إيطالي: «من كليرفران إلى ميلانو» تبعثرت حول متاحف هاتين المدينتين وفروعهما، معارض شابة، ولكنها هرمة على مستوى علّو التقنيّة التشكيلية. بعض المجلات النقدية الكبرى مثل «البوزار»، اعتبرها معرضاً واحداً مشرذماً بين مواقع فرنسية وإيطالية، بخاصة أن الفنانين المشاركين من جنسيات متعددة كما سنرى، وبعض المجلات خصص عدداً كاملاً لهذا الموسم الذي يمثل الظاهرة المركزية، على مستوى إثارة المحور. يجمعهم أن تشخيصات ما بعد الحداثة (التي ترجع أصولها إلى السبعينات والثمانينات) تغلبت على أنماط التجريد، سواء الغنائية أم الهندسية، والتي بعثت أنفاسها من جديد بعد القضاء على تياراتها منذ الستينات في مدرسة باريس، ولا شك في أن عودة التشخيصية الجديدة يمثل استمراراً للتيارات التشخيصية العريقة في نيويورك وبرلين. مثل التعبيرية الجديدة والبوب آرت والتعبيرية الألمانية الأولى (ما بين الحربين) والثانية لما بعد الحرب العالمية الثانية. وهنا يحضر في شبابية الأساليب المعروضة بصمات كبار رواد الطرفين مثل وليام دوكوونينغ في نيويورك، وأسجر جونس في بلجيكا (جماعة الكوبرا) وجورج بازلتز وكييفر في ألمانيا، وبيكون وهاملتون في لندن. وذلك بمعزل عن فرنسا وايطاليا حاضنتي هذه التظاهرة. لكن حكم التعميم في هذا المحور - العنوان، لا يخلو من التعسّف والتفريق الحاسم بين التجريد والتشخيص، بخاصة أن هناك تيارات ما بعد الحداثة حداثية أميركية لا تقبل بهذه الأسلبة العنصرية. طالما أن التاريخ الفني في القرن العشرين يشتمل على أمثال بول كلي ونيكولا دوستائيل وحتى بيكاسو الذين يعملون في التشخيص والتجريد على السواء، وأحياناً بجمعهما ذوقياً أو مخبرياً، إذ إن تاريخ التجريد أعطى للتشخيص مساحة حرية تعبيرية وموسيقية أرحب. والتجريد في الأساس خرج من رحم الواقعية والتشخيص، فالفنان إستيف مثلاً ما هو إلا الوريث التجريدي الشرعي لمعلم الذاكرة المشخصة وهو بيير بونار. لا تحجب جملة هذه المعارض البصمة التوليفية في الأسلوب الأدائي، والمخلفات المأزومة التدميرية: من التشخيص التعبيري إلى عبثية الدادائية المحدثة (شونبرغ)، مع بعض التوابل المتخبطة الوافدة من حيرة المدارس في أميركا اللاتينية أو الصين وسواها. أبرزها هذه المعارض المقامة في فرنسا متحف كليمان تحمل عنوان «على ماذا تعتمد جمالية الإحباطات»؟ يشارك فيه أوفيرنيو وآداش وكاديو وموريس وأوكو وغيرهم. المعرض الثاني الباريسي في غاليري كارستين يعانق أعمال جيديون روبان ومستمر حتى فصل الربيع. والثالث هو مود وماري في غاليري أتراف في مدينة تونون الفرنسية بعنوان استفزازي: «بصوت صريح» مستمر حتى منتصف آذار (مارس). أما الرابع فللفنان سينيور الأيطالي في غاليري مونيكا في ميلانو، أما الفنان بيير سانتوريي فموجود في متحف الفن المعاصر في سان إتين وفي غاليري فيليب وفالو في باريس. تقع هذه المعارض المركزية في شتاء وربيع العام، بعضها إبتدأ قبل ذلك بقليل وبعضها سيستمر بعد هذا التاريخ بقليل. رافقت أو هيأت لهذه المجموعة معارض تملك صلة بالظاهرة المذكورة المعادية للتجريد، من مثال مجموعة معارض عن الجسد الأنثوي أو إعادة تقاليد البورتريه أو الأوتوبورتيريه، مع واسطة العدسة الضوئية «الكاميرا». لعل أشدهم أصالة التيار الذي أطلق عليه مؤسّسهُ أيتيل الألماني: «التصوير السينمائي» تيمناً بأعمال هوبير صديق المخرج ألفريد هتشكوك. استعمل أحياناً بعض العناصر الإستهلاكية المسرحية مثل الستائر أو الديكورات التجريدية محافظاً على مركزية إنسانيّة للشخص الرئيسي. وهكذا فإن إعادة استخدام العناصر الإستهلاكية الموروثة عن البوب آرت بطريقة حداثية تصل حدود العوم التخيلية. لعل أبرزهم الأميركية كاترين في لوحتها النجمة، والتي صورت فيها فواكه مزروعة في فراغ مسطح شاسع، وبألوان مشعة. أما الإنكليزي بيتر دوانج فيستعيد مشهداً ليلياً موحشاً لا يخلو من الرتابة والأسلبة. أما السويدي سورنسو فقد أثار الانتباه والإعجاب لطريقته شبه التجريدية في تبصيم الاشكال (القريبة من الزهور المبسطة) على أرضية سوداء. يدعي عدد من هؤلاء الفنانين بخاصة الموهوبين منهم بأن هدفهم ينحصر في استثمار معنى التّصوير من الباليتا (صفيحة الألوان)، وعلى رغم نورانية مقاماتهم اللونية فإن فيها مسحة من الحزن القيامي ينذر بنهاية العالم.