فيما تتسارع الأحداث في المنطقة العربية، يتابع العالم انتخابات الرئاسة الأميركية بترقّبٍ واهتمام، لما لهذه الانتخابات من أهميّة وتأثير في الكثير من الملفات الشائكة في الشرق الأوسط، كما في باقي العالم. وتكمن أوجه تشابه واختلاف بين المرشحَين الجمهوري والديموقراطي، ما يطرح تساؤلات حول انعكاسات انتخاب رومني أو التجديد لأوباما على السياسات القائمة تجاه الشرق الأوسط. بات واضحاً أنّ هيمنة الولاياتالمتحدة في العالم آخذة في الانحسار تدريجياً، حيث تبذل روسيا، بدعم من الصين، جهوداً لإعادة بناء نفوذها في منطقة الشرق الأوسط، بعد غياب دام أكثر من عشرين عاماً، وهي تحاول القيام بذلك في شكلٍ رئيس من خلال مشاركتها الفعّالة ودورها في دعم نظام الأسد في سورية. إضافةً إلى ذلك، تصعد قوى أخرى مثل الهند والبرازيل وإندونيسيا وإيران وتركيا لخلق عالم متعدّد الأقطاب. على رغم كلّ ذلك، لا تزال الولاياتالمتحدة هي القوة العظمى الوحيدة القادرة على إبراز قوتها العسكرية في جميع أنحاء العالم، إضافة إلى أنها تملك الاقتصاد الأكبر، وتتمتّع بأوسع مجموعة من التحالفات السياسية والعسكرية والنفوذ في العالم. على مستوى الشرق الأوسط، لا تزال الولاياتالمتحدة تمارس نفوذاً وتأثيراً كبيرين في الأحداث في هذه المنطقة، حيث لها علاقات سياسية واستراتيجية قوية مع معظم بلدان العالم العربي وكذلك مع تركيا. وقد غزت جيوشها في السنوات الماضية أفغانستان والعراق، فيما تقوم أساطيلها بأعمال الدورية في مياه الخليج، وهي إلى ذلك الضامن لتدفق النفط والغاز من منطقة الخليج والقوة الموازِنة الرئيسة للهيمنة الإيرانية المحتملة على الخليج. وتشنّ طائراتها من دون طيار حرباً جوية فوق اليمن، وربما تفعل الشيء نفسه قريباً فوق ليبيا ومالي. علاوةً على ذلك، تُعَد الولاياتالمتحدة الراعي الاستراتيجي لإسرائيل حيث ساندتها في حروب عدة، لكنها أيضاً اللاعب الذي لا غنى عنه في أي محاولة للتوصّل إلى سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وبين إسرائيل والعالم العربي. من هنا، تؤثر نتائج الانتخابات الأميركية في منطقة الشرق الأوسط بصورة كبيرة. فقد كان انتخاب جورج دبليو بوش لمنصب الرئاسة في عام 2000 ودخول مجموعة من المحافظين الجدد إلى البيت الأبيض، هو الذي حدّد ردّ فعل الولاياتالمتحدة على أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، وأدّى إلى ظهور عقد من الغزوات والحروب. وكان لانتخاب باراك حسين أوباما، وهو رجل ذو جذور أفريقية وإسلامية، لرئاسة الولاياتالمتحدة في عام 2008، أهمية رمزية عميقة بالنسبة إلى مفهوم العلاقات العربية - الأميركية والإسلامية - الأميركية. كما كان لآرائه السياسية وأسلوبه تأثيرٌ كبير في كيفية تعامل الولاياتالمتحدة مع الثورة ضدّ واحد من أهم حلفائها في العالم العربي، الرئيس المخلوع حسني مبارك، وتشكيل سياسة أميركا تجاه الربيع العربي عموماً. وللانتقال إلى أهمية موقع الرئاسة في النظام السياسي للولايات المتحدة، فقد حدد الدستور الأميركي أنّ للرئيس معظم الصلاحيات في قيادة السياسة الخارجية للبلاد. فهو الذي يعيّن وزراء الخارجية والدفاع ومدير وكالة الاستخبارات وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة، كما أن الرئيس هو الذي يحدّد معالم السياسة الخارجية، وهذا يشمل الشؤون الاستراتيجية والأمنية والسياسية والاقتصادية. في ما يتعلّق بالمصالح التي تحدّد اتجاهات السياسة الخارجية الأميركية، لا شكّ في أنّ هذه المصالح، بما فيها في الشرق الأوسط، ثابتة إلى حدّ كبير ولا تتغيّر كثيراً من إدارة إلى أخرى. وفي الشرق الأوسط تشمل الالتزام الكامل بأمن إسرائيل، والتزاماً قوياً بتدفق النفط والغاز من منطقة الخليج، ومنع إيران من تطوير سلاح نووي، ومتابعة «الحرب ضد الإرهاب» وضد تنظيم «القاعدة» تحديداً. لكن هناك تبايناً تاريخياً كبيراً، حتى ضمن الالتزامات الثابتة، في الكيفية التي رسم مختلف الرؤساء سياستهم تجاه الشرق الأوسط. فمثلاً، عمِل الرئيس كارتر مع مناحيم بيغن وأنور السادات للتوسّط في عقد اتفاقات كامب ديفيد، في حين عمِل الرئيس جورج بوش مع آرييل شارون لعزل ياسر عرفات. وردّ جورج دبليو بوش على التهديدات من الشرق الأوسط بغزو أفغانستان والعراق وتهديد دول أخرى، في حين ردّ الرئيس أوباما على التهديد من خلال السعي إلى المصالحة والحوار. ارتأى بعض الرؤساء الأميركيين أن تأمين مصالح أميركا في النفط والغاز يتحقق من خلال الانتشار العسكري المكثف، بينما ارتأى آخرون أنه يتأمن من خلال بناء تحالفات إقليمية وتحقيق الاستقرار في المنطقة. وتكتسي هذه الانتخابات أهمية قصوى من ناحية الملفات المتعددة التي سيواجهها الرئيس العتيد، والأزمات والأحداث المتسارعة في العالم، وعدد لا بأس به منها يقع في منطقة الشرق الأوسط. وتشير الاستطلاعات إلى أنّ الفارق بين أوباما ورومني أصبح ضئيلاً جدًا بحيث بات من غير الممكن التنبؤ بهوية الفائز أو حتى لمن تميل الدّفة في الولايات المتأرجحة، حيث تقتصر المنافسة على تسع ولايات فقط هي فلوريدا وأوهايو وميتشيغان وكارولاينا الشمالية وفرجينيا ووسكونسن وكولورادو وآيوا ونيفادا، فيما النتائج محسومة في باقي الولايات حيث الاتجاه والانتماء السياسي معروفَان. وجاء إعصار «ساندي» ليزيد الصورة غموضاً والتكهنات صعوبة، إلا أنّ الإعصار قد يعطي الرئيس أوباما فرصاً عدة لإبراز دوره القيادي في إدارة أجهزة الإغاثة الفيديرالية والظهور على الإعلام في شكل ايجابي. وقد يزيد ذلك من حظوظ فوزه الأسبوع المقبل. يصل عدد الناخبين العرب في الولاياتالمتحدة إلى حوالى 1.6 مليون ناخب. وقد صوّت حوالى 67 في المئة منهم لأوباما في انتخابات عام 2008، لكن استطلاعات الرأي الأخيرة تظهر أن هذه النسبة ستكون أقرب إلى 52 في المئة في الانتخابات المقبلة، في حين أيَّد 28 في المئة آخرون رومني، و20 في المئة لم يحسموا أمرهم بعد. وفيما التأثير العربي في المشهد السياسي في الولاياتالمتحدة ما زال ضعيفاً على مستوى الصحافة ووسائل الإعلام الأميركية والمنظمات السياسية، تستغلّ الجالية اليهودية نفوذها إلى أقصى حدّ ممكن. إذ لدى هذه الجالية مجموعة كبيرة من المنظمات السياسية أبرزها لجنة الشؤون العامة الأميركية - الإسرائيلية (إيباك)، التي تتفاعل مع الكونغرس والبيت الأبيض والمؤسّسات الحكومية الأخرى في محاولة للتأثير في عملية صنع القرار. ستؤثر نتائج الانتخابات في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي. فيما سياسة أوباما الخارجية سجلّ مفتوح يمكن فحصه ودراسته بعد قضائه في السلطة مدة أربع سنوات، لا يبدو المشهد واضحاً في المعسكر المقابل، إذ غيّر رومني مواقفه تكراراً حيال الشؤون الداخلية والدولية، ولم تُختَبر توجهاتُه في حقل السياسة الخارجية بعد. قد ينتهج رومني، في حال فوزه، سياسة أكثر مواجهةً مع إيران، وسرعة أكبر في دعم الثوار في سورية وتسليحهم، في شكل مباشر أو غير مباشر. ومن شأن إدارته أيضاً أن تكون أكثر تشكّكاً تجاه الحكومات الإسلامية في مصر وتونس ودولٍ أخرى. كما أنه، في حال خاصم رومني روسيا والصين، سيؤدي ذلك إلى تقليص إمكانية إجراء مفاوضات دولية أو التعاون حول قضايا رئيسة في الشرق الأوسط، مثل الصراع في سورية أو المسألة النووية الإيرانية، وسيزيد من حدّة كل من التوترات العالمية والإقليمية. في الملف الفلسطيني، لا يمكن توقّع إحراز تقدّم جدّي في عملية السلام في إدارة أوباما أو رومني على حدّ سواء. فقد حاول أوباما إحراز تقدم وفشل، وليس من المرجّح أن يحاول مرة أخرى، ورومني متحالف مع اليمين الإسرائيلي وليست لديه نيّة لممارسة أي ضغط على إسرائيل. وبالنسبة إلى منطقة الخليج العربي، فإن لدى كل من أوباما ورومني مواقف مماثلة تجاه الالتزام بالوجود العسكري الأميركي في الخليج وحماية تدفق النفط والغاز من المنطقة. وكانت إدارة أوباما قد تحدّثت عن أهمية الإصلاح السياسي في دول مجلس التعاون الخليجي، واختلفت مع بعض دول المجلس في شأن التعاطي مع الأزمة في البحرين، لكنها لم تضغط في شأن هذه المسألة والمرجّح أنها لن تفعل في فترة ولاية ثانية. كما أنه من غير المرجّح أن تثير إدارة برئاسة رومني هذه المسألة على نحو جدّي مع دول المجلس. أيام قليلة تبعدُنا عن انتخاباتٍ مفصلية سيترتّب على نتائجها، أياً تكن، أثرٌ على مسار الأحداث والتطورات والسياسات في الشرق الأوسط والعالم. * مدير مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت