يلاحظ أن الرؤية الاميركية للتسوية، أو ل"عملية سلام الشرق الأوسط"، كاصطلاح اطلق في إطار هذه الرؤية، هي أن "السلام" يجب أن يفضي الى نظام جديد في الشرق الأوسط، وليس مجرد إنهاء لحالة حرب فيه. إذ يجب، بناء على الرؤية ذاتها أن تتم ترتيبات اقليمية اكثر تنوعاً، تلعب فيها كل من اسرائيل وتركيا دوراً مهماً الى جانب البلدان العربية، وأن تكون اقتصاديات الاقاليم مفتوحة، وتعمل على أساس اقتصاديات السوق. وربما هذا ما يفسر - الى جانب اشياء أخرى - تطابق شروط التسوية السلمية التي تسعى إليها الولاياتالمتحدة، الى حد كبير، مع الشروط الاسرائيلية، بل إن الموقف الاميركي من الجوانب المختلفة، والقضايا المتعددة، للصراع بين "العرب.. واسرائيل" كان قد تطور، تدريجياً، حتى أصبحت المسافة التي تفصله عن الموقف الاسرائيلي، محدودة بدرجة كبيرة، ومن ثم، يمكن وضع اليد على التناقض الأساسي في السياسة الاميركية، في ما يتعلق بالتسوية. إذ بينما يمثل الوصول إلى تسوية بين "العرب... واسرائيل" مصلحة مهمة للولايات المتحدة، إلا أن هذه التسوية بالشروط الاسرائيلية، يصعب اعتبارها عاملاً ملائماً لتحقيق الاستقرار الذي يخدم المصالح الاميركية في المنطقة. ولعل التناقض المشار إليه، يبدو بوضوح إذا ما اقتربنا من اثنين من العوامل التي تتنازع السياسة الاميركية في الشرق الأوسط من منظور مصالحها "الاستراتيجية" و"الاقتصادية" في المنطقة، وهما العامل الخاص ب"ضرورة الاستقرار" والعامل المتعلق ب"أهمية التوتر". 1- ضرورة "الاستقرار" من منظور المصالح "الاستراتيجية": من منظور المصالح الاستراتيجية الاميركية في منطقة الشرق الأوسط عموماً، وفي المنطقة العربية خصوصاً، تبدو ضرورة الحفاظ الاميركي على "الاستقرار" وعدم التوتر، ضرورة حيوية، نسبة إلى تلك المصالح، المتمثلة في النفط واسرائيل، اضافة الى ضمان أمن شركاء الولاياتالمتحدة في المنطقة. وفي ما يتعلق بهذه المصالح الاميركية الاستراتيجية فقد طورت الولاياتالمتحدة أكثر سياساتها الاقليمية وضوحاً وتبلوراً: الدور الاميركي العسكري المباشر لحماية إمدادات النفط، وضمان تفوق اسرائيل العسكري على جيرانها العرب، والحفاظ على أمن شركاء الولاياتالمتحدة في المنطقة. أما تجاه ما عدا ذلك من مصالح أميركية، فإن الولاياتالمتحدة تتبنى سياسات مرنة، وأحياناً موقتة، بحيث يمكنها أن تستجيب وتتكيف مع المتغيرات في الواقع من دون أن تقيد نفسها بالتزامات طويلة الأمد ومكلفة تحد من حريتها في الحركة. وتبين ملاحظة السياسة الاميركية في الشرق الاوسط، من منظور المصالح الاستراتيجية، وإمكانات تأثيرها على عملية تسوية الصراع بين "العرب.. واسرائيل" أن هناك ثلاث نقاط أساسية، تشير الى النزوع الاميركي للحفاظ على الاستقرار في المنطقة: النقطة الأولى، وهي تلك المتعلقة بالنفط. وهنا يبدو أن الأحاديث التي كان يتم تداولها في الولاياتالمتحدة في الماضي، حول أن تقوم إحدى البلدان العربية أو مجموعة منها، بفرض حظر نفطي، تقلصت الى حد كبير، بل تقلص معها التخوف من حدوث ذلك، فالتغير الذي حدث في الأوضاع السياسية في المنطقة ساهم في بناء قوة الدفع الاميركي، في تجاه التسوية، وبالتالي، فإن الانطباع السائد الآن، أنه إذا حدث أي توقف للنفط لأسباب سياسية، فهذا سوف يعود الى صراع محلي أكثر منه الى نزاع إقليمي. ومن ثم، يأتي التهديد الرئيسي لاستمرار إمدادات النفط للسوق الدولية، في المنظور الاميركي، من المصادر المختلفة لعدم الاستقرار في منطقة الخليج العربي. ويتعلق بعض هذه المصادر بطبيعة التركيب السكاني والاجتماعي والسياسي في البلدان المنتجة للنفط، كما يتعلق البعض الآخر، بالتوازن الاستراتيجي في المنطقة، منطقة الخليج العربي، والذي يجعل كلاً من ايرانوالعراق، مصدراً محتملاً لتهديد بلدان الخليج الاخرى المنتجة للنفط، بغرض الفوز بالسيطرة على مصادر النفط الهائلة في المنطقة. بناء على ذلك، لنا أن نتصور أنه رغم انخفاض احتمال حدوث أزمة نفطية جديدة لأسباب سياسية، وبخاصة بعد حرب الخليج الثانية، إلا أن الولاياتالمتحدة الاميركية لن تتعامل مع هذا الأمر كأنه شيء مسلم به، بل على العكس، فما دام الاقتصاد الصناعي العالمي يعتمد على النفط، وبالتحديد وسائل المواصلات، فإن الولاياتالمتحدة ستظل تتبنى مختلف الوسائل لمنع حدوث أزمات تعرقل او توقف الامدادات النفطية، نظراً الى أهمية النفط، ليس فقط على اقتصادها ورفاهيتها، بل أيضاً، على الاقتصادات الصناعية المتقدمة كافة، وهنا، تبدو أهمية استمرار الوجود العسكري المباشر، والمتزايد، للولايات المتحدة في المنطقة. هذا يعني التوجه الاميركي للحد من أية احتمالية لحدوث توتر بين "العرب واسرائيل"، يمكن أن تؤثر على الوضع في الخليج، وكما تبين، من خلال متوالية مؤتمرات "القمة الاقتصادية للشرق الأوسط وشمال افريقيا"، يبدو الاهتمام الاميركي بالطاقة، ودورها، المكمل - بل الاساسي - في هذا المجال، مجال الحفاظ على حد أدنى من الاستقرار في الشرق الاوسط. وينحصر هذا الدور، بأمرين أساسيين: الأول، يتعلق بدور القطاع الخاص، خصوصاً الاجنبي منه، صاحب الامكانات المالية الضخمة والخبرة الفنية، في ربط المشاريع والبرامج الحكومية في الاقطار المختلفة الواحدة بالأخرى، والتي من الصعب عليها القيام بالمشاريع العملاقة والباهظة الثمن في الوقت الراهن، والثاني، يتعلق بالدور الرائد لكل من الغاز والكهرباء في هذا المضمار، إذ أن هذين المصدرين للطاقة، سوف يلعبان دوراً متميزاً في ربط اقتصاديات الشرق الأوسط. النقطة الثانية، وهي تلك التي تختص بحرص الولاياتالمتحدة على التأكيد في مناسبات عدة على التزامها بالمحافظة على أمن اسرائيل، بل المحافظة على التفوق النوعي العسكري لاسرائيل على البلدان العربية مجتمعة، وجعلها أكبر قوة جوية في منطقة الشرق الأوسط بأسرها، وذلك من خلال المحافظة على المستويات الحالية للمعونات الاميركية العسكرية والاقتصادية لاسرائيل، اضافة إلى دفع مستويات التعاون العسكري بين البلدين الى غايته القصوى. بيد أن التساؤل: هنا هو: هل الوضع الراهن في تطور الصراع بين "العرب.. واسرائيل" في اتجاه التسوية، يهدد المصلحة الاميركية في المحافظة على أمن اسرائيل؟ في حقيقة الأمر، لا يوجد ما يشير إلى ان الوضع الراهن في التطور، من الصراع الى التسوية، يهدد هذه المصلحة الاسرائيلية، إذ أن هناك تعهداً من جانب الإدارات الاميركية المتعاقبة، بما فيها ادارة كلينتون بتقوية الالتزام الاميركي بالمحاظة على التفوق النوعي العسكري الاسرائيلي، ومن ثم، لنا أن نتصور أنه رغم استمرار الصراع بين "العرب.. واسرائيل" قد يكون في بعض الأحيان، مصدراً لبعض التوترات في العلاقات الاميركية - الاسرائيلية، كما حدث في ظل إدارة بوش، إلا أن استمرار هذا الصراع لا يمثل، من وجهة النظر الاميركية، تهديداً لاسرائيل في ظل عدم توازن القوى بين الجانب العربي واسرائيل، والذي تفاقم في أعقاب هزيمة العراق في حرب الخليج 1991. على رغم ذلك، أو على رغم "الإنعدام التقريبي" لتهديد أمن اسرائيل، إلا أن الولاياتالمتحدة لا بد وأن تتجه الى ممارسة قدر من الضغوط على اسرائيل، في اتجاه تقديم بعض التنازلات من أجل استمرار المفاوضات بينها وبين العرب، كحد أدنى للحفاظ على استقرار الأوضاع، وعدم تفاقمها المثال الأكثر وضوحاً، هنا، الإفراج الاسرائيلي عن "بعض" الأموال الفلسطينية، وتخفيف الحصار عن الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة بغرض إعادة مسار المفاوضات بين اسرائيل والفلسطينيين، وذلك باستهداف الحد من تشدد بعض البلدان العربية، وبخاصة الخليجية منها، وهو ما ساهم اتفاق "واي بلانتيشن" في التواصل إليه. النقطة الثالثة: وهي تلك التي تتركز في اهتمام واشنطن بشركائها في المنطقة العربية، من حيث توجهات هؤلاء الشركاء ناحية التسوية وموقفهم منها. وهنا، تعد المعونات الاميركية خصوصاً إلى كل من مصر والاردن، إحدى أهم الأوراق الضاغطة للتحكم في تلك التوجهات. ومن ثم، لنا أن نتصور ان تقوم الولاياتالمتحدة بالدفع الى قيام هذين البلدين بدور "الوساطة" في ما بين "العرب. واسرائيل" للعودة الى طاولة المفاوضات، واحتواء أية إمكانية لتفاقم الأوضاع، خصوصاً في الاراضي الفلسطينية وجنوب لبنان، ناهيك عن الدفع في اتجاه تقوية دور هذه البلدان الى جانب المملكة العربية السعودية، كعنصر مساعد لمجهودات الولاياتالمتحدة في بناء منظومة للتعاون الاقليمي، ليساهم في حماية المصالح النفطية في الخليج. 2- أهمية "التوتر" من منظور المصالح الاقتصادية: على رغم الوجود العسكري المباشر، والمتزايد للولايات المتحدة في المنطقة، فإنه لا يبدو أن ذلك الوضع قد يتطور في اتجاه فرض السلام الاميركي Pax Americanعلى المنطقة، كما سبق للولايات المتحدة وأن فرضت السلام الاميركي على أوروبا في أعقاب الحرب الأوروبية الثانية 1939-1945، إذ أن فرض السلام الاميركي، هذا، له كلفته العالية التي لا تبدو الولاياتالمتحدة مستعدة لتحملها، خصوصاً في منطقة كالشرق الأوسط، لها مشكلاتها وتضاريسها المعقدة. واذا كانت هناك ضرورة، اميركية، للحفاظ على الاستقرار العام في المنطقة، من أجل الحفاظ على المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، إلا أن ذلك لا يعني أن "التوتر المحكوم" ليس له أهمية في ما يتعلق بالمصالح الاقتصادية الاميركية في المنطقة، وبخاصة في ما يتعلق بتوريدات السلاح. إن ما تريده واشنطن، وهي الفاعل الدولي الأكثر أهمية في الخليج، هو "خليج متوتر"، ولكن، في حدود السيطرة، بصورة تبقي احتياج البلدان العربية الصغيرة، هناك، في الخليج للحماية الاميركية المباشرة، بل ولاستيراد الاسلحة الاميركية الازمات المتكررة بين واشنطن وبغداد، مجرد مثال. بيد أننا نشير، هنا، إلى ما يؤكد ذلك، إذ تشكل الولاياتالمتحدة مصدراً رئيسياً لتسليح العديد من الجيوش العربية، وبالذات بلدان مجلس التعاون الخليجي والاردن ومصر ..والمغرب، و يمكن القول إن تسليح جيوش هذه البلدان، في معظمه، هو تسليح اميركي، ولا يقتصر الدور الاميركي على مجرد بيع السلاح لبعض البلدان العربية، وإنما يشمل كذلك التدريب والصيانة والتخزين وغيرها من المهام العسكرية، أضف إلى ذلك، أن الولاياتالمتحدة، كقوة رئيسية في النظام الدولي، تستطيع ان تلعب دوراً محورياً في معدلات تدفق السلاح من الدول الغربية الاخرى الى البلدان العربية. صحيح أن هناك تنافساً غربياً للحصول على عقود بيع السلاح للبلدان العربية، ولكن من الصحيح أيضاً، أن الولاياتالمتحدة تستطيع أن تلعب دوراً مهماً في فرض حظر على تصدير السلاح الغربي، الى بلدان معينة، كما هو في حالة ليبيا. ولنا أن نتصور، والحال هكذا، أن الولاياتالمتحدة، وإن كانت لا تستبعد خيار"التوتر المحكوم" في منطقة الخليج، إلا أنها سوف تحاول بأقصى ما تستطيع أن تبتعد بهذا التوتر عن الامتداد الى دائرة تسوية الصراع بين "العرب.. واسرائيل" أو قل: الابتعاد عن توترات مضافة في ما يتعلق بالتعثر في عملية التسوية، لكن لا تؤثر بالسلب على سيطرتها على "التوتر المستهدف" في منطقة الخليج. لنا أن نتصور، أيضاً، أن الولاياتالمتحدة، من المنظور ذاته - منظور توريدات السلاح -كأهم المصالح الاقتصادية الاميركية في المنطقة العربية، يمكن أن تصرف النظر "ظاهرياً" عن الدوافع الاسرائيلية في أحداث "توتر عسكري" على المسار السوري تحديداً، بشرط أن لا يتجاوز حدود القدرة الاميركية على التحكم فيه، وإدارته لمصلحتها، وبشرط أن لا يؤثر على إحداث نقلات فجائية وهنا يأتي دور "العوامل المساعدة" كالمديونية والمعونات، في مواقف شركاء الولاياتالمتحدة في المنطقة العربية، خاصة العربية السعودية والاردن. وماذا بعد؟! وبعد.. لا يتبقى سوى أن نشير إلى أن العاملين اللذين يتنازعان المصالح "الاستراتيجية" و"الاقتصادية" الاميركية في المنطقة العربية، ويشكلان، من ثم، بانوراما التحرك الاميركي، في الحماس، أو الفتور، في ما يتعلق بعملية التسوية.. هذان العاملان يؤكدان أن الاحتمالات الأكثر رجحانا، خلال السنوات القليلة المقبلة هي تلك التي تتمثل في التقاطع بين السيناريوهات أو: المشاهد التالية: التباطؤ المرضي بين أطراف المفاوضات البلدان العربية واسرائيل، في إطار من التركيز على الجوانب الاقتصادية لمشاريع التعاون الاقليمي، خصوصاً أن هذا المجال يشكل أهمية كبرى للشركات الاميركية. بعبارة أخرى، من المستبعد، في تصورنا، أن تكرر الولاياتالمتحدة ديبلوماسية كيسنغر وكامب ديفيد، إذ أن استعداد الولاياتالمتحدة لشراء "سلام الشرق الأوسط" ببرامج معونات كبيرة، لم يعد، على ما يبدو، ممكناً. وبالتالي، فسوف تتمحور السياسة الاميركية خلال السنوات القليلة المقبلة، حول أن تأخذ الأطراف المسؤولية كاملة للتفاوض كشرط للتوسط الاميركي في هذه "العملية"، إذ أنها سوف تتدخل لتأييد ما قد ينجح الأطراف في التوصل إليه من دون التدخل لتسريع "التباطؤ" المحتمل في انجاز التسوية، خصوصاً أن هناك إدراكاً في واشنطن بأن اسرائيل لها اليد العليا، وأن عملية التسوية تتوقف على اقتناعها بتقديم تنازلات في قضايا معينة الاراضي المحتلة، والقدس، والمستوطنات. أضف إلى ذلك، أن ليس هناك، في واشنطن، من يحبذ الضغط على اسرائيل بصورة فعلية، على الأقل في ضوء الاعتقاد السائد - اميركياً - بأن "الطرف العربي" ليس لديه أي خيار حقيقي، في الاجل القصير، لتحدي الوضع الراهن، فالتهديد، مثلاً، بوقف المفاوضات، لن يحمل وزناً كبيراً، إذ أنه يعني - في الواقع - استمرار اسرائيل في احتلال الاراضي العربية. * كاتب مصري.