تضج واشنطن هذه الأيام بسيناريوهات اطاحة الرئيس العراقي صدام حسين، وأسخف السيناريوهات يلقى أكبر شعبية، كالعادة. فمجلة "الشؤون الخارجية" الرصينة نشرت في عددها الأخير مقالاً فنّد النظريات واقترح "احتواء الحماسة" ونقل السياسة من الاحتواء العريض الى الاحتواء الضيق. الاقتراح في حد ذاته يستحق قراءة دقيقة من صانعي القرار ليس فقط في واشنطن وانما ايضاً في العواصم العربية والدولية. وما تضمنه المقال من شرح وتشخيص للسيناريوهات السائدة يستحق تفكيراً عميقاً خصوصاً أن السياسة الدولية تجاه العراق تتخبط في جهلها لحقيقة السياسة الاميركية المستقبلية وحيرتها إزاء سياسة بغداد والمواقف الاقليمية من الملف العراقي. كتاب المقال خبراء في شؤون العراق وفي السياسة الأميركية الاقليمية، وهم دانيال بايمان، المحلل للسياسة في مؤسسة "راند"، وكينيث بولاك، بروفسور الأبحاث المتقدم في جامعة الدفاع الوطني، وغيديون روز نائب مدير الدراسات الأمنية القومية في "مجلس العلاقات الخارجية". ورغم ان المقال يعبر عن الآراء الشخصية للرجال الثلاثة، فإن انتماءهم الى هذه المؤسسات الفكرية الفاعلة في صنع السياسة الاميركية ليس هامشياً في اطار طرح الأفكار التي تضمنها المقال المطوّل. يتحدى المقال صحة النظريات الداعية الى هجر سياسة الاحتواء وتبني سياسة الإطاحة، ان كان بأسلوب استخدام القوة الجوية، أو بأسلوب تقسيم العراق الى مقاطعات في الجنوب والشمال، أو بأسلوب التمرد والعصيان على نسق المجاهدين في أفغانستان والپ"كونترا" في نيكاراغوا. في تشخيصهم لخيار استخدام القوة الجوية المكثفة، يقول كتّاب المقال ان استخدام هذه القوة وحدها "لم يفلح أبداً في أي وقت سابق في فرض الاستسلام على النظام المنافس"، وان من الغباء القول ان استخدام القوة الجوية وحدها سينجح في "القضاء على القوات البرية العراقية وسيمكن جيش المعارضة من الزحف الى بغداد بلا مقاومة". ثم ان هذه الخطة تتطلب تمكن المعارضة من الاستيلاء على مدن العراق بلا مساعدة القوة الجوية الاميركية بسبب عزم الولاياتالمتحدة على تجنب قصف المواقع السكنية حيث لا بد ان تختبئ القوات الموالية للنظام. وإذا كان العراق حقاً يمتلك أسلحة الدمار الشامل، قد يؤدي زج النظام في الزاوية الى استخدامه هذه الأسلحة. يضاف الى ذلك ان المعارضة قد تخسر المعركة البرية مما يضطر بالولاياتالمتحدة إما الى الاعتراف بفشل الإطاحة، أو الى الاستمرار بالقصف الى ما لا نهاية، أو الى ارسال قوات برية اميركية لاحتلال بغداد. لذلك، يرى كتاب المقال ان اللجوء الى خيار القوة الجوية وحدها "خطير للغاية والأرجح ان يؤدي الى زج واشنطن في زاوية بدلاً من تحرير بغداد". أسلوب اعتماد خطة مساعدة "الكونغرس الوطني العراقي" على السيطرة على مقاطعة كبيرة في جنوبالعراق أو شماله كنقطة انطلاق لتقويض نظام بغداد، في رأي كتاب المقال، "مضحك عسكرياً من شأنه ان يؤدي إما الى التورط الاميركي المباشر أو الى مذبحة ضخمة". وما يسوقه رئيس "الكونغرس الوطني العراقي" أحمد جلبي، في الكونغرس الاميركي على انه ذات كلفة مادية قليلة، بلا خطر أو مغامرة التضحية بأميركيين، وخطة سريعة للاطاحة بالنظام تستغرق سنة أو اثنتين، بات اليوم "حبيب" الكونغرس على رغم سخافة الطروحات. وقد أحسن كتاب المقال تدمير ادعاءات السيد جلبي ليس فقط بتشبيه الخطة بالفشل الذريع للسياسة الاميركية عندما دعمت الكوبيين المبعدين في عملية "خليج الخنازير" وانما ايضاً بتفصيلهم الخلافات داخل المعارضة العراقية سيما نحو جلبي، وفي استنتاجاتهم بأن هذه خطة غير قابلة للتنفيذ عسكرياً وهي خطيرة بكل ما في الكلمة من معنى، ولا تلاقي دعم جيران العراق. كذلك ان اسلوب دعم قوى التمرد، على نسق الأمثولة الافغانية، لا يتمتع بقاعدة الدعم الضرورية من الجيرة العراقية المباشرة، ان كان لجهة استخدام أراضيها كنقطة انطلاق للعمليات، أو لجهة الموافقة على خطة زعزعة العراق واطلاق حرب اهلية فيه. وفي رأي كتاب المقال، ان هذا الأسلوب يستغرق وقتاً طويلاً من شأنه ان يؤدي الى عزل الولاياتالمتحدة دولياً، وابتعاد دول المنطقة عن غاياتها اقليمياً بسبب ما تنطوي عليه من مفاجآت غير مرغوبة. "فزعزعة صدام ليست كما نصب حكومة موالية للولايات المتحدة في بغداد". وبما ان الولاياتالمتحدة ليست في وضع يمكنها إما من هندسة سقوط صدام حسين أو من القبول بعودته الى المجتمع الدولي، يقول كتاب المقال ان الخيار الوحيد أمام واشنطن هو استمرار سياسة الاحتواء وتعزيزها بوسائل جديدة. كتاب المقال لا يوافقون على الحفاظ على سياسة الاحتواء القائمة حالياً بطابعها "العريض" وتضم العقوبات، وعمليات التفتيش، والانتقام العسكري، والعزل الديبلوماسي. ما يقترحونه هو الانتقال الى "الاحتواء الضيق". وضمن هذا السيناريو توافق الولاياتالمتحدة على رفع العقوبات الاقتصادية عن العراق، وعلى التوقف عن فرض حظر الطيران في شمال وجنوبالعراق، مقابل ذلك، أولاً، يصدر قرار عن مجلس الأمن يمنع العراق من استعادة برامج اسلحة الدمار الشامل ومن الحصول على أية اسلحة تقليدية ذات أهمية مثل الدبابات والطائرات الحربية وطائرات الهليكوبتر المستخدمة عسكرياً. وثانياً، يتعهد القرار بآلية تنفيذ تشمل عودة عمليات تفتيش اللجنة الخاصة المكلفة إزالة الأسلحة المحظورة أونسكوم وبرنامج الرقابة البعيدة المدى، وينص على التزام واضح بحق أية دولة استخدام القوة العسكرية لفرض الامتثال في حال تقاعص بغداد. هذا الاقتراح، باختصار، يقضي بتوقف الولاياتالمتحدة عن العناصر غير المرغوبة في سياسة الاحتواء مقابل حصولها على صلاحية واسعة لتوجيه ضربات عسكرية ضد العراق هدفها وقف العراق عن استعادة قدرات أسلحة الدمار الشامل ومنع النظام من تعزيز ترسانة الأسلحة التقليدية. أما في ما يخص المعارضة، رأى كتاب المقال، ان دعمها يجب ان يكون عنصراً اسياسياً في السياسة الأميركية "انما فقط طالما ان هدف هذا الدعم واضح تماماً على انه تكملة للاحتواء وليس سياسة تحل محله". ورأيهم ان على الولاياتالمتحدة تبني دعم المعارضة المحلية العريضة داخل العراق بما يعزز فرص المعارضة واحتمالات قيامها بإجراء تغيير في النظام. هذه مقترحات منطقية وردت مراراً في هذه الزاوية بشكل أو بآخر أهميتها انها تصدر عن كتّاب في مؤسسات فكرية أميركية تضع المصلحة الاميركية في أعلى قائمة الأولويات، وأهميتها ايضاً انها صوت العقل الذي يسعى ان يخمد كل تلك الضجة والبلبلة والسخافة التي ترافق النظريات العشوائية والانفعالية والحماسية. ومن المفيد للقيادات العربية ان تستمع الى هذه الاطروحات، ليس فقط من منطلق صحة اقتراح الكف عن فرض العقوبات وفرض مناطق حظر الطيران، وانما ايضاً من منطلق التفنيد الصحيح للسيناريوهات الخيالية التي يسوقها البعض. صحيح ان الحكومة العراقية تعتمد خطاباً سياسياً نحو الجيرة العربية يجعل التعاطف معها مستحيلاً، انما الصحيح ايضاً ان السياسة الاميركية المفككة نحو العراق افتقدت العدالة والرؤيوية وحتى الواقعية. ولا يجوز ان تنساق الديبلوماسية العربية الى ما وصلت اليه في الأسبوعين الماضيين، وهي تتناول مسألة حيوية كمستقبل العراق. ولا يجوز ان ينحدر النقاش الى القاع الذي وصله. فملامح التقاعص جلية، كما هوس النظام في بغداد بالبقاء في السلطة بأي ثمن كان. والمحزن ان الحرب الاعلامية التي حدثت كان جنودها مفكرين ورجال أعلام لا علاقة لهم بمهمة التنوير ومسؤولية النقاش للتوعية وطرح الخيارات والتقدم بأفكار. حان الوقت لجردة واقعية ومنطقية لما يحدث في ملف العراق، يترتب عليها سياسات اقليمية واضحة وجريئة، الأفضل ان تصدر عن قمة عربية. الوضع الراهن القائم على استمرار العقوبات بذريعة اسلحة الدمار أو تحت غطاء آخر يجب ان يكون مرفوضاً. الولاياتالمتحدة بإدارتها الحالية، تتبنى سياسة استمرار العقوبات طالما ان صدام حسين في السلطة، وهذا يتنافى مع القانون الدولي والالتزامات الواضحة في القرار 687 حيث ان الفقرة 22 تنص على رفع الحظر النفطي عند استكمال بغداد تلبية مطالب لجنة "أونسكوم". واشنطنوبغداد معاً نفذتا الاطاحة بلجنة "أونسكوم" لغايات متضاربة علماً بأن هناك من ينظر الى الغايات بأنها متجانسة على اساس ان النظام في بغداد يريد بقاء العقوبات واستمرار "العداء" الاميركي كي يحصن نفسه داخلياً. فالعقوبات فشلت في انهاك النظام ونجحت في انهاك شعب العراق لدرجة القدرية والاستسلام وهو يذهب ضحية السياستين الاميركية والعراقية. الملفت ان واشنطن تتملص من "أونسكوم" اليوم ليس فقط لأنها عثرة في طريق السياسة الاميركية القائمة على حرية توجيه ضربات عسكرية متتالية بلا انذار، بل لأن "أونسكوم" هي مفتاح رفع العقوبات. وعبر تحييد "أونسكوم" وحذفها من المعادلة، فإن مفتاح رفع الحظر النفطي مفقود، عملياً وقانونياً وطبقاً للقرارات. بهذا المعنى، ان بغداد نفذت لواشنطن غايات رئيسية من خلال تصعيدها ضد "أونسكوم" والإطاحة بها. كذلك، ان مناطق فرض حظر الطيران يجب ألا تدوم لأن قاعدتها القانونية مفقودة أولاً، ولأن الاشتباك فيها خطير ثانياً، ولأنها مصدر تقسيم العراق ثالثاً. فالفوضى والاعتباطية في العراق خطيرة على استقرار مستقبل المنطقة. والتورط في سيناريوهات وهمية ليس في المصلحة العربية حتى وان كانت كلفة تجنبه التعايش مع النظام في بغداد. فالاحتواء الضيق، كما طرحه المقال في مجلة "فورين افيرز" من شأنه ان يحتوي طموحات غير مرغوب بها للنظام في العراق. أما التغيير المرغوب فيه في البنية السياسية في العراق فإنه يتطلب عزماً حقيقياً من الولاياتالمتحدة ومجلس الأمن وجيرة العراق قوامه فرض الانفتاح والتعددية وضمان حرية عمل المعارضة داخل العراق كجزء اساسي من قرار "المقابل" لرفع العقوبات الاقتصادية ووقف حظر الطيران.