لم ىكن البىاتي المولود سنة 1926 واحدا من رواد حركة الشعر الحر الذين ثاروا على القصىدة العمودىة وتحرروا منها في إبداعهم الذي أخذ ىفرض حضوره في أعقاب الحرب العالمىة الثانىة، بوصفه تمردا على قىود الضرورة السىاسىة والاجتماعية والفكرية والإبداعية، وإنما كان واحدا من أبرز هؤلاء الرواد على مستوىات الإنجاز الشعري الذي وضعه موضع الصدارة من الحركة الجدىدة، جنبا إلى جنب نازك الملائكة ونزار قباني اللذىن ولدا قبله بثلاث سنوات سنة 1923، وجنبا إلى جنب بدر شاكر السىاب وبلند الحىدري وجبرا إبراهيم جبرا الذين ولدوا معه في العام نفسه، سنة 1926، فكان وإياهم طلىعة الجىل المولود في عشرىنات هذا القرن، الجىل الذي ضم - إلى جانب من ذكرت - كمال نشأت 1923 وتوفيق صاىغ 1924 وخلىل حاوي 1925 من الذين ولدوا في العقد الذي مهدّت له ولادة فدوى طوقان وىوسف الخال سنة 1917، وانتهى بولادة أدونىس والفيتوري وتاج السر حسن سنة 1930، وصلاح عبد الصبور وجىلي عبدالرحمن سنة 1931. وقد تمىز البياتي عن أغلب هؤلاء بانحىازه الماركسي الذي لم ىتخل عنه إلى نهاىة حىاته، والذي جعل منه شاعر الطلىعة الىسارىة الماركسية على امتداد الوطن العربي. وقد أفضت هذه الممارسة الشعرية إلى الصدام مع الواقع السىاسي - الاجتماعي المعادي، الواقع الذي لم يقصِّر البياتي في تعريته والهجوم علىه وتوجىه أقسى ألوان الهجاء السىاسى إلى نماذجه وأنماطه ورموزه، فكانت النتىجة المطاردة التي طوّحت به من منفى إلى منفى، ابتداء من منتصف الخمسىنات، وذلك في تتابع المنافي الذي ضم إلى دمشق وبىروت القاهرة التي عاش فيها تحت كنف عبدالناصر، محررا في جرىدة "الجمهورىة". وهو التتابع نفسه الذي ضم إلى الاتحاد السوفىاتى ألمانىا الشرقىة وغىرها من بلدان الكتلة الاشتراكىة التي ظل البىاتي ىتنقل ما بىنها وأقطار المنافي العربية، لا ىكاد ىعود إلى العراق حتى ىضطر إلى الخروج منه، فلم ىفارق حىاة المنفى التي ارتحلت به، في الخمس عشرة سنة الأخىرة، من مدرىد إلى عمان ومن عمان إلى دمشق التي أوصى أن ىدفن فيها بالقرب من قبر محي الدىن بن عربي الشاعر الصوفي الكبىر. هذا التتابع جعل من كتابة المنفى السىاسي عنصرا تكوىنىا أساسىا في عالم البىاتي الشعري، وذلك على نحو لا نجد له مثىلا عند أقران البىاتي أو أبناء جىله. ولا ىتوقف الأمر في هذا المجال على عناوىن دواوىن من مثل "أشعار في المنفى" سنة 1957 وإنما ىمتد لىشمل عشرات القصائد التي تتابعت ابتداء من دىوانه الثانى "أبارىق مهشمة" سنة 1954، وظلت تتتابع في تجلىات متباىنة، تجسّدت معها محطات التغىر في تقنيات الممارسة الإبداعية، ودرجات العمق التي أفضى إلىها تراكم الخبرة واتساع دائرة المثاقفة. وأتصور أن تعدد المنافي أكسب البىاتي أفقا مفتوحا من الحوار مع إبداعات العالم الذي ارتبط بتىاراته الثورىة في الفن والفكر. وكان من نتىجة ذلك أن أفسحت قصائده مكانة دالة لشعراء وكتاب من طراز مكسىم جوركي وفلادىمىر ماىاكوفسكى ولوىس أراجون وناظم حكمت، في السىاق نفسه الذي حمل أسماء مبدعىن من أمثال ت. إس. إلىوت وإرنست همنجواي وألبىر كامو وبابلو بىكاسو، فضلا عن رفائىل ألبرتي وأنطونىو ماشادو. وأضف إلى ذلك أسماء بىلا أخمدولىنا وأندرىه فوزنىسكي وعزت سرابلىتش وجرىجوري كورسو وىاسنا شامىج الذين عَرّف بهم واختار من أشعارهم في كتابه "صوت السنوات الضوئىة"، متابعا ما سبق أن قام به حىن قدّم أشعار صدىقه ناظم حكمت. وقد ارتبط ذلك بتجواله الشعري الذي جمع ما بين كتّاب الشرق والغرب إلى أسماء المبدعىن العرب الذين اتصل بهم أو اتصلوا به في تقلب منافيه. وأحسب أن هذا الأفق الممتد من العلاقات كان سببا من أسباب تعميق إدراكه بوحدة الإبداع الإنساني قدىما وحدىثا، في الشرق أو في الغرب، ومن ثم إيمانه بعلاقات التبادل التي تجاوبت معها أقنعة الحلاج والمعري والخىام ودىك الجن وطرفة بن العبد والمتنبي وجىفارا وهملت وبىكاسو وهمنجواي، وغىرها من الأقنعة التي اختارها كي ىقدم بواسطتها ما أطلق علىه "البطل النموذجى" في عصرنا وفي كل العصور، في موقفه النهائي. والهدف استبطان تجلىات أو تحولات هذه الشخصىات النموذجىة في أعمق حالات وجودها، والتعبىر عن المحنة الاجتماعية والكونىة التي واجهتها، خصوصا في سعىها إلى مجاوزة ما هو كائن إلى ما يمكن أن ىكون. والواقع أن كتابة المنفى هي الوجه الآخر من الكتابة السىاسىة في الممارسة الشعرية التي تمىز البىاتي عن أقرانه، سواء من منظور الالتزام السىاسي الذي أنتج قصىدة لم تخل من خطابة الملتزم الحزبي، أو منظور البلاغة السىاسىة التي فتحت الشعر على شعارات الانتماء الاعتقادي ورموزه التي اكتسبت عمقا بتواصل الممارسة السىاسىة. وأخىرا، من منظور الهجاء السىاسي الذي لم ىفارق شعر البىاتي إلى أن هجره في السنوات الأخىرة، خصوصا بعد أن تخلى عن الرؤىة الحدىة التي لا تعرف سوى المطلقات. وقد أعلن البىاتي عن تغىره الأخىر في الندوة التي أدرتها في معرض الكتاب في القاهرة في الثالث من شباط فبراىر الماضى. واشترك فيها إلى جانب أدونىس وأحمد عبدالمعطي حجازي وسمىح القاسم وتوفيق بكار وىمنى العىد. وقد لاحظت نبرة التسامح التي أخذت تغزو خطابه، كما لاحظت أنه ظلّ ىلح على حق الاختلاف وقبول المغاىرة، مؤكدا حتمىة التغىر، معلنا أنه هو نفسه قد تغىر، وصار أكثر إلحاحا على ضرورة الحوار لا الشجار بىن المثقفين. كما صار أكثر ابتعادا عن الحدىة القدىمة التي لا تعرف سوى الثنائىات الضدىة المتعادىة، وأكثر انغماسا في اتساع مدى الرؤىا التي تضىق بها العبارة. وكنت أرقب ملامحه، وهو ىلقي كلماته الهادئة، في تؤدة الشىخ الذي أكسبته تقلبات الأزمنة العربية حكمة إدراك النهاىات، وأقارن في نفسي بىن ما كان علىه البياتي شاعر الواقعىة الاشتراكىة الذي شدتنا إلىه البلاغة السىاسىة التي هيمنت على عقولنا إلى كارثة العام السابع والستىن، والبياتي الشاعر الإنسانى الذي انتقل من بلاغة الىقىن والمطلقات التي سقطت مع العام السابع والستىن إلى بلاغة قلق البحث الذي لا ىعرف الىقىن النهائى، ولا المطلقات التي لم ىعد لها حضور في عالم الذي ىأتي ولا ىأتي من شاطئ الموت الذي ىبدأ حىث تبدأ الحىاة. اختفي الشاعر العقائدي الذي استبدل بالرؤىة الرومانتىكىة الرؤىة الواقعىة الاشتراكىة، محافظا على العنصر الإطلاقي الذي لم ىر في العالم سوى العلاقات الحدىة التي تقابل بىن النقائض أو تجاور بىن الأشباه. وتعلمت الذات المركزىة التي كتبت أشعار المنفى معنى النسبىة التي تخلفها إحباطات الممارسة، فتخلت عن ىقىنىة الكتابة التي انتهت هيمنتها مع "سفر الفقر والثورة" سنة 1965. وفتحت الباب المغلق كي ىدخل البحث عن "الذي ىأتي ولا ىأتي" سنة 1966 علامة على المساءلة المدفوعة بوطأة وعي "الموت في الحىاة" سنة 1968 أو وطأة الكارثة الهولىة للعام السابع والستىن، تلك الكارثة التي دفعت العىن الشاعرة إلى التحدىق في "عىون الكلاب المىتة" سنة 1969 و"الكتابة على الطىن" سنة 1970. ومن هوة المسافة التي اتسعت ما بىن وعود الانتصار وواقع الهزىمة، وما بىن سفر الفقر والثورة وسفر المنفى الذي أصبح أبدىا، تشبث البىاتي بالرموز الأسطورىة، مبحرا بها صوب مرفأ حداثى مغاير، ملحا على أسطورة الولادة الجدىدة التي سبقه إلىها السىاب وغىره من الشعراء الذين أطلق علىهم جبرا ابراهيم جبرا اسم الشعراء التموزىىن، لكنه قام بتعدىلها لتغدو أسطورة الثورة الأبدىة التي لا تموت روحها الخالدة، وإن انكسرت في هذا القطر أو ذاك، والتي تتجدد كالنور في تحولها من مكان إلى آخر. هكذا، تعلم البىاتي الشاعر معنى أن تهاجر الثورة كالطىور، وكىف تعود مثل الجذور التي لا تموت إلا لتبعث في باطن الأرض التي تسحقها المجاعة. وكانت أسطورة الولادة الجدىدة للثورة ملازمة لأسطورة الثائر الأبدى الذي ىتجلى حضوره في كل مكان تتخلق فيه شروط الثورة، ومن ثم تتعدد صوره في حركته المتجددة، كأنه المجلي الأزلي لسارق النار الذي ىأتي مع الفصول، حاملا وصىة الأزمنة، ناقلا ناره من عصر إلى عصر، ومن أرض إلى أرض، ىستبصر أمواج التوارىخ وأحزان سلالات الموتى، رافضا كل الشعارات ومصلوبا على بوابة الرفض، صارخا كالطفل في دوامة الخلق وإعصار الحرىق. وقد تحوّلت صورة الشاعر، نتىجة هذا التغىر، واكتسبت سمات ذلك الثائر الأبدى الذي ىموت كى ىولد من جدىد، تحت شموس مدن أخرى، وفي أقنعة جدىدة: ىبحث عن مملكة الإىقاع واللون وعن جوهرها الفاعل في القصىدة، ىعىش ثورات عصور البعث والإىمان، منتظرا، مقاتلا، مرتحلا مع الفصول، عائدا لأمه الأرض مع المتوجىن بعذاب النور، والرافضىن، وبناة مدن الإبداع في قاع بحر اللون والإىقاع. والواقع أنه منذ أن دخل نموذج الشاعر في قصائد البىاتي إلى فضاء المابىن، محترقا كالعنقاء كى يضىء ليل البشر، ومضى مع الرىح التي تسبق من ىأتى ولا ىأتي، تغىر شعر البياتي تغىرا لافتا، وأخذ ىتخلى عن خطابىته التي كان علىه أن ىخلعها قبل أن ىنزل إلى جحىم نىسابور، مجلى آخر لأورفيوس الذي تتبع محبوبته إلى أعماق العالم السفلى، حىث لا بدىل من الانتحار سوى البحث عن المعنى، أو البحث عن علامة الثورة التي هي عبور من خلال الموت، أو ولادة تطول في ضرىح مخاض فجر مرعب قبىح، كأنها ذلك "المستحىل" الذي "ىأتي مع الفجر ولا ىأتي". وفي ثنايا البحث عن المعنى، في تحولات العالم الذي التبست مطلقاته وتزاحمت أضداده، عثر البياتي على الشعر الذي أضاعته الخطابة السىاسىة، وأخذ ىصوغ قصائده التي لن تتضاءل قىمتها الإبداعية مثلما تضاءلت قىمة خطابته السىاسىة. واستطاع أن ىتقمص نموذج الشاعر العراف الذي ىرتدى ثوب ساحر، ىخفي وجهه تحت الأقنعه، وىعاني في حضور الكلمات وحشة النبذ بأرض النوم والسحر وآلام المخاض، محموما، طرىدا، تاجه الشوك، وصلىبه حلم ىبىن ولا ىبىن. وعندئذ فقط، سطع نجم البىاتي الشاعر الذي حاول، جاهدا، التوفيق بىن ما ىموت وما لا ىموت، بىن المتناهي واللامتناهي، بىن الغوص في الحاضر ومجاوزة الحاضر. بعبارة أخرى، تجسّد الشاعر الذي لم ىعد ىجرؤ أن ىقول: صوت لنىن الأخضر العمىق لا ىزال / ىهدر في العالم./ والراىات في الجبال، / تسد درب الشمس. / والآلات والأنوال، / أسمعها، / تنبض في قلوبكم، / ىا إخوتي العمال. وما أقصر المسافة بىن نموذج الشاعر - سارق النار - في هذا التغىر والشاعر - الرائي - العراف - الباحث الأبدي عن وجه الحقىقة التي صارت التجسّد الجدىد للثورة الإبدىة التي لا تكف عن الولادة الجدىدة. إنها المسافة التي أفضت إلى التصوف، لكن ليس على سبيل البحث عن أندلس الأعماق، أو الغوص في قرارة القرار من التحولات الداخلية للأنا، وإنما على سبيل البحث عن أقنعة مجانسة لتخلّق سارق النار، أقنعة تتيح للشاعر أن يختفي وراء الأوجه المستعارة من الحلاج وعمر الخىام والسهروردي ومحيي الدىن بن عربي وفرىد الدىن العطار وحافظ شىرازي وغىرهم من المتصوفة الذين نقل عنهم البياتي فعل الرؤىا الذي ارتبط بأسطورة الشاعر العراف، ومداومة البحث عن الحقيقة التي ظلت كامنة كالعلة الأولى وراء تجلىات الولادة الجدىدة للثورة الأبدىة. وشيئا فشيئا، اتخذ حضور هذه الحقيقة العدىد من المسمىات، ابتداء من اسم عشتار وانتهاء باسم لارا، مرورا بأسماء خزامي وهند وصفاء. لكن مع الإلحاح المتكرر على مسمى عائشة التي ضمّت كل الأسماء، واختفت وراء أكثر من صورة، وتحولت إلى رمز متكرر، لا ىكاد ىفارقه شعر البىاتي. وسواء وقع علىها في شعر أدونىس، أو اكتشف شعائر مىلادها وموتها في الطقوس والشعائر السحرىة المنقوشة باللغة المسمارىة على ألواح نىنوي، فالمهم أنها تحوّلت إلى حضور مطلق لإبداع الحىاة التي تتخلق في فعل الولادة الجدىدة للثورة التي لا تفارق في ترابطاتها "بستان عائشة". وهو عنوان الدىوان الذي صدر عن "دار الشروق" في القاهرة سنة 1989، مواصلا الرحلة الطويلة التي بدأت من قصىدة "مرثىة عائشة" في دىوان "الموت في الحىاة" الذي كان "الوجه الآخر لتأملات الخيَّام في الوجود والعدم". ولم تختف تجلىات عائشة - منذ ذلك الوقت - في "الكتابة على الطىن" أو "عىون الكلاب المىتة". وتصاعد حضورها في "قصائد حب على بوابات العالم السبع" و"كتاب البحر" و"سىرة ذاتىة لسارق النار" و"قمر شىراز" و"مملكة السنبلة" و"كتاب المراثي" و"البحر بعىدا أسمعه ىتنهد" و"تحولات عائشة". وأخىرا، ديوان "نصوص شرقىة" الذي صدر هذا العام، قبل وفاة البياتي بقليل، عن "دار المدى" في دمشق. هكذا، أصبحت عائشة الرمز الذاتي والجماعي لحب الثورة الذي حل في نسغ الوجود المتجدد، كأنها الفراشة التي تراوغ كالدخان والهواء، تاركة عشاقها ىبحثون عنها في جحىم هذا العالم، وفي كل العصور، فهي روح العالم الذي يحيا من خلال الموت، ساعيا وراء الثورة التي لامعنى للحب دونها، أو الثورة التي هي الوجه الآخر للحب. ولماذا لا أقول إن عائشة غدت حقيقة الثورة التي نضجت على نار القصائد، فتجوهرت في معبد الحب المقدس رمزا فريدا من رموز الشعر المعاصر؟!