يهدف حلف الأطلسي من حربه على صربيا الى تغيير نظام اتخذ من "التطهير العرقي" ايديولوجية. وإذا كان هذا النظام نجح جزئياً في تطبيق تلك الايديولوجية فإن حملة الأطلسي "ساعدته" في استكمال "التطهير". أي أنه حقق هدفاً "وطنياً" مثل في أدبياته السياسية منذ زمن بعيد، وفي الوقت نفسه اربك العدو الأطلسي عندما أغرق خطوط التماس البرية بمئات الآلاف من الكوسوفيين الألبان الذين طردهم من مدنهم وقراهم. لا بأس في مراجعة هذا التعبير السائد - التطهير العرقي - لأنه في أفضل تفسيراته ليس لائقاً بالذين يتعرضون للمهانة والإذلال والقتل بذريعة "تطهير" الأرض من وجودهم. و"التطهير" في الصيغة الانكليزية يعادل "الغسل" أو "الغسيل"، كما لو ان العرق الألباني كان يدنس اقليم كوسوفو ووجب بالتالي تطهيره منه. لكن ما جرى ويجري لالبان كوسوفو شبيه بالتفاصيل لما حصل لليهود على أيدي الألمان النازيين، ولما حصل للفلسطينيين على أيدي اليهود الاسرائيليين. بالطبع هناك فوارق، لأن لكل حدث ظروفه الخاصة، إلا أن الأهداف والنتائج هي ذاتها، والذهنية التي ترتكب الجريمة هي ذاتها، مثلما أن الانسان هو الانسان هنا أو هناك أو هنالك، ومثلما ان الحاصل هو جريمة ضد الانسانية. يبدو ان المصطلحات تبتكر حسب "أهمية" العرق ومدى انسانيته. ف"التطهير" أقل من "الابادة"، و"الهولوكوست" هو المصطلح الأوحد والأقصى لتوصيف حالة انسانية، مع ان القوانين الدولية لا تميز عرقاً أو شعباً في تحديدها لجريمة "الابادة" أو ل"الجريمة ضد الانسانية" أو ل"جريمة الحرب". فكلها جرائم في نظر القوانين. ولم تستخدم أي مصطلحات خاصة أو استثنائية لما حصل في رواندا، مثلاً، أو في كمبوديا، أو في فلسطين والعراق، وفي أي مكان دفعت الانسانية مئات الآلاف من ابنائها الى موت هو في معظم الأحيان مجاني أو بالأحرى هو ثمرة وصول عقول متعفنة في قمة السلطة. وبما ان حرب كوسوفو باتت ملفاً مفتوحاً في كل بيت فلا شك ان جميع الشعوب لاحظت هذا الاصرار، حتى من جانب كتاب وصحافيين ذوي شهرة "انفتاحية"، على استهجان حصول "هذا" في قلب أوروبا. و"هذا" الذي يأنفون من ذكره هو اقتلاع الألبان الكوسوفيين من أرضهم وسوقهم الى خارج "صربيا الكبرى"، علماً بأن قوافل النازحين بشيوخهم ونسائهم وأطفالهم ليست سوى غطاء لقوافل الرجال الذين فصلوا عنهم ويرجح أن يكون معظمهم صفّي في مجازر جماعية. "هذا" يحصل في أوروبا، يا للهول! ولكن، لماذا الاستهجان، هل لمجرد ان أوروبا مصنفة في العالم المتقدم، أم لأنها شهدت مثل "هذا" ولم تعد تتصور تكراره؟ كل الحجج لا تنفي ان أوروبا شهدت الجريمة تقع على أرضها قبل ثماني سنوات وتركتها تتفاعل وتستكمل فصولها، حتى أن فصلها الأخير تم تحت القصف الأطلسي. وكل الحجج لا تنفي كذلك أن سلوبودان ميلوشيفيتش لم يخترع نظرية "التطهير" وانما استمدها من فكر متعصب مكتوب لم يشأ الأوروبيون الآخرون الاعتراف به وبأخطاره لكنهم اضطروا أخيراً الى نبشه والتشهير به بعدما استفحل الأمر. كانت هناك جريمة معلنة ومبيتة لكن "الشرطة" الأطلسية وصلت بعد وقوعها، كما يحصل، عادة، في أوروبا وأميركا أو حتى في أقصى مكان في افريقيا أو في سواها. والغريب أن هذه "الشرطة" وضعت نصب أعينها، منذ البداية، وقف حرب "التطهير العرقي"، وأعدّت خططاً للقصف الممرحل، ثم درست سيناريوات عدة لحرب برية، كما حددت هدفاً استراتيجياً هو تغيير النظام. لكنها، مع كل هذه اليقظة والقدرة على التخطيط، اسقطت من حسابها عدم تمكين عدوها ميلوشيفيتش من تحقيق أهم أهدافه. فمن الواضح أنه لم يخطط للسيطرة على أوروبا، اسوة بأدولف هتلر، وانما سعى - فقط - الى طرد الألبان الكوسوفيين.