تتداول الأوساط الشعبية في اليمن حكاية سفير إحدى الدول الأجنبية في اليمن الذي قدم استقالته لحكومة بلاده بعد أن قضى سنوات في اليمن اعترف بفشله اثناءها في تقييم الأوضاع في اليمن وتوقع مسارات الأحداث فيها. وبغض النظر عن صحة هذه الحكاية التي تداولها الناس منذ فترة ليست قصيرة، فإن قرار مجلس النواب بعدم تزكية مرشح المعارضة علي صالح عباد مقبل الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني، يأتي متفقاً مع مضمون ومغزى هذه الحكاية المبني على فشل المحلليين السياسيين في توقع ما يجري في أرض "واق الواق" من أحداث وما يصدر عنها عن مواقف وقرارات في معظم وغالب الأحيان منذ قيام الثورة اليمنية وحتى اليوم، فكثيراً ما تأتي الأحداث والمواقف وكأنها مفاجئة غير متوقعة ومحسوبة. ولسنا هنا في مقام السرد للتدليل على ذلك، ويكفينا في هذا الصدد الحديث عن حجب التزكية كمثل يجسد هذه الحالة اليمنية، فعلى رغم ان الدستور يشترط تزكية أي مرشح حصوله على موافقة 10 في المئة من أعضاء البرلمان 31 عضواً كشرط أساسي لقبول دخوله سباق الرئاسة، وعلى رغم ان الأحزاب المعارضة بأجمعها في ما عدا الاصلاح لا تمتك سوى بضعة أعضاء في المجلس، الأمر الذي يعني ببساطة عدم تأهلها لتقديم مرشح عنها منفردة أو مجموعة، فإن هذا القيد الدستوري لم يلتفت إليه طرفا الحكومة والمعارضة معاً. السلطة والتزكية كل المؤشرات التي سبقت قرار الحجب من طرف الحكومة كانت تؤكد أنها ستسمح لممثلي المعارضة بترشيح ممثلين عنها لخوض الانتخابات وإعطاء معنى للديموقراطية اليمنية الناشئة. وفي هذا السياق كرر رئيس الجمهورية في مناسبات كثيرة دعوة الأحزاب إلى ترشيح ممثلين عنها لخوض الانتخابات الرئاسية، منوهاً في دعواته تلك إلى ضرورة أن تعقد هذه الأحزاب موتمراتها وتسمي مرشحها من خلال هذه المؤتمرات، مؤكداً أنه سيدعم هذا التوجه. وانطلاقاً من القناعة التي كانت متوافرة لدى القيادة السياسية، فإن رئيس الوزراء عبدالكريم الارياني أكد كذلك قبل قرار الحجب بشهور عدة في مقابلة مع صحيفة "الشرق الأوسط" بأن الحكومة ملزمة بتزكية مرشح المعارضة. وفي هذه الأجواء انعقد منتدى الديموقراطيات الناشئة في صنعاء بالتنسيق بين الحكومة اليمنية والمعهد الديموقراطي الأميركي شارك فيه العديد من الدول التي ما تزال تحبو في طريق الديموقراطية، كما شارك ممثلون عن أحزاب المعارضة اليمنية في هذا المنتدى الذي انعقد، كما أشارت أدبياته والتصريحات الرسمية التي زامنته، من أجل تنمية التوجه الديموقراطي. وهنا نجد أن علينا أن نقف برهة أمام ما حصل لنحاول التعرف على طريقة صنع القرار السياسي في اليمن. فما الذي جرى يا ترى، وما هو سبب هذا التحول من النقيض إلى النقيض؟ يؤكد الكثير من المتابعين والمراقبين السياسيين إلى أن قرار الحجب لم يكن مخططاً له من قبل الرئيس وأنه قد اتخذه في الأيام الأخيرة لأسباب عدة من أهمها ان السلطة فوجئت بإجماع المعارضة على ترشيح مقبل بعد أن كانت قد برزت بعض المؤشرات التي تؤكد عدم اتفاقها، وترشيح كل منها لمرشح خاص بها، فسقطت الورقة الرابحة دوماً والتي تقوم على استثمار الخلافات بين الأحزاب والدخول معها بمساومات منفردة تضعف من تأثيرها. وليس هذا فحسب، بل إن مرشح الاجماع لدى المعارضة لا تحظى شخصيته بقبول لدى السلطة ومن المحتمل ان المحيطين بالرئيس قد أثاروا خشيته ان يدفع "مقبل" بالعملية التنافسية في حالة الموافقة على تزكيته إلى حالة قد تؤثر على الوضع السياسي في البلاد في حال اللعب بورقة المناطقية، كما يرجع البعض أسباب الحجب إلى تأثير التجمع اليمني للاصلاح المنطلق أصلاً من خشيته من وجود إجماع للمعارضة لمنافسة الرئيس الذي زكاه الاصلاح قبل تزكية حزبه "المؤتمر الشعبي العام" والذي من المحتمل ان يؤثر على شعبية الاصلاح ويحرجه أمام قواعده. وأياً كان السبب، فإن قرار حجب التزكية يبدو أنه قد جاء مستعجلاً وردة فعل لحالة آنية غير محسوبة أدت لاتخاذ قرار مناقض لما كان منوياً عمله، وإلا لكان أعد من وقت مبكر خطاب سياسي وإعلامي مناسب لهذه الحالة، وأعد كذلك بدائل مرشحين آخرين تعطي العملية الديموقراطية بعضاً من رونقها. فهل يعتبر المؤتمر ويستفيد من المأزق الذي وجد نفسه فيه ليعيد النظر في آلية اتخاذ القرار السياسي واعتماد التخطيط والتفكير الدقيق والمبرمج بطريقة علمية سليمة بدلاً من اللجوء إلى الارتجال وما ينجم عنه عن عواقب ونتائج سلبية هو في غنى عنها؟ المعارضة والتزكية بعد أقل من شهرين، وبعد أن فكرت المعارضة وتدبرت، وبعد كبوات كادت تجهض بموقفها، أجمعت على مرشح واحد، منطلقة من يقين "وهمي" بأن السلطة ستزكيه استناداً إلى المؤشرات التي أشرنا إليها سابقاً، وإلى قتاعة بأن السلطة ترغب في وجود مرشح للمعارضة، لأنها على يقين من أمرها بالفوز ولإظهار التزامها الديموقراطي أمام الدول الغربية وفي مقدمها أميركا. كما لعبت الاشارات الصادرة عن السفارة الأميركية التي التقت بجميع الأطراف دورها في تأكيد اليقين الوهمي لدى المعارضة! وكما أشرنا، فإن الأجواء التي أشاعتها السلطة عن اجراء انتخابات تنافسية وقبول تزكية مرشح أو مرشحين للمعارضة المحتمل تعبيرها عن توجه حقيقي للسلطة في ذلك الوقت المبكر، قد خدر المعارضة بمختلف أحزابها وجعلها تغفل مبدأ أساسياً كان من البداهة والمنطق أن لا تغفله، ونعني بذلك القيد الدستوري على امكان تزكية مرشحها، وكان العقل والمنطق يفرضان على أحزاب المعارضة الوقوف طويلاً عند هذه القضية لإجبار السلطة لتعديل الدستور لتحرير العملية الانتخابية من الاحتكار ومن أعباء "صدقة" التزكية التي قبلت المعارضة انتظار منحها من السلطة وركنت إلى المناخات والأجواء السائدة والمضللة والوعود الكلامية وما يصدر عن الدوائر الأميركية والأوروبية باعتبارها ضامناً وبديلاً عن الاستحقاق الدستوري. إن هذا الموقف يكشف ليس عن سذاجة المعارضة وحسب، بل وعن قبولها "لفتات" وهمي على حساب المستقبل والمبدأ، فالمعارضة لم تستغل رغبة السلطة المبكرة في إظهار الشكل الديموقراطي لتكثيف ضغطها والخروج بمكسب حقيقي للديموقراطية ومستقبلها، بل أنها سرعان ما تجاوبت مع الطعم الصغير الذي قدمته لها السلطة تصحيح جداول الناخبين، إعادة بعض مقرات الاشتراكي، اشراك اعضاء الأحزاب في لجان القيد والتسجيل واللجان الانتخابية، واعتبرت ذلك الفتات مبرراً كافياً للتنازل عن القضية الجوهرية المتجسدة بالقيد الدستوري على الترشيح للانتخابات الرئاسية، وكان يمكن لها أن لا تقبل بغير التعديل الدستوري بديلاً وفي أسوأ الأحوال تقبل باتفاق مكتوب وموقت لهذه الدورة على أن يتم النظر في التعديل لاحقاً لتشارك في العملية الانتخابية، وإلا حافظت على موقفها المعارض للدخول في منافسة شكلية وديكورية لا فائدة منها ولا مردود. وطالما اننا بصدد التحليل والتقييم لمواقف أحزاب المعارضة، فإن من المهم الإشارة إلى أن العديد من الأحزاب المنطوية تحت مظلة مجلس التنسيق الأعلى لم تستثمر الأجواء الانفتاحية السائدة حينها، ومنها دعوة الرئيس لعقد مؤتمراتها وأضاعت فرصة ثمينة لتنظيم نفسها وفق الاساليب الديموقراطية الصحيحة لإكسابها الشرعية الكافية التي قد تتعرض للاهتزاز مستقبلاً بسبب أبسط تقلب لمزاج السلطة نحوها. إن المراقب السياسي يلمس بكل وضوح وقع المفاجأة الصدمة على أحزاب المعارضة جراء حجب التزكية بسبب الاعتماد على آليات خارج الإطار الدستوري تقوم على النظر من خلال زاوية ضيقة لرؤية السلطة لمصلحتها المحتمل ارتباطه مع اتخاذ قرار التزكية. فهل تعيد أحزاب المعارضة النظر في سياساتها ومواقفها السابقة وتسعى من جديد لإعادة تنظيم نفسها وإعادة ترتيب أوضاعها بما يمكنها لبناء مؤسسات حزبية ديموقراطية وكفوءة قادرة على اتخاذ القرار السليم والصحيح والتخطيط للمستقبل على أسس واقعية وسليمة، وإعادة ترتيب أولوياتها وقضاياها المطلبية بما ينسجم مع تطلعات الشعب ومعاناته، أم تظل المكاسب الآنية ومواقف رد الفعل هي الحاكمة لتوجهاتها ونشاطاتها؟ إن عملية صنع القرار السياسي الصحيح في اليمن تعاني من أزمة على صعيدي السلطة والمعارضة بعد عشر سنوات من إعلان التعددية السياسية، فهل هذه الفترة الطويلة غير كافية لبلورة آلية مناسبة لبناء واتخاذ القرار عند كل من الطرفين، وكم من الوقت يلزم للتصحيح والمراجعة؟ فبالإجابة عن هذا السؤال نستطيع أن نتصور الوقت اللازم لامكانية تجاوزنا لأزماتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهل ستستفيد المعارضة كذلك من تجربة إجماعها الايجابي على مرشحها للرئاسة الذي اعطاها زخماً وقوة ورهبة افتقدتها في كثير من الأوقات، فيكون درساً مفيداً لها للحرص على التماسك والتراص وتوحيد المواقف، بدلاً عن التشرذم والتهافت على مصالح ضيقة شخصية وحزبية على حساب القضايا الوطنية والصالح العام؟ وتكف قياداتها عن التنظير التضليلي لكل موقف خاطئ وضيق؟ وتتوجه بدلاً عن ذلك لقواعدها لاستلهام الرؤى والمواقف الصحيحة؟ إن حدوث مثل هذا التحول سيدفع بكل تأكيد بفعل ونشاط المعارضة ومكانتها إلى الصدارة والريادة، وحينها ستتغير بكل تأكيد أشياء كثيرة. * رئيس تحرير صحيفة "الأمة" سابقاً، عضو اللجنة التنفيذية في حزب "الحق" سابقاً.