يصوّر نذير اسماعيل في معرضه الجديد صالة عشتار باقة من الوجوه والأقنعة والطواطم والعرائس، فتبدو وكأنها تعكس وجهه الداخلي في تحولاته ومعاناته. تتكوّن اللوحة إذاً من مشكاة متعددة الوجوه، تترصّد صيرورة "الأنا" المأزومة، المحاصرة باختناق تعبيري وسحري حاد، مختومة بصمت مريب يتوجّس زلزلة ذاتية مدمّرة، أشبه بالسكون الموحش الذي يسبق العاصفة. تزرع رؤوسه الفراغ بحيث لا يمكن فصلها عن الشبكة الزنزانية المتعامدة، تلتصق، تتمفصل مع حجيراتها المعزولة وقماقمها المهندسة. فالوجه كينونة انفصامية، محكومة بعزلة سيزيفية لا حدود للوعتها. لعلّه الصراع التشكيلي العريق بين العالم المهندس والشكل العضوي. وإذا كان هذا الأخير مكبّلاً بتعامدات الأول فإن تصوير نذير يتجاوز احباطية هذا الصراع، ساعياً خلف طوباوية لونية توقيعية، تكاد نواظمها الموسيقية تطغى على تراجيدية الموضوع. تبدو مصادفات اللون تضاريسه، أنسجته، وتنوعاته الحسّية أشدّ حبوراً من أحوال القناع وهواجسه التطيرية، وخصوصاً أن حساسيته التعبيرية تصبو الى تدمير العلاقة الافتراضية بين المنحني العضوي والعمود المعدني. تستمر خيانة نذير لسكونية الموضوع، فتشفّ باقة الوجوه عن باقة زهور، وضريح، وبيت من الطين الدمشقي، وحين يقتصر على رأس واحد تحضر دلالة الشهيد في اللاوعي الشعبي، من هذه الذخائر يستخرج أيضاً عرائس "مسرح الظل" المصبوغة بالأساطير التعويذية والسحرية، فينقلب طابع العبث واللاجدوى والإحباط الى أحوال من الحلم والهذيان، والتفريخ الشطحي للرؤوس بحيث تتظاهر وكأن "على رؤوسهم الطير". يفرخ الطير بدوره كائنات كابوسية تربض على الجماجم في وضع ملتبس يقع بين سكينة الحمام والنوارس وسادية الكواسر التي تنهش العظام واللحم. ثم يستعير من رسوم المخطوطات اعتبارها العالم ورقة مسطّحة، تتحرك عناصرها داخل رقعة شطرنج، تنتظم الرؤوس ضمن هذه التكوينات فتسلّم دورها الى قوة الفراغ الفاصل، فتنافس توقيعاته أهمية الرؤوس. وكثيراً ما يغلب لون الفاصل على لون الشكل، بل ان خصائص الحالة البسكولوجية الفجائعية تخضع الى درجات الألوان المسيطرة أكثر مما ترتبط بإيماءات الوجوه وميتافيزيقية الطير وسواه. تقع بصريات نذير إذاً في تنازع حاد بين تعبيرية الوجوه، ولغة اللون. وتسيطر على عوالمه بالإجمال درجات رهيفة من الألوان الخريفية المشحونة بقوة تجاوز زنزانات الموضوع والتكوين الهندسي، والخروج الى رحابة التشكيل الحر والمغتبط في آن، كثيراً ما يستسلم الى اغراء الخامات التجريبية وأنواع الأحبار والصباغات، والخطوط الحدسية. عالم طوباوي تطهّري ينقذ لوحة نذير من وحشة الزنزانة وخرائطها التي تمسك بمغرب الشمس ومشرقها كل يوم. والفنان من مواليد دمشق 1948، وعلى رغم موقعه المتميز من جيل التعبيرية الثانية فهو فنان عصامي تحول من الرسم الهندسي الى اللوحة وسرعان ما احتل أهميته منذ السبعينات. أما المادة التي استخدمها نذير اسماعيل في لوحاته المعروضة فهي تتفاوت بين الورق والقماش والتقنيات المختلطة التي تدمج بين الزيت والمائيات. وصالة عشتار للفنون الجميلة التي باتت موئلاً للحركة التشكيلية السورية ويديرها صاحبها الفنان عصام درويش متعاوناً مع شكران المدرّس زوجة الفنان السوري الراحل فاتح المدرّس.