في سياق محاور تنشرها "الحياة" عن السودان بعد عشر سنوات على "ثورة الانقاذ"، ننشر اليوم وغداً محوراً عن "صورة السلطة". كان استيلاء الإسلاميين على السلطة في السودان صبيحة 30 حزيران يونيو 1989 أول وصول لمجموعة إسلامية إلى السلطة في المنطقة العربية، لذلك وجدت تلك المجموعة تأييداً وقبولاً في الخارج بين الإسلاميين عوَّضها عن المعارضة والرفض والتوجس في الداخل. و"الجبهة الإسلامية القومية" التي هندست الانقلاب ونفذته هي حزب أقلية، فحتى المقاعد البرلمانية 51 مقعداً لا تعبر عن الوجود الفعلي لتلك الجبهة في الشارع السوداني، لأن 28 مقعداً منها كانت من دوائر الخريجين حيث لا تطبق القاعدة الديموقراطية: صوت واحد لكل شخص. ولأن "الجبهة" كانت تعي ضعف جماهيريتها لجأت إلى الانقلاب ولم تنتظر نهاية الدورة الانتخابية لكي تأتي الى السلطة من طريق الانتخابات والتأييد الشعبي. بسبب هذه الحقيقة لجأ النظام الجديد الى قدر مبالغ فيه في استخدام العنف، وبالذات في الفترة الاولى، لتثبيت دعائم حكمه أمنياً واقتصادياً، وللمفارقة، أدخل الاسلاميون التعذيب في قاموس السياسة السودانية. واعتمد نظام "الجبهة" على الاعلام الخارجي في تحسين صورته، وقام الاسلاميون غير السودانيين بهذه المهمة، على رغم أن ممارساته كانت تمثل إحراجاً واضحاً لهم وهم يطالبون بالديموقراطية وحقوق الانسان في بلدانهم. كانت التجربة عامل تفريق وصراع اصبح يهدد الآن وحدة السودان، ليس في الجنوب فقط - الذي عرف الحرب الأهلية من منتصف الخمسينات - لكن في الشرق والغرب أيضاً. فالنظام الجديد بدأ شمولياً واقصائياً مع عدم شرعيته، إذ لم يحاول توسيع قاعدته الشعبية، وعمل على تقريب ذوي الولاء على حساب الكفاءة. فتعامل مع السودانيين، ليس وفق حقوق المواطنة المعروفة، ولكن حسب الانتماء الحزبي أو التعاطف مع الحزب الحاكم. لذلك تم فصل آلاف السودانيين من أعمالهم في الخدمة المدنية والقوات النظامية. فأضاف النظام الى حرمان المواطنين من حرياتهم العامة حرمانهم من حق العمل. وأسس ثنائية للتفرقة بين المواطنين على مستوى حزبي: موالٍ لنظام "الجبهة" مقابل معارض أو متحفظ، وعلى مستوى الوطن: شمالي وجنوبي، خصوصاً حين حوّل الحرب الاهلية الى حرب دينية بإعلانه الجهاد المقدس، وعلى مستوى النوع: رجل مقابل امرأة لجهة أن المرأة السودانية تعرضت لاضطهاد غير معلن بسبب التطور النسبي الذي حققته. واختزل النظام السوداني الحالي موقف الاسلام من المرأة في طول أمتار القماش التي تلبسها وكيفية تغطية الرأس، وعلى المستوى الاقتصادي اصبح التفاوت ملحوظاً، إذ تكونت طبقة طفيلية بسبب احتكار "الجبهة" للسلطة والثروة، ومكنت التجار الموالين لها من السيطرة على السوق وحركة الأموال، ويمكن القول إن السودان أصبح سودانين: سودان "الجبهة" والنظام، وسودان السودانيين الآخرين. ترجع أسباب التفرقة والشقاق إلى عدم وعي وإدراك الاسلاميين للواقع التعددي - ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً - للسودان، الذي هو لقاح لا يدين لفرد أو حزب واحد، وأي محاولة لإنكار هذا التعدد او القفز عليه، يتطلب بالضرورة قدرة على الاخضاع والاضطهاد والتخويف، وسيكون كل ذلك ضد الواقع والتاريخ. لذلك حين تحدث النظام عن "إعادة صياغة السودان" كان يركب الصعب، ولم يتعظ من تجارب النظم الفاشية والنازية التي امتلكت قدرات أكبر لكنها عجزت عن إعادة صوغ الانسان وفق تصورها. حاول الاسلاميون ربط فكرة التعددية بالفرقة والانقسام، بل وضعوا التعدد مقابل وحدانية الله. فالشيخ حسن الترابي يقول في رد على سؤال عن تغير موقفه من فكرة النظام الديموقراطي: "ان هدف الفكر الاسلامي والحركة الاسلامية هو العودة بالأمة الى نقاء المجتمع الاسلامي الأول والانتقال بها من التمزق والشتات الى الوحدة والانسجام. ورد الخلق عن كل ما يمكن ان يفتنهم من متعلقات ليتعلقوا بالله سبحانه وتعالى، ورد القوى المتباينة الى الله سبحانه وتعالى والى هدي الدين" مجلة "قراءات سياسية" السنة الثانية العدد الثالث، صيف 1992، ص29، كما يربط الديموقراطية بطبيعة المجتمعات الغربية الصراعية، يقول: "عرف الغرب الصراع في المسرح وفي الاقتصاد وفي العلاقات العالمية وفي العلاقات السياسية وفي العلاقات الدينية، لأنه صراع مطلق ليس فيه عامل مُوحد من إيمان بالله، ولذلك هو في صور التعبير السياسي، عرف في بعض عصوره عهد الحزبية". قصدتُ من هذا الاقتباس الوصول الى أن رفض التعددية والحزبية هو اصل في فكر "الجبهة الاسلامية"، لذلك كانت الديموقراطية، أو بالأصح قبول شروط اللعبة البرلمانية والانتخابية، مجرد وسيلة تستغلها الحركة الاسلامية في فترات الديموقراطيات للدعاية والحركة والاستفادة من الانفتاح. ولكن لم تمثل الديموقراطية غاية ومبدأ في حد ذاتها، والدليل البسيط الى ذلك ان الاسلاميين انقلبوا على برلمان يمثلون فيه القوة السياسية الثالثة. وعجز الفكر الاسلامي حتى الآن عن تكوين موقف فكري واضح تجاه الديموقراطية كفكرة إنسانية من دون نسبتها الى الغرب أو الشرق. فالاسلاميون يصرون على تسميتها بالديموقراطية الغربية لكي يعددوا بعض سلبيات التطبيق في بعض ديموقراطيات اوروبا الغربية والولايات المتحدة، وليصلوا الى افتراض ان الديموقراطية معيبة. فالاسلاميون مطالبون بتنظير إسلامي إيجابي واضح لمفهوم الديموقراطية بقصد تكوين رؤية غير مشوشة ومتغيرة عن الديموقراطية. عبّر الاسلاميون عند تسلمهم السلطة في السودان، عن موقفهم العملي من التعددية السياسية والحزبية بحل وتحريم الأحزاب في البيان الأول للانقلاب. ويقدم الاسلاميون دائماً تبريراً يخلط عمداً بين فشل الأحزاب السودانية وفشل الديموقراطية، ويصمت هذا التبرير عن إمكان إصلاح الأحزاب وتطوير الديموقراطية عوضاً عن وأدها. وكال البيان التهم للأحزاب، على رغم أن "الجبهة الاسلامية" كانت شريكة في الحكومات الائتلافية التي كوّنت خلال الديموقراطية الثالثة 86-1989، وحتى قبل أربعة أشهر فقط من انقلابها. كما أنها دخلت في تحالفات وتنسيق مع هذه الأحزاب الطائفية منذ الاستقلال، ويقول الفريق البشير عن هذه الأحزاب، في خطاب أمام المجلس الوطني الانتقالي 24 شباط/ فبراير 1992، "لقد أصيب جسمنا السياسي في رأسه، وأصبحت مواطن القيادة في حياتنا العامة مريضة مرض الموت من شدة الخور والضلال ورقة الأمانة والشرف، وإنما دهانا الضلال والارتباك من افتقاد المذهب أو المنهج أو البرنامج الذي يجتمع عليه الحزب". وعلى رغم كل هذه الإدانة الدامغة، فليس من المستبعد أن تتعاون الحركة الاسلامية مجدداً مع هذه الأحزاب نفسها وتنسى كل ما قالته عنها. ويمكن القول إن التجربة الاسلامية في السودان انتهى عمرها الافتراضي العام 1995، والنظام يعيش منذ ذلك الحين في "غرفة الانعاش"، فقد أي بوصلة وصارت سياساته بالقطاعي أو "رزق اليوم باليوم"، لعدم وجود استراتيجية يريد تنفيذها. فلو حاكمنا النظام ببرنامجه المعلن يوم الانقلاب وتابعنا ماذا تحقق لثبت لنا أن النظام سقط حقاً. وفي عجالة لرصد أين وصلت وعوده، نجد أن الاقتصاد الذي جاؤوا لانقاذه وصل الى الحضيض. وفي السياسة الخارجية صارت العزلة مهينة للدولة. ويكفي ان رئيس الجمهورية لا يستطيع ان يزور أي دولة أوروبية أو اميركا أو كندا. وهو لم يفعل ذلك منذ وصوله الى الحكم. أما الجنوب فهو لا يحكم الآن من الخرطوم، كما ان النظام فقد أراضي جديدة في شرق السودان ودارفور، واخيراً تنازل عن ادعائه بتقديم نموذج حضاري مستقل ومضاد للامبريالية إذ أنه سلم كارلوس وطرد ابن لادن اللذين استضافهما كرمزين لمواجهة دول الاستكبار. بل توقف عمل "المؤتمر الشعبي العربي الاسلامي"، الذي أسسه كأممية جديدة منحازة الى الشعوب ومضادة للاستعمار وفق رؤية إسلامية، ولكن "المؤتمر" خضع لتدجين اميركي وأوقف نشاطه. كان لا بد للنظام، في سياق هذه التنازلات المستمرة، أن يتراجع عن سياساته القمعية في الداخل، خصوصاً حين عجز عن تفكيك المعارضة واستمالتها. وحين أصدر قانون "توالي التنظيم السياسي" بقيت القوى السياسية الاساسية بعيدة وقاطعت كل نشاطات ومناقشات "التوالي". والنظام بعد عشر سنوات لم يستطع توسيع قاعدته الشعبية، بل فقد بعض التأييد. فالإسلاميون كانوا يعتمدون على الحركة الطلابية لكنهم فقدوا مواقعهم الغالبة في الانتخابات الطلابية التي أجريت في الجامعات والمعاهد العليا خلال الفترة الأخيرة، كان النظام يعتقد أن قانون التوالي يمكن ان يجذب القوى السياسية، على أساس أنه بداية حل سلمي للأزمة السودانية. ولكن هذا لم يغير شيئاً، خصوصاً أن السودان مازال يخضع لقوانين استثنائية كثيرة مع وجود عناصر الأمن المدنية بأجهزتها الأخطبوطية، كذلك إنعدم الأمان الشخصي للمواطنين. وعلى رغم كل الحديث عن الانفتاح والمصالحة، لا ترد كلمة ديموقراطية أو تعددية في خطاب النظام، وهم مازالوا لا يعرفون ماذا يريدون، وما زالوا في مرحلة التجربة والخطأ، ويعجزون حتى الآن عن وصف نظامهم السياسي بالإسلامي، ويتردد مثل هذا الوصف: "والإطار الذي يتجلى الآن هو إطار لا يمت للحكم العسكري، ولا الى التعددية الحزبية المصطرعة، ولا الى وسائط مجموعة الحزب الواحد، بل هو نظام ائتمار بالمعروف" قراءات سياسية، ص 32. يُخطئ من يعتبر تجربة السودان شكلاً جديداً في الحكم يقوم به إسلاميون، بل هي امتداد لتجارب استيلاء النُخب العربية على السلطة والقيام بفرض أيديولوجياتها بالقوة ثم التراجع بنفسها عن إدعاءاتها مع الزمن. وحكم الانقاذ الحالي في السودان هو وجه جاء متأخراً وعكس التاريخ، فقد سبقه البعثيون والناصريون والماركسيون والقوميون، فلماذا لا يجرب الإسلاميون؟ مع سقوط نظام "الانقاذ" ستنتهي هذه السلسلة من طموحات النخب العربية التي عجزت عن الارتباط بالشعب، لذلك استولت على السلطة السياسية من طريق مجموعات صغيرة حسنة التنظيم وديناميكية وذات برنامج شعبوي يتحقق في أجهزة الإعلام فقط. علينا أن نفهم التجربة السودانية في هذا الإطار مهما حاولت أن تعطي نفسها قدسية الدين، فهي كانت تشويهاً للإسلام وقدَّمت نموذجاً سيئاً أحرج الحركات الاسلامية، ويدفع الشعب ثمناً باهظاً لفترة حكمها التعسفي. * مدير مركز الدراسات السودانية في القاهرة.