أفلح السيد ريتشاردوني في نفخ الروح في المؤتمر الوطني العراقي، بعد ان كان مجمداً فعلياً منذ سنوات، وكان ان رثاه أقرب أنصاره مُشيّعينه الى مثواه بمن فيهم من تصدّر اجتماعات وندسور. ولم تكن مهمة المنسق الاميركي سهلة. إذ قال الفرقاء المتخاصمون الاخوة الاعداء بحق بعضهم بعضاً ما لم يقله مالك في الخمرة في الخفاء والعلن، وان كانوا من مرجعية واحدة الا ان بينهم ما صنع الحداد، لذلك شكك المراقبون في امكانية انعقاد الاجتماع اصلاً ناهيكم عن نجاحه. لكن النجاح الذي احرزته جماعة وندسور والتفاؤل الذي اشاعه الاجتماع، لم يكن بمعزل عن ارادة الراعي الاميركي مباشرة وبالتأييد البريطاني، فقد سبق للرئيس كلينتون ووزيرة خارجيته اولبرايت ان حددا هدفهما المباشر "الاحتواء والاطاحة". وفي ضوء ذلك اصدر الكونغرس الاميركي قانوناً أُطلق عليه "قانون تحرير العراق" القاضي بتخصيص مبلغ 97 مليون دولار لمساعدة "الجماعات المعارضة" التي خلعوا عليها بعض المواصفات! ان هذه التطورات وأعني بها: اصدار قانون تحرير العراق، واخراج المؤتمر من غرفة الانعاش بعد فترة عصيبة قضاها في العناية المشددة وعبر عملية جراحية، والجولات التي قام بها مارتن انديك لدول المنطقة وفرز ريتشاردوني منسقاً، وتحديد العام 2000 موعداً للتغيير المنشود، واخيراً موافقة الحركة الكردية بشقيها البارتي والاتحادي على حضور الاجتماع رغم تحفظاتهما الشديدة، وان اشترطتا صدور تصريح اميركي يضمن حماية الأكراد اذا تعرضوا لأي هجوم كالتزام من الراعي الاميركي وكمقدمة للعودة الى المؤتمر. اقول ان هذه التطورات تضع مسألة التغيير واحتمالات تصاعد الموقف بنظر الاعتبار وعلى محمل الجد، بغض النظر عن الاهداف والمبررات، فمثل هذه القضايا في السياسة الدولية لا تصدر عن عبث وليست دون معان او دلالات! ورغم هذا الحشد الهائل من المعطيات الجديدة، يضاف اليه استمرار نظام العقوبات الاقتصادية المفروضة منذ 9 سنوات، واستمرار عمليات القصف الجوي في مناطق الحظر شمال العراق كردستان وجنوبه وكذلك مناطق اخرى من العراق، فالنخب العراقية باستثناءات محدودة جداً، سواء في الداخل او الخارج، لا تجد نفسها معنية بما يجري وان كان يصيبها بالصميم، خصوصاً ما يدبّر لها في الخفاء وما يدور حولها من صفقات وصراعات وتنحيات واستقطابات. اما الجمهور المغلوب على امره والمستلب على نحو مزمن داخلياً والمحاصر خارجياً فإنه كثير الشك، خصوصاً وهو يعيش حقيقة المأساة من دون ان يلوح له ضوء في آخر النفق. وهو يرى ويسمع كل يوم ان المظلّة العراقية التي تأسست في صلاح الدين عام 1992 وأُريد لها ان تكون "بديلاً" او تساهم في وصول البديل قد تشظّت طولاً وعرضاً واخترقت من كل صوب، فلم تعد صالحة للاستعمال حسب اقطابها الذين اعتبروها شيئاً من الماضي الذي عفا عليه الزمن، فكيف يا ترى يمكن اقناعهم بأنها ما تزال ببعض الترقيعات قادرة على الفعل، الا اذا آمنّا ان للسيد ريتشاردوني قدرات خارقة منها انه يحيي العظام وهي رميم لنستغفر الله! ومهما قيل عن مصارحات ومصالحات بين قطبي "الاخوة الاعداء" وبحضور واشراف الراعي الاميركي، لكن ذلك لن يكون في اغلب الظن، الا بصورة موقتة، والا لماذا لم يجدوا لغة تفاهم مشتركة بينهم علماً بأن الكثير ما يجمعهم، قبل تنصيب السيد ريتشاردوني! ولعل تساؤلاً مشروعاً يثار، هل حقاً ان الادارة الاميركية تعتقد ان "الاعدقاء" الاصدقاء الاعداء هم الذين يمكنهم ان يكونوا بديلاً عن نظام حكم الرئيس صدام حسين، واذا كانت تعتقد ذلك فانها تضيف الى اخطائها الكبرى خطأ جديداً واستراتيجياً، فباستثناء الحركة الكردية، وان كانت تقدم خطوة وتؤخر خطوتين، لا توجد قوة سياسية عراقية ذات وزن: اسلامية او قومية عربية او يسارية او ديموقراطية او ليبرالية قد تعاطت مع مشروع وندسور، رغم ان الولاياتالمتحدة رمت بثقلها لالتئامه. الخطأ الرئيس والاول حيال العراق هو صفقة المساومة والمفارقة التاريخية حين سمحت الولاياتالمتحدة للقوات الحكومية وللطائرات السمتية بقمع الانتفاضة الشعبية بعد وقف العمليات العسكرية مباشرة في آذار مارس 1991. والخطأ المركزي والاساسي في استراتيجية الولاياتالمتحدة هو استخدام نظام العقوبات الى ما لا نهاية خصوصاً بعد تحرير الكويت، لدرجة اصبح سلاحاً فتاكاً من اسلحة الابادة الجماعية البطيئة بحق الشعب العراقي. وما تزل الولاياتالمتحدة رغم معاناة السكان ومأساة العراقيين تصرّ على ان اولى اولوياتها هو بقاء الحصار تحت اي ظرف كان. والخطأ الاستراتيجي الآخر هو استمرار العمليات العسكرية في مناطق الحظر في شمال العراق كردستان وجنوب العراق خط العرض 32 حيث تسعى واشنطن وبخاصة بعد العمليات العسكرية العدوانية في كانون الاول ديسمبر 1998، الى مواصلة حرب استنزاف لاستيعاب ردود الفعل ضدها، بحيث يغدو القصف نوعاً من الروتين وباسترخاء من مجلس الامن. والخطأ المبدئي الآخر هو عدم اصرار الولاياتالمتحدة على تطبيق القرار 688 وهو القرار الوحيد من بين جميع قرارات الاممالمتحدة التي زادت على الثلاثين الذي انتصر للشعب العراقي مباشرة، حين دعا لوقف القمع الذي يتعرض له السكان في المنطقة الكردية وبقية مناطق العراق معتبراً ذلك تهديداً للسلم والامن الدوليين، داعياً لكفالة احترام حقوق الانسان والحقوق السياسية لجميع المواطنين. فبدلاً من إعمال وتفعيل هذا القرار وبحيث يتم تطبيقه بما يضمن اجراء انتخابات حرّة لاختيار الشعب العراقي لممثليه كما حصل في نيكاراغوا وكمبوديا ولاوس وانغولا وجنوب افريقيا، تم توجيه الضربات العسكرية من دون ان تؤدي الى التغيير المنشود في بنية النظام السياسي والقانوني في العراق. ومثلما تصرّ الولاياتالمتحدة في تطبيق القرار 687 المُكنّى ابو القرارات والذي يلحق ضرراً بليغاً بحاضر ومستقبل العراق ويعوّم ويجرح سيادته ويرتهن موارده لآجال طويلة، والقرار 715 القاضي بنزع اسلحة الدمار الشامل، عليها ان ارادت اجراء تغيير كما تدّعي، الاصرار على تطبيق القرار 688 الذي ظل يتيماً لانه لم يصدر ضمن الفصل السابع وتائهاً في دروب المساومات الدولية وقصور وذاتية وجهات النظر السياسية، ولا احد يسأل عنه، فلا مجلس الامن يصرّ على تطبيقه ولا الحكومة العراقية تعترف به مثلما تعترف مرغمة بالقرارات الاخرى، ولا الولاياتالمتحدة وضعته ضمن اولوياتها، ولا المعارضة العراقية بذلت جهداً على الصعيد العربي والاقليمي والدولي لاعتماده وبالتالي تهيئة فرص مناسبة للانتقال السلمي لعملية التغيير. لقد اسفرت سياسية الولاياتالمتحدة حيال العراق عن مقتل عدد من العراقيين الابرياء، يفوق ضحايا اسلحة الدمار الشامل التي استخدمت في التاريخ كله، وقد اوردت مجلة "فورين افيرز" على لسان البروفسور جون مولر، ان الاسلحة النووية والبيولوجية والكيماوية التي استخدمت في التاريخ، لم تسفر عن عدد الضحايا الذي اسفرت عنه العقوبات الاقتصادية ضد العراق. واذا كان مجموع ما احصته المجلة منذ الحرب العالمية الاولى وحتى الآن بلغ 400 ألف بما فيها ضحايا هيروشيما وناغازاكي، فإن اكثر التقديرات تواضعاً لعدد الضحايا يزيد عن 500 ألف وتبلغ وفيات الاطفال نحو خمسة آلاف طفل شهرياً. لقد حطّمت الحرب العسكرية والقصف المتواصل البنيان التحتي والمرافق الاقتصادية والحيوية والهياكل الارتكازية واودت بحياة 155 الف عراقي عسكري ومدني حسب بعض التقديرات الفرنسية. اما الحرب الاقتصادية الشاملة، فكانت اكثر خبثاً حيث تسببت في ترك عدة ملايين يعانون من الجوع والفاقة واعتلال وهزال الحياة الاجتماعية والثقافية وتردي الحال الصحية والمعاشية لدرجة مريعة، حتى أصبح الموت البطيء والاحتضار مشهداً مألوفاً، حسب الكاتب جيف سيمونز في كتابه "التنكيل بالعراق"، واصفاً بمقارنات ومفارقات الوضع العراقي الحزين بين العقوبات والقانون والعدالة. ان الحرب الاقتصادية ونظام العقوبات يستمران منذ نحو 9 سنوات بما يزيد على 3250 يوماً، واكثر 55 مرة من الحرب العسكرية التي دامت 42 يوماً وقد ادت هذه الحرب التدميرية الشاملة وتحت حجة اصطياد السمكة الخبيثة، الى تدمير النسيج الاجتماعي للمجتمع العراقي وبنيته التحتية، محوّلة بلداً عصرياً ومزدهراً رغم كل السلبيات والثغرات والعيوب، الى "معسكر لاجئين" يبحث فيه الانسان عما يسدّ الرمق وتهاجر عقوله وادمغته المفكرة وتتحول حواضره الى مدن غارقة في الحزن ومستغرقة في اليأس، خصوصاً وانها تعيش حال ابادة بطيئة لجيل كامل حاضر ولجيل قادم سيحمل آثار هذه الحرب التدميرية والشاملة، لدرجة اخذت تثير تساؤلات اخلاقية حول "الفضيلة الغربية" و"العالم الجديد" وقيم النظام الدولي الاكثر تسامحاً وعدالة، بما يضعها في قفص الاتهام ازاء ارقام الضحايا المذهلة في هذه "الحرب الصامتة" لكنها الاكثر ايلاماً وبشاعة. واخيراً هل سيؤدي نموذج التدمير الاميركي للمجتمع العراقي الى تحقيق التغيير المنشود والجذري ولمصلحة الشعب العراقي؟ فهذا الاخير كان الخاسر الوحيد والضحية الاولى ازاء كل المغامرات والمناورات والحروب الداخلية والخارجية، فقد ظل بين المطرقة والسندان، فمن جهة نار الاستبداد والعسف الداخلي وهدر حقوق الانسان التي ضاعفها نظام العقوبات الدولي الجائر وعمليات القصف المستمر وارتهان الموارد والحقوق لآجال طويلة من الجهة الاخرى، وكأن تلك التراجيديا العراقية والمأساة الداخلية لا يقابلها الا ملهاة خارجية وعبث بمصائر الحاضر والمستقبل! فهل سيبشّرنا السيد ريتشاردوني وجماعة وندسور بشيء آخر! * كاتب وحقوقي عراقي.