كان له فائدة من نوع آخر، فقد اتسعت دائرة علاقاتي الإنسانية وعمقت خبرتي بالآخرين وتعرفت خلال سنوات طويلة على تشكيلة مدهشة من الثقافات والعادات، من الألوان والإشكال التي تتوزع على الخارطة العربية من نماذج إنسانية، ونماذج في الحياة التي تبدو لي الآن ثرية غاية الثراء. ولا شك أن اختلاف النظم السياسية والعادات الاجتماعية التي تسود الرقعة العربية والتي قدر لي أن أعيش في ظلها قد أعطاني معرفة عميقة بطبيعة المرحلة وتحليل الإشكاليات والتناقضات التي تسود المنطقة العربية؛ لكنني في نهاية الأمر أقول إننا أمة عربية واحدة، وأن هذه الخلافات والانقسامات التي تتوزع بلادنا؛ إنما هي انعكاسات لذلك الإرث الثقيل والمرهق الذي ورثناه من الاحتلال الاستعماري البغيض. ؟ لكن تلك الشعوب نالت استقلالها منذ الستينيات فلماذا لم تنهض كما ينبغي؟ - بالنسبة لإفريقيا فإن هذا راجع في رأيي لأمرين. الأول أن الدول التي استقلت وقتها لم تكن تملك الوعي الكافي بطريقة إدارة شؤون البلاد نحو أهدافها فلم تفكر سوى في الاستقلال دون وجود خطط طموحة لرقي الدولة. الثاني أن هناك مناطق زرع الاستعمار فيها الكثير من الفتن الإثنية والعرقية التي عرقلت كل مشاريع التنمية فيما بعد. ؟ هذا يقربنا من استفسار حول طبيعة دور الشاعر. هل يمكنه أن يقترب من الحقل السياسي؟ - لابد أن تكون مهمته فكرية ثقافية في الأساس، وعليه أن يحدد مواقفه إزاء ما يحدث حوله من تحولات تمس مجتمعه بعد ذلك. وبناء على هذه الرؤية فالشاعر المعاصر لابد أن يعيش تجارب العصر بعواملها الضاغطة وظروفها المختلفة، وتفاعلات الكون من حوله. الشاعر شخص يعيش عصره ولا يمكنه أن يصير شاعراً انعزالياً أو انطوائياً أو غيبياً أو ميتافيزيقياً يؤثر البقاء على هامش المجتمع الذي يعيش فيه. وأنت تعلم أنني في بداية رحلتي الشعرية اخترت أن أكون شاعراً قومياً ملتزماً بكل قضايا وطني العربي وقارتي الإفريقية التي دافعت عن حقها في التحرر والاستقلال والنهضة التي هي مفتاح التقدم نحو المستقبل. قيمة الشاعر الحقيقية في أن يظل صوتاً للآخرين وسلاحاً يدافع عنهم وإرادة تجسد شعره فيها من خلال نصوصه، وبدون ذلك تسقط شاعريته في أول اختبار حقيقي. ؟ كثير من كتاب السودان ومثقفيه خرجوا بعيداً عن نبض الوطن. هل لك تعليق حول هذه القضية؟. - كثير من أولئك المثقفين الذين تتحدث عنهم تركوا السودان لاختلاف اجتهاداتهم عن اجتهادات القيادة السياسية؛ ولأننا لم نتعود فكرة الحوار الحضاري فقد كان لازماً عليهم أن يحافظوا على أفكارهم وأنفسهم بهذا الخروج الذي هو في حد ذاته احتجاج حول ما رأوه من أمور خالفت توقعاتهم على طول الخط. لقد اغتربنا عن السودان لظروف خارجة عن إرادتنا، ولا أتحدث باسمي فقط؛ وإنما أتحدث باسم كل الذين تعرضوا لنفس المحنة من أدباء ومفكرين وشعراء وصحافيين وفنانين اضطروا إلى مغادرة السودان في ظروف شديدة القسوة. ؟ جاء خروجك من السودان بعد 22يوليو1971م. ماذا دعاك لهذا الشيء؟ - بعد إعدام المناضلين: عبد الخالق محجوب وفاروق حمد الله وهاشم العطا والشفيع وبابكر النور وتلك الكوكبة الرائعة من أبناء السودان على يد نظام الرئيس جعفر نميري. كتبت قصيدة "قلبي على وطني" وهي منشورة في ديواني "أقول شاهد إثبات". وعقب انتشار تلك القصيدة بين الناس وتداولها في كل مكان فيه تجمعات سودانية خارج الوطن تم استدعائي بوزارة الداخلية وأجري حوار معي أخذ شكل التحقيق، ومنعت من إدخال اسم الرئيس نميري في أية قصيدة، وإحقاقاً للحق فقد كان لوجود الرائد مأمون عوض أبوزيد أثر كبير في أن يكون التحقيق مخففاً على هيئة تحذير أو إنذار؛ ولقد توجست خيفة بعدها واعتقدت أن الوشايات سيكون لها أثرها في إلحاق الأذى بي، وهو ما دعاني إلى التفكير في الهجرة؛ حيث ذهبت إلى طرابلس ولما كانت لي معرفة بالسيد العقيد معمر القذافي قائد ثورة الفاتح من سبتمبر، فقد وصلت إليه عن طريق أحد الأصدقاء، وشرحت له قضيتي، والحقيقة أن الرجل أكرمني وأحاطني برعايته؛ إذ تم تعييني مستشاراً صحافياً في السفارة الليبية في بيروت. بعدها بفترة أبلغت بأن قراراً جمهورياً قد صدر بإبعادي من بيروت فوراً، وعلمت أن مستشار الرئيس نميري السابق وبطلب من نميري شخصياً، وهو المستشار اللبناني سليم عيسى، قد طلب من الرئيس اللبناني الأسبق سليمان فرنجية ضرورة طرد الشاعر محمد الفيتوري من لبنان؛ لأن النميري كان على وشك أن يزور لبنان ولا يمكن للزيارة أن تتم والشاعر المعارض في بيروت، و لقد ظل نميري يطاردني حتى في بيروت وهذا جزء من المشاكل التي أحاطت بي من جراء الشعر! خطف في بيروت ؟ لكننا علمنا أنك خُطفت أيضاً في بيروت. ما أسرار هذه العملية وما تأثيرها عليك؟ - لا شك أنها عملية قاسية وأتمنى ألا أضطر لذكر تفصيلاتها؛ لأنها كانت أقرب للتراجيدية الإغريقية في سيرها. جرت عملية اختطافي في بيروت، ومن قام بها مجموعة متعصبة من أبناء إحدى الطوائف الشيعية، ولم يكن بيني وبينها أي سبب من أسباب العداء، وقد جرى الاختطاف لكوني أعمل سفيراً لليبيا في بيروت. كان الهدف من تلك العملية الثأر من العقيد معمر القذافي بادعاء أنه على علم بنهاية الإمام موسى الصدر زعيم الشيعة في لبنان لذا أقدمت على اختطافي لتحذير القذافي وفي الوقت نفسه الضغط عليه لكي يتدخل لكشف لغز غياب الإمام الصدر، وهكذا وجدت نفسي رهينة في يد الخاطفين. وقد حدث أنهم اكتشفوا شخصيتي، وعرفوا أنني محمد الفيتوري الشاعرالسوداني الذي يعمل سفيراً لليبيا فأبدوا اعتذارهم لي، وقالوا إنهم مضطرون لهذه العملية؛ لأنهم مأمورون، وحين حدث الحوار بيني وبينهم، تخففوا من لهجتهم الصارمة، وطلب مني أحدهم أن أقرأ قصيدة من شعري فيما أنا معصوب العينين وحين ترددت في تلبية هذا الطلب قال لي أحدهم لطالما سمعناك في بيروتوالقاهرة، ولا أعتقد أنك ستحرمنا من هذا الشعرالجميل وأنت بين قبضتنا. ؟ تقول شعر تحت تهديد الخاطفين؟ - لم يكن هناك مفر من تنفيذ مطلبهم، وهي المرة الأولى حسب معلوماتي التي ينشد فيها شاعر قصائده وهو واقع تحت ضغط الأسر! وقد وجدت أنه من الأفضل لي أن لا أخيب رجاءهم وقد تمسكت بخيط الأمل، وألقيت عليهم قصيدة "نشيد إفريقيا"، وهي من قصائدي ذات الجماهيرية الواسعة. تحاملت على أعصابي وأنشدت القصيدة كأنني في قاعة تغص بالجمهور؛ حتى إن نبرات صوتي طردت مخاوفي فشعرت بالثقة والشجاعة الحقة، وصفق المختطفون. وأتذكر أنهم جاؤوني بجهاز راديو صغير بحجم اليد لأستمع لأصداء نبأ اختطافي في إذاعات العالم، ومنها هيئة الإذاعة البريطانية (بي. بي. سي) ثم حملوني داخل سيارة وذهبوا بي إلى صحراء بالقرب من الحدود السورية الإسرائيلية، وبالصدفة البحتة تهادت سيارة نحو المنطقة التي تركوني فيها، وإذا بي أجد فيها شخصاً أعرفه من المحاربين الفلسطينيين؛ وقال لي أنت على بعد قريب من القوات الإسرائيلية، وأنه جاء متفقداً لقاعدة فلسطينية مقاتلة هناك. لقد عدت إلى بيروت وكانت أعجوبة، فقد كُتب لي عمر جديد، وما حدث خلال جولة المفاوضات معي أن المختطفين اشترطوا علي أن أترك بيروت إلى عاصمة عربية أخرى. ؟ هل تعلمت شيئاً من هذه الحادثة؟ - نعم. رب قصيدة تنقذ شاعرها من خطر الموت، أو العكس. ؟ أستاذ فيتوري هل أنصفك النقد أم أنه لم يعطك حقك؟ - هذا سؤال محرج؛ لكنني أعتقد أن النقد العربي قد احتفى بي حقاً، والتفت إلى إنجازي الشعري وهذا معناه أنه نقد موضوعي إلى حد ما. ؟ محمد الفيتوري: من أنت في عبارة واحدة؟ - أنا إفريقي الملامح، عربي الهوية، إنساني العاطفة والوجدان. أردت بالشعر أن أعبّر عن عاطفة قارة في التحرر فأنصت لصوتي كل من يهفو للحرية، والعدل، والانعتاق.