بين المسائل التي حيّرت المؤرخين والباحثين المعاصرين في السياسات والناشطين، أو المحازبين السياسيين والإجتماعيين، لمسألة انبهار شطر فاعل وراجح، في بعض المجتمعات الأوروبية والأميركية، من المثقفين بالنظام الشيوعي، السوفياتي الروسي أولاً، مكانة خاصة. فحكم روسيا القيصرية وملحقاتها الذي استولت عليه الجماعة اللينينية من ثورة شباط فبراير 1917، ومكنت له غداة ثلاثة أعوام من حرب أهلية وخارجية عاصفة، سرعان ما تكشف عن طغيان واستبداد اجتماعيين وسياسيين وثقافيين لم تعرف المجتمعات نظيرهما أو مثيلهما وطأةً وعموماً وصلفاً. ولم يخفَ انقلاب مزاعم الحركة المستولية في التحرير العام، والمساواة "الحقيقية"، والتدبير غير المقيّد، الى العبودية العامة، والتفريق بين المراتب من غير قياس، وقصر الأمر على قلة قليلة يختصرها أمين عام فرعوني - لم يخفَ هذا الإنقلاب على بعض معاصري الإستيلاء اللينيني، وزملاء صاحب الاستيلاء ورفاقه من أمثال كارل كاوتسكي الألماني وروزا لوكسمبورغ البولندية الألمانية، وقت وقوعه. وبعد يُفترض أن التنبه، يومها، على بعد الشقة بين مزاعم الحركة البلشفية، اللينينية، في وراثة "الأنوار" الأوروبية، وإرساء التاريخ البشري على قيام الإنسانية بأود نفسها وسوس نفسها بنفسها وبعللها وأسبابها المستقلة عن كل ركن خارجي ومفارق، وبين وقائع سياستها وحوادث هذه السياسة الممعنة مصادرة وانفراداً وتعسفاً وحرباً وقتلاً وكذباً واستثناءً، ليس التنبه عسيراً، وينبغي ألا يتجاوز قدرة متوسطة على الإقتفاء والجمع والتعليل. فإذا زيد على هذه القدرة احتكام معلن وأكيد إلى معايير خلقية وعملية تقدم الحريةَ، أي إيقاع الإرادة الدواعي الى العمل من تلقاء نفسها، على الإضطرار، لم يبق ثمة ما يتعلل به أنصار النظام السياسي والإجتماعي و"الحقوقي" والإقتصادي والثقافي والخلقي - الكُلِّياني - لنصرتهم هكذا نظام أو انتصارهم له. وعلى خلاف هذا التوقع، أي على خلاف الإدانة المتوقعة والمتضمنة في مقدمات المعايير الفلسفية والتاريخية المعلنة - ويتشارك فيها أنصار اللينينية ونقادها الإشتراكيون الديموقراطيون - ، سرعان ما حاط شطر من المثقفين الأوروبيين النظام الوليد بالتأييد، واحتجوا له بكل أنواع الحجج وضروبها. ولم يقتصر معظم هؤلاء على التأييد والانتصار الفكري والإنعطاف، بل انخرطوا في صفوف الأحزاب الشيوعية، المبلشفة على مثال واحد صنعته شروط الإنتساب الى الأممية الثالثة في 1919، ولم يزده قرار حل الأممية الثالثة إلا إلحاقاً بالإدارة الحزبية السوفياتية. فكانت منهم نخبة من العملاء والقيادات و"الكوادر". ومن لم ينخرط في السياسة الحزبية اليومية حفَّ الحزب، وسياسته المتعرجة، وحف قيادته الثابتة، أو المتجددة و"المطهرة"، بنفسه وكتابته ودالته، وأيدْ بما وسعه التأييد. ولم تؤدِّ النكبات الروسية، غداة الحرب الأهلية و"استقرار" السياسات الحزبية، وافتضاح أخبارها على الملأ، مع خروج أفواج من العملاء الأميين من ولائهم الأعمى والأخرس ومع عودة بعض الزائرين خائبين غاضبين، إلى رفع الغشاوة عن عيون الأنصار، أي إلى تسمية الطغيان طغياناً، والحزب الشيوعي آلةَ هذا الطغيان الساحق. وكان ذلك بين الحربين العالميتين. فلما تلازمت وقائع القمع الجماهيري الستاليني، وتدمير الأرياف وأهلها بعد تدمير المدن وطبقاتها، مع استيلاء الفاشية ثم النازية على جنوب أوروبا وقلبها الألماني والنمساوي والتشيكي، مالت جماعات الأنصار مع تعليل الأحزاب الشيوعية هذا التلازم تعليلاً سببياً وعِلِّياً. فتصور تدمير الإنتلجنتسيا والعمال والمزارعين والحزبيين الشيوعيين أنفسهم في صورة "صراع طبقي على المستوى العالمي". ولم تصنع القيادة الحزبية غير تشخيص مراحل هذا الصراع وسَلْسَلِة حلقاته، من الحرب الرأسمالية والإمبريالية المباشرة أي الحرب الأهلية، الى التطويق والحرب غير المباشرة، الى تعبئة الفاشية والنازية، وهما آخر مراحل الرأسمالية السادرة في إنحطاطها، على "الإشتراكية". ولم تصنع القيادة الحكيمة والعظيمة غير معالجة المراحل هذه بما يناسب من المعالجة. فكان وقت ما بين الحربين عصر "مناهضة الفاشية" الذهبي. واستقرت "مناهضة الفاشية" على معنى غالب واحد هو الانتصار للشيوعية الستالينية والسوفياتية. واستولدت السياسة السوفياتية الخارجية، في أوقات وأطوار لاحقة، مناهضة "الرأسمالية" ونظامها، أو أنظمتها، معنى غالباً شبيهاً حملته على "مصادقة" الإتحاد السوفياتي ونظامه، ولو متداعياً. واستمرت السياسة السوفياتية، وتابعتها عليه الدعاوة الصينية الماوية والدعاوات الكورية والألبانية والفيتنامية والكوبية الى اليوم، على قسمة السياسة ضدين متناقضين ومتنافيين. وأرادت إلزام المتحفظين عن موالاة "الرأسمالية"، وهذه كل ما ليس هي، إخلاص الولاء لها، والسير على طريقها، وطاعتها طاعة الجنود "قيادة أركانهم" في أثناء الحرب، على ما ذهب اليه لينين. وعلى رغم ذيوع علمٍ قريب من الدقة بأحوال المجتمعات التي تتسلط عليها أحزاب شيوعية، وبعضها نصبته القوات الروسية السوفياتية في اجتياحها أوروبا وتعقبها الجيوش الألمانية الغازية، وعلى رغم اخراج أوروبا الشيوعية من عتمتها وانكفائها الروسيين، وجرها الى القمع العسكري في برلين 1953 وبودابست 1956 وبراغ 1968، بدا نشر الكسندر سولجنتسين "تقصيه" أو "استخباره الأدبي" وهو العنوان الذي وسم به التقليد أخبار هيرودوتس اليوناني، "أرخبيل الغولاغ" في 1974، عن أحوال المعتقلات الشيوعية السوفياتية، واتصالها القوي بالاجتماع والسلطان الشيوعيين، فتحاً غير مسبوق. ومهما كان من أمر عمل سولجنتسين، وصدق الحكم فيه بالجدة، قطع هذا العمل عٌدر المعتذرين بالجهل وبقلة العلم وضعفه. وكانت الأزمة المجرية، في 1957، خلّفت خيبة كبيرة، وأصابت يساريين كثيرين سادرين في غفلتهم باليقظة المريرة. ولكن "أرخبيل" سولجنتسين كان منعطفاً يصح ربما إدراجه في عقد طويل، أوله غزو حلف فرصوفيا السوفياتي تشيكوسلوفاكيا، في صيف 1968، والجهر ب"الإشتراكية الحقيقية" وبركنها العسكري الصريح، وأواخر إعلان ياروزلسكي، البولندي، حال الطوارىء، في 1981، ومحاولته إخماد حركة "التضامن" العمالية والشعبية التلقائية باسم الاشتراكية الحقيقية والبريجينيفية نفسها. فلما تصدع البناء الشامخ والمدجج بسلاحه النووي والمدمر هذا، وهو بدا لخصومه واعدائه، قبل أصحابه، حصناً حصيناً، وفاتحة أزمان موعودة وآتية لا محالة، احتار بعض المؤرخين في تعليل دوامه ثلاثة أرباع القرن، ثم في تعليل تقوضه من غير انفجار أزمة مروعة، ومن غير قيام "العبيد" عليه وتقويضهم أعمدته وأركانه. وهو احتفظ، حتى قبيل وقوعه، بتأييد شطور غير قليلة من المحازبين والمؤيدين في بعض بلدان أوروبا الغربية، الغنية والديموقراطية. ففي أثناء العقد الثامن اقترع ناخب فرنسي من خمسة للحزب الشيوعي الفرنسي، وناخب من ثلاثة للحزب الشيوعي الإيطالي، وناخب من ستة للحزب الشيوعي البورتغالي، ومثله للحزب الشيوعي الإسباني. وهذه الاحزاب كلها نشأت في أحضان الأممية الثالثة. ولم يتخل حزب واحد منها عن شهرته ونسبته قبل انقلاب آب أوغسطس 1991 السوفياتي على غورباتشوف، وطي صفحة "اتحاد الجمهوريات الإشتراكية والسوفياتية" - أو الكلمات الأربع النَّامَّة بأربع كذبات، على قول كاستورياديس، اليوناني الفرنسي. فذهب المؤرخون، أي بعضهم الذين تناولوا المسألة، إلى تعليل دوام التعلق الخارجي بالإتحاد السوفياتي، ومحضه التأييد والمساندة، بدوام "توهمه" مجتمعاً يتوج نظامه السياسي والإجتماعي مسيرة التاريخ الأوروبي التنويرية، وسعي هذه المسيرة في ولادة "الإنسان الكلي" والكامل من رحم الإستغلال والتجزيء والتشييء والإفقار المادي والمعنوي. فكتب أحد هؤلاء المؤرخين، الفرنسي فرنسوا فوريه، كتاباً وسمه بعنوان "ماضي وهم" 1995، نظير مقالة فرويد في "آتي وهم" أو "مستقبله"، وهو يريد الدين واعتقاده. والحق ان "وهم" المؤرخ الفرنسي، شأن "وهم" منشىء التحليل النفسي من قبل، يلابس تاريخاً برمته، ويصدر عن أزمات هذا التاريخ ومعضلاته السياسية والفكرية الكبيرة. فلا ينبغي الظن ان ناس مجتمعات كثيرة - مثقفين يحترفون تحصيل المعارف والصنائع واختبارها، أو عامة يحكِّمون في أمورهم حساً عاماً يتشاركون فيه مع سواء مجتمعهم - يتعامون عن وقائع وحوادث موصوفة، من غير دواعٍ قاهرة تتصل بمباني اختباراتهم التاريخية والفكرية والمعنوية جميعاً. ويرد المؤرخ الفرنسي قوة "الوهم" الذي استولى على أنصار الشيوعية الروسية واللينينية وشبَّه لهم بناء تحرر الإنسانية، وتقرير مصائرها بنفسها، حيث كان يختبر ضرب من القهر لا سابق له، إلى التباسات إرساء المجتمعات المحدثة وحكمها على عقد يطلق يد "السلطان السيِّد" الشعب من غير قيد، وإلى تصور السياسة في صورة الثورة وعلى مثالها الفرنسي، والحط من كل مثال يخالفها. ويعزو المؤرخ احتضان بعض النخب، ويشطر من الجماهير، الأوروبية، الثورتين الكبيرتين اللتين ملأت حوادثهما عقدين ونصف العقد من نصف القرن الأول، إلى اختبار الحرب الأولى الفظيع والعدمي: فكانت الثورتان، اليسارية واليمينية، تلك المتممة فلسفة "الأنوار" والمرتدة عليها، استدراكين على تبدد معنى الحوادث الكبيرة التي عصفت بجماهير عريضة وقوضت العالم الأوروبي ومعالم حياة ناسه. ثم كانت "مناهضة الفاشية"، ومقاومتها، رداً، بدا قاطعاً وصارماً، على ضعف الديموقراطيات وتراخيها، بل على تواطؤها المزعوم مع الدول الفاشية. ووصمت الديموقراطيات، الرأسمالية والإمبريالية المتسلطة من قبل ومن بعد، بتواطؤ مقيم وفطري مع الفاشية. ونصب شكل "الجبهة الشعبية" - لمقاومة الفاشية - مثالاً عاماً اختصر السياسة التقدمية في كل زمان ومكان، وما زال يختصرها في مواضيع كثيرة يحن بعض أهلها الى "الملاحم" العظيمة، السوفياتية. ويخالف كلود لوفور، الفرنسي كذلك، مذهب فرانسوا فوريه في الوهم، ولو على معناه المتقدم. فهو يعرض تأييد المؤيدين، ونصرة الناصرين، على اختبار التأييد والنصرة. ولا يصدِّق مزاعم المؤيدين والأنصار في بواعثهم، على نحو ما لا يصدِّق مزاعم القيادة الشيوعية في دعوتها وطلبها التأييد والمساندة والتصديق. فالمؤيدون والأنصار والمحازبون، على اختلاف الأوقات والأمكنة، إنما أقبلوا على ما أقبلوا عليه من تحزب وتعصب وهم يباشرون - فيما بينهم، وبينهم وبين من تابعوهم وائتموا بهم، وبينهم وبين من تابعهم وائتم بهم - ضرباً من العلاقات الإجتماعية، والمباني والأطر، يشبه شبهاً شديداً وقوياً العلاقات والمباني والأطر التي نشأ عنها الحزب اللينيني فالستاليني، الشيوعي. وعلى هذا ليس "الوهم" هو سائق المتحزبين والمتعصبين، ولا تصديقهم إنجازات الثورة على طريق التحرر والتحرير من رق الضرورة وثقل التسليم، حاديهم. فالأقرب، على قول كلود لوفور التعقيد / عَوّدٌ على الشيوعية"، 1998، إلى الظن والتعليل هو الإختبار الحزبي وإرادته، طوعاً، الأمر والعبودية. وهذا يقارن، من وجه آخر، بالانتصار للخمينية و"حزبها"، "حزب الله"، وأنصارها، "أنصار حزب الله". * كاتب لبناني.