استقبلت صالة "غي كريتي" الأعمال التعبيرية للفنان بهرام حاجو المقيم في ألمانيا، وفيها منتخبات تتجاوز في عددها الخمسين من أنضج أعماله الأخيرة. والفنان من مواليد قرية "قبور البيض" بالقرب من مدينة القامشلي في شمال سورية عام 1952، ومن عائلة كردية، وقد درس الرسم في أكاديمية بغداد منذ بداية السبعينات ليستقر بعدها في مدينة مانستر الألمانية القريبة من دوسلدورف، وقد تركز نشاطه في المانيا بعد حصوله على الجنسية، وتنقلت معارضه الى أوروبا وأميركا من برلين وبون الى بروكسيل ولندن وبودابست ثم نيويورك أما المعرض الوحيد الذي أقامه في دمشق فكان عام 1994 في "صالة دمشق". بعد انتقال بين التجريد التعبيري والتشخيصية التعبيرية ينحاز الرسام الى الطرف الثاني، وقد تظاهرت النزعة التجريدية السابقة من تأثره بمنهج الفنان الإسباني أنطونيو تابييس: المساحات العدمية الرحبة، والكتابات والإشارات المتصارعة معها. وقد بقي هذا المنهج في تكويناته البشرية التالية، فهو ينتزع الأشخاص من بياض الأرضية ثم يعود الى بياض الفراغ بتعديل رسم الأشخاص. وهكذا تقع أهمية المعرض في أنه يمثّل لوناً متقدماً من التعبيرية العربية، تلك التي يتجه سهم تطورها باتجاه التشخيصية المحدثة، وذلك بالتأكيد على الاختزال الحدسي في الهيئة السحرية وذاكرة المكان، والاعتماد على الإلماحات الكرافيكية ذات الأبجدية الكونية، بريئة من التقنية المنمّطة والمثاقفة التشكيلية التي قادت الى أكثر من طريق مسدود. وإذا كانت هذه المنطلقات لا تخلو من التعميم فإن اقتراب العدسة الذوقية من خصائص الرسام تكشف توليفاً معقداً بين محمول التعبيريات الثلاث: العراقية والألمانية والسورية. تتكشّف بصمات مدرسة بغداد من ميراث جواد سليم في تجارب جماعة "الرؤيا الجديدة"، ضياء العزاوي وعلي طالب وفتاح الترك. ويتبدّى تأثيرهم على حساسية بهرام من حساسية الصراع المأسوي بين المساحة والخط، ثم الطابع الكرافيكي المأزوم، ثم، تبدو الحاضنة التعبيرية الألمانية أشدّ تأثيراً، وعلى الأخص رؤوس ماكس بكمان ثم مروان مروراً بالبلجيكي كوكوشكا، فإذا ما اقتربت عدستنا أكثر وجدناه مختلفاً عن هؤلاء وعن توائمه في المحترف السوري نذير اسماعيل وباسم دحدوح وسواهما، ذلك أن رؤوسه في الكثير من أحوالها في المعرض تبدو متخمة باللون النيلي، ذلك اللون الذي يذكر بالشبق الإسفنجي الذي كان يستخدمه الفنان الفرنسي إيف كلاين، صباغة انتحارية سادية تتقمص أحوالاً من التلوّث البيئي الأيكولوجي والروحي عن طريق اللدائن البترولية، ثم ان رؤوسه تبدو شاخصةً بنظرة رافدية مقلقة، ساهمة نحو الأبدية، قريبة أكثر من رؤوس علي طالب الأخيرة التي تمثل دريئة اغتيال مزمن واحباط قدري لا حدود لتوجعاته. يتنازع لوحات المعرض - مع ذلك - اتجاهان، يبدو في الأول الإنسان قزماً في فراغ عملاق، وكأنه عرائس شبحية مقصوصة بعكس الضوء، أما الاتجاه الثاني فيحشر الوجه في لوحات عدة، تتعملق كتلته وتمتد في الفراغ من شتى أطرافه. وعلى رغم أن ملامحه الذاتية الظاهرة منها والباطنة مزروعة في إيماءات هذه الرؤوس فإن حساسيته التشكيلية توشم - بصورة أشد وثوقية - سلوك الفرشاة والسيلانات الهائجة في المادة، والنسيج المتمزق في تآكلات السطوح. ينمو هذا التأثير مع التقنية المختلطة التي يجمع فيها الرمال مع ألوان الأكريليك مع الإمولسيون، وهي التقنية المأخوذة من تابييس كما رأينا. وبالقدر الذي يبدو فيه جدار اللوحة متصحراً مع العواطف الرومانطيقية يرتشف محنة الإحباط حتى الثمالة، فتبدو وكأنها جرح ممعن في النزيف، صفعة تمتد على مساحة الأبدية. هل يبقي مكان للحساسية التشكيلية الكردية في ركام هذا التوليف؟ ألا يطرح هذا الموضوع إشكالية خصائص المحترف الكردي التي لم يحسمها ناقد كبير مثل الشاعر الراحل بلند الحيدري؟ لقد اكتفى بتقديم بعض نماذجه مثل الأخوين مدحت وهمت علي، وظلت كتاباته في حدود استدعاء الذاكرة المكانية المختنقة بطوباوية الشمس، وبقدر الترحال والتشرذم، ولم يتصدّ لبقية العقد: آزاد ودارا وحمدي، ولكن هل هناك فن كردي خارج إطار حاضناته القطرية أم أن هناك نوعاً من العصبية الكردية في الثقافة وهي تبحث عن تمايزها في عصر العولمة الثقافية؟ لو عدنا الى المعرض لعثرنا على أنماط من القرابة وربما القصدية مع تجربة بشار العيسى. فانتزاع الأشخاص من الأرضية بقوة اللون الأبيض، والحس التاريخي في جمهراتهم، هما من المواصفات المشتركة بين الاثنين، وقد يشاركهما في ذلك بدرجة أقل الفنان رمزي قطب الدين. ولكن الثلاثة يتناقضون مع تجارب بقية العقد. وإذا كان ما يهمنا في المعرض هو البحث عن الخصائص التشكيلية والإنفعالية والبسكولوجية أكثر من الإطار العام في الانتماء الثقافي، فإنها تتمثّل في التنازع المزمن بين مساحة الهيكل الإنساني المغترب والفراغ ساحة الاغتراب. لندع بهرام يشرح واحدة من أبرز اللوحات، وهي تمثل ثلاثة أشخاص متراصين بهيئة معدنية مصفحة بالفولاذ والحديد. يربط بهرام بين هؤلاء والدلالة الرمزية التي تعطيها سيرة اغتيال يوليوس قيصر من قبل المقربين اليه في مجلس الشيوخ، وقوله الأخير الشهير عندما أجهز عليه أقرب أصدقائه: حتى أنت يا بروتس! ألا تشير اللوحة والشرح الى عمق فاجعة الغربة والاغتراب الروحي، بعد فاجعة الأرض والثقافة التي تقاوم الإندثار؟ هكذا يندمج في شخوص بهرام الشهيد بالجلاد، كما هي دريئة علي طالب الرأس المقطوع، والشاهد على اغتيال طائر الحرية الذي يعيش ضمير الفنان، ابتدأت عذابات هذا الطائر التشكيلي من تسليمه بقدر قفص الزنزانة، وانتهى الى تسليمه بقدر الاغتيال المؤبّد. تتحقق أهمية تجربة بهرام من أهمية الأسئلة التي يطرحها، والتي تتجاوز محنة التشكيل التعبيري لديه.