سقطت العلاقة بين المرجعية الدينية للشيعة وبين الدولة في العراق في هوة القطيعة القائمة على انعدام الثقة. فاغتيال المرجع الديني اية الله محمد محمد صادق الصدر في شباط فبراير الماضي اعاد الى الاذهان الازمة التاريخية للعلاقة بين المرجعية والدولة التي تصاعدت منذ العام الماضي الذي شهد اغتيال مرجعين دينيين آخرين هما الغروي والبرجوردي، كما شهد مطلع هذا العام محاولة لاغتيال اية الله بشير النجفي، ومحاولة اخرى لاغتيال المرجع الاول للشيعة اية الله السيستاني. اذن، نحن امام تصاعد في ازمة العلاقة بين مرجعية دينية وبين مؤسسة كبرى اسمها الدولة، فاين تكمن مظاهر هذه الازمة؟ نود اولا التنبيه الى اننا لن نتناول المرجعية في الحوزة الدينية في النجف باعتبارها ممثلة مذهبية للشيعة. فمثل هذا التناول تضييق لمساحة الصراع. وبالتالي تغييب لجوانب مختلفة من تطور الصراع. وهذا يعني استمرار التمويه الذي يسود في قضية متفجرة بقيت انعكاساتها مختفية داخل العراق قبل التسعينات، ثم خرجت منذ التسعينات الى الاهتمام الاقليمي والدولي بعد انتفاضة 1991 التي اعقبت حرب الخليج والتي ظهرت خلالها ازمة المرجع الراحل الامام الخوئي مع السلطة في العراق. اذا لم نتناول المرجعية باعتبارها ممثلة للطائفة الشيعية فاننا نحاول تلمس مظاهر الازمة مع الدولة. لان المرجعية السنية المتمثلة بالمذاهب الاربعة الاخرى، في سياق المنهج الذي نتبعه، لن تكون ممثلة للدولة. كما ان الدولة لن تكون ممثلة لها. وبالتالي نحاول ان نبتعد عن التفسير الذي يعطي في بعض الاحيان صفة للدولة باعتبارها تخوض حرب ابادة ضد الشيعة لمصلحة السنة. فالقضية في هذه الحال لن تكون اكثر من اعطاء الدولة شرعية تمثيل طائفة في الصراع من خلال موقف الدولة لا من خلال موقف الطائفة التي لاتخوض الصراع نفسه. كثيرون يرفضون الاعتراف بالسياسة الطائفية للدولة. لكنها حقيقة بارزة يوميا. فالدولة تمارس التمييز الطائفي بشكل منظم. غير ان التمييز الطائفي الذي تمارسه الدولة في العراق ليس بالضرورة لمصلحة طائفة اخرى، نعني ليس لمصلحة سنة العراق، بل لمصلحة بقاء السلطة السياسية بيد الذين يملكونها. هذا يعني ان المجتمع العراقي نفسه لايشهد تمييزا طائفيا بين طوائفه. وانما التمييز الطائفي قائم بين المرجعية والدولة، بين الشيعة والدولة بتعبير ادق. فالتقارب المذهبي تم من خلال زواج مذهبي مختلط سواء من رجال شيعة ونساء سنيات او من رجال سنة ونساء شيعيات، فضلا عن تداخل علاقات القرابة من الدرجتين الثانية والثالثة بين السنة والشيعة العراقيين. اضافة الى ذلك فان المساجد ليست مختصة تماما بطائفة دون اخرى، خصوصاً في مناطق بغداد المختلطة مذهبيا. غير اننا لابد ان نتنبه الى فوارق ذات طابع ثقافي في العائلة يمكن ان تكون تمايزا وليس تمييزا بين الشيعة والسنة في هذه المناطق. المثل التاريخي نفسه سيكون معيناً لنا في ذلك. فصاحب المذهب الحنفي، الامام ابو حنيفة، سجنه حاكم دولة سنية هو المنصور لان ابا حنيفة رفض تولي منصب القضاء وايد نقض اهل الموصل لبيعة المنصور. وصاحب المذهب الحنبلي الاكثر تشددا في السنة الامام احمد بن حنبل سجنه الواثق لانه لم يؤيد اطروحة خلق القرآن في المحنة التي بدأت في عهد المأمون. في الوقت نفسه دس المأمون السم للامام الثامن للشيعة علي الرضا على الرغم من التحالف الذي كان بين الاثنين في بداية عهد المأمون بحيث سماه وليا للعهد. هذا يعني ان الحديث لايدور على افتراق طائفي وانما على افتراق سياسي تأسست حوله الطوائف والسياسة الطائفية في العراق. وهذا يعني اننا يجب ان نبحث في جوهر الازمة وليس في شكلها الظاهر للعيان وهو الخلاف الطائفي. نعم يشكل الخلاف الطائفي ازمة. لكنه تجل عن خلاف اعمق في جوهره من مظهره. وهذا يدلنا عليه اصل ونشأة المرجعية. ودور ونشأة الحوزة الدنية ودور النجف والكوفة في ذلك. وهي اشكال تبدو مذهبية، لكنها ذات محتوى آخر. فالمرجعية، اذا شئنا تعريفها من خلال مفرداتنا، هي قمة تمثيل نيابي يجسد التعبير السياسي لجماعة لها موقف معارض للسلطة السياسية للخلافة، وحول هذا الموقف المعارض نشأت ردود الافعال الرسمية. وهذا يعني ان المرجعية ممثلة لجماعة كبيرة في المجتمع، لها مواقفها وآراؤها السياسية تجاه الدولة، وهذه المواقف والاراء حملتها المرجعية مع فقهاء وشيوخ جسدوا استمرارية الموقف السياسي الشيعي من الخلافة والامامة. التاريخ الوسيط مضى وانقضى. غير ان الدولة الحديثة في العراق واجهت ازمة المرجعية حتى قبل تأسيسها. فالمرجعية والحوزة الدينية هي، ببساطة، دولة مدنية في قلب الدولة المركزية الرسمية. دولة مستقلة معتمدة على: - الاستقلال المالي عبر تأدية الحقوق الشرعية التي يؤديها اتباعها المؤمنون داخل العراق وخارجه. وعلى الرغم من عدم وجود ارقام عن ميزانية هذا الاستقلال المالي الا انه يضاهي ما يدفعه الافراد انفسهم للدولة من ضرائب. - وهي مستقلة ايضا من طريق الاستقلال التعليمي. فهي تملك مدارس وجامعات، والحوزة الدينية انما هي جامعة دينية كبرى لها الف عام من التقاليد، ولها مناهجها المستقلة التي لادخل للدولة فيها. - وهي مستقلة فكرياً فلا تأثير لفكر الدولة عليها. وعلى العكس من هذا التأثير كان فكر الحوزة الدينية يصطدم في حالات كثيرة مع الفكر الرسمي. - وهي مستقلة في اختيار مرجعها وهذا نقيض آخر لطبيعة الدولة المركزية في العراق. - وهي مستقلة في قرارتها اعتمادا على المبررات الشرعية للقرار الذي يتخذ شكل فتوى، مثل فتوى تحريم التنباك وفتوى الجهاد ضد الانكليز وفي ثورة العشرين، الامر الذي ادركه الانكليز بعد احتلالهم العراق واندلاع ثورة العشرين. وهذا ماعنينا به بقولنا ان الدولة العراقية الحديثة واجهت ازمة المرجعية حتى قبل تأسيسها. فدور المرجعية كان مواجها لدور الادارة البريطانية للعراق بعد احتلاله. فالمرجعية اذن هي رديف مدني للدولة الرسمية في العراق. وهي غالبا دولة مدنية معارضة لدولة رسمية. من خلال هذا الدور الكبير للمرجعية نستطيع ان نفهم قانون الجنسية العراقي الذي صدر في ظل الاحتلال البريطاني للعراق. هذا القانون الذي يتضمن فقرة التبعية السيئة الصيت. وعلى الرغم من ان هذا القانون يتضمن نوعين من التبعية:عثمانية وايرانية الا ان القانون لاعلاقة له بالتوصيف: اي هذا ايراني وهذا عثماني. لان المنطق يقول ان العراقي اذا لم يكن عثمانيا فهو ليس ايرانيا. لكن القانون كان موجها في الجانب الاساسي منه ضد قوة المرجعية. انه سلاح لاضعافها عن طريق التهديد المستمر بنزع الجنسية العراقية عن المتمردين في الحوزة الدينية التي تضم مجمعا امميا يمتد من الهند الى المغرب العربي، مرورا بايران واذربيجان وتركيا والخليج. بمعنى ان اي تحرك معارض للدولة تكون نتيجته التسفير، تسفير المرجع وليس نفيه، لان نفي الشيخ الخالصي بعد ثورة العشرين وفتواه ضد البريطانيين لم تحل دون عودته الى بلاده العراق. لذلك فان تسفير المرجع بحجة ايرانيته ونزع عراقيته عنه هو وضع حد نهائي لعودة تأثيره من جديد. هذه السياسة وسعها ونشطها النظام العراقي الحالي. فمنذ مجيئه بدأ حملات التهجير من عام 1969 و1970 حتى الآن. وكانت اكبر حملة بمئات الالاف في مطلع 1980 اثناء اعدام آية الله محمد باقر الصدر والتحضير للحرب ضد ايران. وكانت محاولة تفريغ للساحة الداخلية من جمهور غير مأمون. وفي المناسبة فان أولى حملات التهجير قام بها زياد بن ابيه من العراق الى ايران لاربعين الف معارض عراقي مع عائلاتهم لانهم غير موالين للسلطة الاموية. اذن فالمرجعية واجهت سياسة اضعاف سلطتها من طريق اضعاف قاعدتها، وبالتالي اضعافها سياسيا، واضعاف نفوذها الاقتصادي والثقافي، عبر اتباع سياسة تفريغ لقاعدة المرجعية من طريق التسفير والتهديد المستمر به. وتطورت سياسة الدولة العراقية ضد المرجعية كما تطور اسلوب احتوائها. فقد انتقل من النفي الى التسفير ثم الى الاقامة الاجبارية فالاغتيال. وبقدر تصاعد قوة المرجعية وتصاعد خطرها على الدولة يتصاعد اسلوب المواجهة. فآية الله محسن الحكيم الذي ابدى دورا سياسيا ملموسا في الستينات واجه الضغط التالي:اتهام نجله السيد مهدي الحكيم بالعمالة لدولة اجنبية. هذا الاتهام يشكل ورطة اخلاقية اكثر منها قانونية في ظل غياب القانون في العراق. ثم اغتيل هذا النجل بعد ثمانية عشر عاما على وفاة ابيه. اغتيل في السودان. ثم اغتالت السلطات العراقية المرجع الديني السيد حسن الشيرازي في الرملة البيضاء في بيروت عام 1980 اثر تصاعد نشاطه السياسي والديني. وكذلك اغتالت نجل الامام الخوئي السيد محمد تقي الخوئي باصطدام مرتب لشاحنة بسيارته على طريق النجف - كربلاء في محاولة لانهاء تأثيره في صفوف المسلمين الشيعة في العراق. واغتالت في العام الماضي اية الله البرجوردي واية الله الغروي وحاولت اغتيال اية الله بشير النجفي وفرضت الاقامة الاجبارية على المرجع اية الله السيستاني. اذن نحن امام سياسة ممنهجة ومخططة تستهدف اضعاف الدور السياسي للشيعة في العراق عبر اضعاف المرجعية الدينية لهم. غير ان الامر لايقتصرعلى دور الشيعة وموقف الدولة منهم، فالسلطة السياسية قتلت تحت التعذيب رجل الدين السني البارز الشيخ عبدالعزيز البدري عام 1969 الذي انتقد حزب البعث في احدى خطبه بعد صلاة الجمعة. ولم تمنع سنيته من تعذيبه وقتله من قِبَل دولة تمارس السياسة الطائفية، خصوصاً في ظل نظام صدام حسين وبعد بروز دور الشيعة في الاحداث السياسية. ويساعد على تشدد موقف الدولة ان المرجعية والحوزة الدينية ظلتا، بما لهما من ترابط وتوحد، المؤسسة المدنية الوحيدة الفاعلة تنظيميا واقتصاديا وعلميا بعد ان اممت الدولة المؤسسات كافة وألحقتها بها. وعلى رغم محاولة الدولة الاشراف على النواحي المالية للحوزة الا ان الحوزة قاومت مثل هذا الاشراف. من هنا تأتي اجراءات الدولة لرفض كل مشروع يمكن ان يعزز الحوزة والمرجعية: رفض مشروع جامعة الكوفة الذي بذل الدكتور محمد مكية جهودا كبيرة من اجل اخراجه الى الوجود مع الهيئة التأسيسة للجامعة التي سعت لاحياء التقاليد الثقافية لمدينة الكوفة. ومن هنا يأتي التضييق على كلية اصول الدين وكلية الفقه والمؤسسات العلمية الاخرى التابعة للحوزة الدينية. نحن اذن امام تصادم مشروعين للدولة في العراق. وهذا التصادم يشكل تاريخ الصراع بين المرجعية والدولة في العراق. نأتي الان الى دور اية الله محمد محمد باقر الصدر والى موقف الدولة منه حيث حاولت الدولة من خلال تأميم المرجعية عام 1993 والحاقها بوزارة الاوقاف جعلها مؤسسة رسمية خاضعة للدولة ولتوجيهاتها وتبريراتها وسياستها ضد القوى الدينية. هكذا بدا قبول الصدر بالمرجعية اول الامر. حتى انه واجه عقبات قبوله بشكل طبيعي في الحوزة الدينية. غير ان مشروع الصدر سار بالافتراق عن مشروع الدولة. فبدل ان يتحول الى منفذ لسياسة الدولة ومبرر لاجراءاتها التعسفية اخذ يوسع قاعدة الانتقاد للدولة والرفض لمشروعها. انه مثلا يحتج على تغيير معالم مسجد الكوفة التاريخي، هذا المسجد الكبير جدا الذي يعتبر اثرا اسلاميا وتحفة تاريخية الى جانب وظيفته الدينية كمسجد. ويحتج علنا وامام عشرات الالاف من المصلين على الاعتقالات التي طاولت ائمة الجمعة ويؤسس لقاعدة تصادم مع شمولية السلطة التي تحاول الحاق المرجعية في شموليتها. باختصار سعى الصدر لتحويل المرجعية الى مانسميه بؤرة ثورية. ومارس سياسة التحويل التي تعتبرها السلطة استفزازا واعمالا معارضة سافرة. وافتى بوجوب صلاة الجماعة للشيعة ونشر اقامتها في اغلب المساجد والحسينيات الشيعية التي اصبحت تجمعا سياسيا معارضا ذا صوت ديني. وهذا الدور المعارض داخل العراق كان لا بد من ان يسكت في دولة تواجه الكلمة بدوي الرصاص. * كاتب عراقي مقيم في لندن. والنص محاضرة سبق أن ألقاها في "ديوان الكوفة" في لندن في 24/3/1999.