تفترش جدران صالة "مرايا" لوحات الفنانة الشابة ديما حجار من مواليد بيروت 1968. والمعرض اثار اهتمام الذائقة التشكيلية في العاصمة، ليس فقط بسبب أصالة او حدة تجربته المبكرة، وإنما - وهو الأهم - مخالفة هذه التجربة لركام العروض المخملية خاصة التجريدية التي اجتاحت صالات ما بعد الحرب. تطرح ديما مثل فاديا حداد وأمل سعادة وسمير خداج، سؤالاً جوهرياً حول البديل الجمالي الجديد للوحة الطرب والغبطة والموال السابقة للحرب! هل يمكن أن تحل مشاعر الإحباط وهواجس التجربة الداخلية التي تعلن غروب العالم محل الإثارة الحسية التي عرفت بها التجارب المتوسطية اللبنانية؟ لم لا؟ ألا تشكل وجدانية اللوحة وعمق صدقها والتصاقها بالتجربة المعاشة أساساً في أصالتها؟ ألا يمكن أن تحل فضائح الذات ومرآتها العبثيّة محل إثارة التبرج اللوني والإغراء الحسي في تنغيماته الشائعة؟ لا تستجدي مثل هذه التجارب أية مباركة تسويقية، لأن الفعل الإبداعي يمثل بحد ذاته خلاصاً وجودياً، تبدو بالتالي مخالفته للأصول الأكاديمية عفوية. تعاني تجارب أمثال ديما من سطوة "الباليتا" المغتبطة، وسلطتها التفاؤلية المتناسخة عن تجارب معلمي الستينات. ولكن أمثالها وعلى رغم تشظّيهم بين بيروت وباريس لا يمكن تجاهل حضورهم الضميري اليوم في تصوير ما بعد الحرب، ورفضهم الإذعان لوهم صناعة العالم كمشهد مثالي انفصامي. وإذا كانت ديما تعبّر عن الانفصام "البسكولوجي" فحالتها الجمالية لا تعاني من أي انفصام. فهي تنتمي صراحة الى حساسية "التعبيريين الجدد" أو تيار "التشخيصية المحدثة" التي تعيد للمعرفة الحدسية والهذيانية والسحرية والطفوليّة أفضليتها وتفوقها على عقل المثاقفة النقدية والمختبر "الديكارتي" النظري، ذلك المختبر الذي قاد الى مصائب اللوحة المعاصرة، ومنافقاتها الأخلاقية. ولكن ماذا تصوّر فنانتنا الشابة؟ تسترجع من رسوم طفولتها صدق ذاكرتها، فتكشف كوابيس منسية مكبوتة، كأن تبدو الوجوه موشحة بالوحشة، تعيش غربتها وتوحدها في فراغ حلمي، ترمي الأشكال ظلالاً ثقيلة تكاد تتفوق في شدة كثافتها على الأشخاص. تبدو الخطوط رهيفة الحساسية بريئة التعبير حادة المأساة. تبتدىء الصباغة من لون الخطوط القاتمة وقد تتشكّل المساحات من بقايا محقها ومحيها ومراجعات محاولاتها، حتى لتبدو بعيدة عن أي قرار حاسم، فكل دلالة أو تفسير قابل للنقض والتعديل، وما أن تشارف اللوحة درجة من الكشف والبوح النسبي حتى تتوقف ديما عن الاستمرار في العمل داعية المشاهد للمشاركة الفعالة في إتمام رسم الملامح في جدار مخيلته الحرة. ولكن إذا كانت دلالات الأشكال لا تصل حدود التصريح فإن خرائط التكوين الفلكي تبدو أشد وثوقية، بحيث لا تقبل مواقع الأشياء أية إزاحة. فالعمارة الفراغية تتوالد من سعي هذه العناصر الى الاستقرار. تبدو الوحدات الأولى وكأنها أشكال جنينية رحمية مقمطة تتوالد منها الشخوص الطفولية. عالم بريء ولكنه مشحون بهواجس الكبار، نعثر على بعض منتجات العالم الاستهلاكي التي ترصّع رسومها الحرة مثل شكل جهاز الهاتف النقال الخلوي أو الحذاء الرياضي وغيرهما. وهنا نصل الى مساحة السخرية او العبث التي تحوّل الوقائع اليومية وهو عنوان المعرض الى وقائع ميتافيزيقية طوباوية لا تخلو من الإثارة واللغزية والغرائبية المعاصرة. فهي لا تلاحق بشاعة العالم، وإنما تفضح حقائقه الوجدانية "والبسكولوجية"، وتسفر عن أشد المواقع والصور الحدسية سرية وتحجباً وحياءً. فتبدو اللوحة وكأنها نافذة تفضح مكنونات الذات وتهتك عوراتها لخيال المشاهد. وكثيراً ما تخرجنا طريقة الأداء الخطيّة والصباغية من كابوسية هذا العالم السري، تعيدنا من جديد الى غبطة التصوير ومواجيده التي تتجاوز وحشة الموضوع والإيماءات وشبحية الشخوص. لعله البحث عن سعادة غاربة في ضميرٍ من الأنقاض التي خلفتها آثام الحرب الأهلية.