«طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    «الزكاة والضريبة والجمارك» تُحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة كبتاجون في منفذ الحديثة    باص الحرفي يحط في جازان ويشعل ليالي الشتاء    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    الكشافة تعقد دراسة لمساعدي مفوضي تنمية المراحل    الذهب يتجه نحو أفضل أسبوع في عام مع تصاعد الصراع الروسي الأوكراني    خطيب المسجد الحرام: ما نجده في وسائل التواصل الاجتماعي مِمَّا يُفسد العلاقات ويقطع حِبَال الوُدِّ    المنتخب السعودي من دون لاعبو الهلال في بطولة الكونكاكاف    الملافظ سعد والسعادة كرم    استنهاض العزم والايجابية    المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    لبنان يغرق في «الحفرة».. والدمار بمليارات الدولارات    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    ترمب يستعيد المفهوم الدبلوماسي القديم «السلام من خلال القوة»    إطلالة على الزمن القديم    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    فعل لا رد فعل    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    ترمب المنتصر الكبير    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    ندوة "حماية حقوق الطفل" تحت رعاية أمير الجوف    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    استضافة 25 معتمراً ماليزياً في المدينة.. وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة    «المسيار» والوجبات السريعة    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حول فارغاس يوسا وكتّاب عرب وأجانب آخرين . المنفى الذي نحمله في داخلنا هل يتعلق بالهجرة أم بوطأة الأوطان؟
نشر في الحياة يوم 15 - 04 - 1999

كثيراً ما يُواجه الكتّاب المنفيون بالسؤال عن سبب مغادرتهم بلدانهم، وإن كان خروجهم يؤدي الى فقدانهم ذاكرتهم ونسيانهم لتلك الأماكن الحميمية التي عاشوا فيها سنوات طويلة، ويجعل كتاباتهم تفقد حرارة وألفة ذاك الذي ما زال يعيش في الداخل، مثلما تفقد مواقفهم القدر نفسه من مصداقيتها. لا أبالغ في القول إذا ما ذكرت هنا، بأنه منذ قرننا الماضي وحتى الآن لم يحظر لكاتب ما مثل هذا السؤال، بغض النظر عن جنسية الكاتب ودوافع خروجه. فكم هو عدد الكتّاب الذين أُتهموا بالخيانة بسبب مغادرتهم أوطانهم منذ المتنبي ودانتي مروراً بجوزيف كونراد وجويس وماركيز وغونتر غراس وفارغاس يوسا. ومهما كانت التخريجات التي يدعي واضعو الأسئلة ذاتهم التوصل اليها، الذين هم عادة مهتمون بالسياسة أكثر مما هم مهتمون بالأدب، فإنهم لا ينظرون للكاتب من خلال ما يكتبه، إنما يقيمونه من خلال المكان الذي يعيش فيه، أو من خلال موقع "غرفته" التي يكتب فيها كما علق الكاتب البيرواني فارغاس يوسا في تعليقه على هذه المسألة في إحدى مقالاته.
ان تلك النظرة الضيقة تقود الذين ينظرون نظرة مريبة للكاتب الذي يعيش خارج بلاده الى أن ينتهوا الى فكرة ساذجة تقول: من الصعب على الكتّاب المنفيين الكتابة عن "أوطانهم" بسبب معضلة استيعاب الكاتب الروائي للحدث الروائي التاريخي التي تحتاج بين ما تحتاج اليه الى فترة زمنية للنضوج معرفياً ونفسياً. لهذا السبب ولغيره من الأسباب الساذجة ربما من الأفضل للكتّاب أن يكتفوا حاضراً بالكتابة عن المنفى، على رغم أن البعض من الكتّاب مرَّ على نفيهم ما يقارب العشرين عاماً وبدأ يصبح منفاهم في عداد التاريخ أيضاً. ان مثل هذه الجمل لا تنم إلا عن جهل، لأنه لا يُمكن لأحد أن يُسقط على الكتاب مشكلته الشخصية المتعلقة بحاجته الى ما يعنيه بفترة طويلة للابتعاد عن النظرة الفزعة لفكرة المنفى أو الإقصاء عن الوطن، ويطلب من الكتاب أن يتوقفوا عن الكتابة عن "أوطانهم" وأن يكتبوا أوتوماتيكياً عن المنفى لأنهم خارج البلاد. طبعاً لا أقصد أولئك البعض الذين يتحدثون عن الموضوع بنية سيئة و"إثارة نميمة"، إنما أقصد بالفعل أولئك الصحافيين الجادين الذين يثيرون السؤال عن حرص ما أن يلتقوا بكاتب منفي. على رغم أن من حق أي إنسان أن يذهب الى أي مكان يريد ولأي سبب كان فالأرض أوسع من حكمة هؤلاء!
يغيب عن هؤلاء السؤال الأكثر أهمية، وهو: هل الخروج الى المنفى يعني بالضرورة توقف ذاكرة الكاتب ومخيّلته لناحية الكتابة عن "هناك" وعليه فقط الكتابة عن "هنا" المنفى؟ ببساطة أجيب ومن دون حرج: كلا. أولاً لأن الكتابة الجميلة هي كتابة عن الإنسان المنفي حتى وإن كان يعيش في ما يُطلق عليه "الوطن"، الذي هو أصلاً اصطلاح سياسي أكثر منه إبداعي. ففي النهاية وطن الكاتب هو اللغة التي يكتب بها، وبيته هو العالم الذي يصنعه من عمله، مثلما هو وطن الرحالة، يكون حيث تطأ قدماه، وليست هناك علاقة قوية بين المكان الذي أجلس فيه وأكتب والمخيلة الإبداعية التي لا تعرف مكاناً معيناً وحدوداً. حتى أن كاتباً فارغاس يوسا يكتب: "من لم يشعر بالراحة في مكانه فليغادر!".
جملة مثل هذه تتضاعف قوتها إذا عرفنا ان الكاتب البيرواني تشبعت حياته بالسياسة حتى أنه كتب كتاباً قبل سنوات قليلة عنوانه "سمكة خارج الماء" ليشبه ذلك بانغماسه بالسياسة التي أخذت الكثير من وقته: خمس سنوات لم يكتب خلالها حرفاً أدبياً واحداً، وذلك لانشغاله في التحضير لحملته الانتخابية كمرشح لمعسكر اليمين في البيرو. على أية حال فشل يوسا مرشح الرئاسة، واكتشف أنه لا يمكن أن يكون إلا كاتباً ناجحاً، وعرف من جديد يمكن له، ككاتب، ان يخدم بلاده والإنسانية بنحو افضل ولا يهم أين يعيش. فالذي يؤمن بقيمة الأدب لا يهمه المكان الذي يكتب فيه، إنما طبيعة العمل الإبداعي الذي يكتبه. فما هي قيمة عمل لا يتنفس هواء حراً ولا يكتب بحرية تحت سلطة ديكتاتور أو تحت سلطة محرّم اجتماعي؟ هل يخدم هذا العمل أحداً وهل سيُشكل وثيقة لثقافة بلد وللإنسانية؟ يوسا يعرف بأنه لم يكن بإمكانه كتابة "المدينة والكلاب" و"حديث في الكاتدرائية" و"البيت الأخضر"، لو لم يعش في منفاه الباريسي آنذاك. بالقدر نفسه يعرف ماركيز، الذي لم يجد ملاذاً له أكثر من التصريح في العام الماضي، بأنه سيغادر البلاد "كولومبيا" مرة أخرى، لأنه لا يملك الهدوء الذي يحتاجه ليس للكتابة فقط، إنما حتى "للغناء" والعيش براحة بال. وهو ليس الأول الذي يبحث عن بلاده خارجها، قبله بحث جويس عن "دبلن" التي كان يكرهها بقوة، خارج دبلن.
هل خان جويس بلاده، كما يتهمه المتعصبون؟ وهل خان غونتر غراس بلاده أيضاً عندما ذهب مختاراً الى الهند؟ وهل خان العراقي الجواهري بلاده في خروجه مثلاً؟ ليس المهم الإجابة هنا على السؤال، لأن ليس هناك شك بأن هؤلاء خدموا بلادهم بالذات في خروجهم، لأنهم استطاعوا بحق، أن يكتبوا ما لم يستطيعوا أن يكتبوه في "الداخل". ما فائدة بقاء مبدع في ما يُسمى "الوطن" ان لم يستطع فيه انجاز النص الذي يريده.
صحيح أن الكثير من الكتّاب والفنانين منفيون "جغرافياً"، إلا أنني أعتقد، أنهم كانوا منفيين هناك - في "الوطن" - منذ وعيهم الألم في البلاد التي وُلدوا فيها وعاشوا، أو لنقل منذ أن شعروا بوجع الرأس ووخزات القلب التي صاحبتهم نتيجة رؤيتهم لحيف الدولة الذي تُلحقه بالإنسان، ورفضهم العسف الاجتماعي الذي يُضيف لإرهاب السلطة، الشرعية التي تحتاجها لتحطيم الجمال. وعندما يتحول "البقاء على قيد الحياة" الى مغزى الحياة الرئيسي في بلدٍ ما، فإن جمال هذا البلد يتحول الى ألم، ويتحول البلد ذاته الى منفى. وحتى ذلك النفر القليل من الكتّاب الذي ينتمي الى حزب سياسي "معارض!!" سيشعر رجاله بغربة حتى داخل أحزابهم.
لكي أكون واضحاً أقول: ان المنفى لا يعرف حدوداً، والوجد لا يقاس بالمسافة. انه داخلي وقاتل. ان الغربة والمنفى يبدآن حينما يدرك المرء انه وحيد ومهجور، عندما يضرب بأقدامه ليبحث عن أرض يستند اليها فتفر منه. الغربة تبدأ حين يبدأ القلب بعويله. ان المنفى أكبر من أن تعرفه حدود، انه القلب الذي يقفز من قفصه الصدري. بهذه الصورة يبدأ المنفى أولاً هناك، منذ وعي المرء للإبداع أو منذ وعيه للألم، وليس كما يطرح البعض، عندما يُنفى الإنسان جغرافياً.
وعند الحديث عن حالتنا نحن، فليس من الخافي أن بعض أفراد جيلي أو الذي قبله - وحتى الذي يليه - كان يرغب دائماً في الرحيل، وقبل اشتداد الملاحقات، واعتقال البعض. لم يكونوا جبناء ولا "خونة"، لكنهم كانوا يرغبون بالانسحاب من المشهد الدموي العام من دون خسارات فادحة.
فبحسب ما أعلم لم يتبوأ أحدهم منصباً، ولم يقبلوا الكتابة ب"حداثة القادسية" ولا ب"حداثة ما بعد أم المعارك". كانوا ببساطة مطرودين من "جنات" السلطة وحلفائها. ولكن على رغم ذلك - أقول - كانت تلك الجنات التي صنعوها من الحريات الصغيرة التي اغتصبوها لأنفسهم هي الأعظم. بالإضافة الى رغبتهم في الانعتاق من المدن الكماشة التي لم يعودوا يستطيعون تنفس هواء نقياً فيها. ربما كان تفكيرهم بالانعتاق يشبه تفكير أجدادنا السومريين، أجدادنا الأوائل، الذين كانوا يسمون الأراضي التي تمتد خارج أسوارهم ب"الفردوس"، هذا يعني أنهم كانوا ينظرون الى مدنهم مثلما ينظر السجناء الى سجونهم. يُمكن القول أن بعضنا كان يبحث عن فردوسه خارج "الوطن" الإيديولوجيا - السجن الذي أرادوا تسييجنا به، والذي كنا نشعر ونحن فيه بأننا "منفيون" هذه المرة يُريدون هؤلاء الأشخاص ذاتهم تسييج منفانا - ايديولوجياً!.
ضمن هذا التفسير يصح القول إن كل كتابة إبداعية هي في المحصلة انجاز إبداعي عن "المنفى"، منفى الإنسان الأبدي وتغربه "هنا" و"هناك".
عند دراستي للأدب الألماني في جامعة هامبورغ، تخصصت في البداية ب"أدب المنفى"، فوجدت أن نسبة الروايات المكتوبة عن "المنفى" الجغرافي لا تتعدى عدد الأصابع. الأمر نفسه ينطبق على الروايات المكتوبة بلغات أخرى. ان معظم الأعمال العظيمة كتبت في المنفى، وليس عن المنفى "الجغرافي"، وهي تتحدث عن فكرة نفي الإنسان الأبدية، واغترابه عن مجتمعه، لأن المبدع متحالف مع غائب، وشخوصه تترجم لغة إنسانية تتعدى الحدود وتسخر من تعريفات القوميين الضيقة.
فعلى مرّ العصور عرف المبدعون أنه حيث تكون سلطة يكون نفي. ففكرة المنفى تلازمت مع وجود أبينا الأول آدم وأمنا الأولى حواء. كل "الرسل والأنبياء" كانوا منفيين، وكل الأدب العظيم مكتوب من قبل منفيين، ولم يكن بالضرورة مكتوباً عن حياتهم في منفاهم "الجغرافي": طرفة بن العبد، المتنبي، عروة بن الورد، دانتي، سرفانتس، بايرون، جوزيف كونراد، هاينريش هاينة، ياكوب ماريا لينتز صاحب مسرحية الجنود، بوشنير صاحب مسرحيتي فويتزيغ وموت دانتي، أوسكارد وايلد، إزرا باوند، صاموئيل بيكيت، جيمس جويس، هيرمان هسة، راينر ماريا ريلكة، أيريش ريمارك، برتولد بريشت، توماس مان، هلينا فايغل، بيتر فايس، ستيفان تسفايغ، ليون فويشتفينغير، الفريد دوبلين، ليونارد فرانك، جبران خليل جبران، رافائيل البيرتي، أنطونيو ماتشادو، لويس غيرنودا ومعظم جيل 27 من الشعراء الإسبان، بابلو نيرودا، ناظم حكمت، ليوبولد سنغور، يوجين يونسكو، ميغيل استورياس، غارسيا ماركيز، خوليو كورتازير، فارغاس يوسا، صادق هدايت، أحمد إقبال، محمد مهدي الجواهري، جوزيف برودسكي، ميلان كونديرا، سعدي يوسف... والأمر لا يخص الأدب فقط بل يطال الإبداعات الأخرى حتى أن القائمة تطول لتصل الى الموسيقيين: شوبان، الأرجنتيني لويس كارديل، الألماني كورت وايلد، ميكيس تيودوراكيس، التركي ليفانيللي، اليوناني دلاريس، ماريا فارنتوري، والرسامين: دافينشي، كاندينسكي، شاغال، بيكاسو، فان كوخ. بل ان كل مجد هوليوود أُسس بإعمال المنفيين الإبداعية: تشارلي تشابلن، مارلين ديتريش، ميشيل كورتز، فريتز لانغ، وغيرهم... ومثلهم أسس المبدعون الذين غادروا بلاد الشام - بسبب جور العثمانيين - لفن المسرح والغناء وفن الطباعة في القاهرة في بدايات هذا القرن: أمثال خليل مطران، الريحاني وجرجي زيدان وغيرهم... وهل هناك حاجة الآن لذكر الكتّاب الأمريكيين من "الجيل الضائع Lost Genaration"، الذين اختاروا الرحيل الى باريس في الثلاثينات: سكوت فيتزجرالد، دجونا بارنر، هنري ميلر، أرنست همنغواي، ترومان كابوته... الخ؟
عدد كبير من الكتّاب لم يختر نفيه بحرية، كان مطروداً من "بلاده". ترى هل كانوا أضافوا للإنسانية شيئاً، لو جلسوا وكتبوا المرثيات فقط. الكثير منهم كان يشعر ان ابتعاده عن بلاده بالذات هو ما يجعل رؤيته أكثر سعة. فهل نرى الأبراج العالية، الفنارات، المنارات، القبب وأبراج الكنائس لو جلسنا تحتها؟ "كلا"، سيجيبنا حتى ذلك الشخص غير المتخصص بالأدب، "على العكس، لو جلسنا بعيداً، لكنا رأيناها أجمل!".
وفي كل الأحوال من الأفضل للإنسان أن يُنفى على أن يبقى تحت ظل سلطة لا تمنعه من أن يفصح عما يفكر فيه" وذلك ما تحدث عنه يوربيديس في الفينيقيات، التي استشهدنا بها في مدخل المقالة. على هذا الأساس، ليس "المنفى" - الذي يقصده هؤلاء المعنيون بالسياسة أكثر منها بالأدب - بالضرورة سيئاً للمبدع، على العكس، فهو يزوده بهواء أكثر نقاء، يجعله بعيداً عن "العبودية" وعن ذراع التحريم بشقيه الرسمي والاجتماعي بما فيها التحريم الشخصي ذاته وأقول المبدع لأن ليس كل كاتب منفي هو بالضرورة مبدع، ولكن كل مبدع هو بالضرورة منفي، فبالتالي ان "الكتابة الجميلة هي كتابة ثورية" كما قال ماركيز هو الذي لم يكتب عن المنفى، إنما كتب في المنفى عمله الخالد "مائة عام من العزلة"، بل أنه كتب أول رواية له في منفاه الباريسي "ليس للكولونيل من يراسله".
ورواية ماركيز، مثلها مثل "قلب الظلام" لجوزيف كونراد، و"في انتظار غودو" لصموئيل بيكيت، و"غيرنيكا" لبيكاسو، و"المدينة والكلاب" لفارغاس يوسا، و"أوليسيس"، لجويس، و"أضواء المدينة" لشابلن، و"النبي" لجبران وغيرها... هي أعمال أُنجزت من مبدعين شباب بدأوا إبداعهم في "الداخل" وغادروا عندما شعروا بالحاجة لتنفس هواء نقي ليكملوا طريقهم في "المنفى"، وأقول في المنفى، لأنهم ربما لذلك السبب أبدعوا بلوعة لكي يعوضوا عما أرادوا أن يُنجزوه عندما كانوا داخل الجغرافية "الوطنية" و"القومية".
بهذا الشكل يصبح المنفى تكملة للتجربة التي بدأها الكاتب "هناك". فالمبدع هو الذي يشعر أساساً أن تجربته لم تكتمل ولن تكتمل يوماً، لأن أفق الإبداع مفتوح دائماً، يضاف الى ذلك شعوره بغربته عن "الوطن" سواء كان هنا أو هناك، وال"هنا" وال"هناك" ظرفا زمان ومكان يتبادلان المواقع وفق قوة لوعة المبدع واصراره على الإبداع وتحالفه الدائم مع غائب وعدم إذعانه الى سلطة مؤقتة. فقط أولئك الذين لم يغادروا البلاد بسبب الاضطهاد والتمرد على السلطة بشقيها السياسي والاجتماعي لن يكون بمقدورهم انجاز أي عمل إبداعي، لأنهم لم يُفكروا أصلاً بإنجاز هذا العمل حتى عندما كانوا هناك، بسبب التربية الحزبية الشوفينية التي تقبلوا النمو على مبادئها.
فمن لم يشعر بالحيف والاضطهاد "هناك" سيواجه الصعوبة في القفز على ظله، والكتابة بحرية "هنا"، وسيشغل نفسه بأمور تافهة لا علاقة لها بالإبداع. "ينبغي عدم الثقة بالروائيين الذين يمتدحون بلادهم: ان الوطنية فضيلة رائعة لدى الجنود والبيروقراطيين... إلا أنها فقيرة في مجالات الأدب. فالأدب بصورة عامة، والرواية بصورة خاصة، معبران عن عدم الرضى. وتبرز منفعتهما الاجتماعية في أنها تُذكر الناس أن العالم على خطأ دائماً... وان الحياة يجب أن تتغير دائماً"، كتب فيرغاس يوسا. ولا يُمكن للكتابة أن تكون بهذه الخلفية من دون التورط ب"هجاء الحاضر". ومن البديهي ان الكاتب لن يجرؤ على تلك المغامرة من دون توافر الحرية" الحرية الداخلية قبل كل شيء التي هي شرط الإبداع، والتي لا تعرف مكاناً.
من الغريب أن معظم الكتّاب المُعترف بهم، والذين يُحتفى بهم عالمياً، كانوا مرفوضين ومُحاربين في بلدانهم: لم يُرفض فرناندو بيسوا في مكان آخر كما رُفض في عاصمة بلاده لشبونة" لم يُستغب لوركا في بلاد أخرى كما حصل له في بلاده إسبانيا" لم يُحارب السياب في أرض أخرى كما حورب على أرضه من كل الأحزاب" ولم يُرفض ما كتبه جويس كما رُفض في مدينته دبلن" ولم يُشنّع ما كتبه لورنس من روايات وقصص كما شُنّع في إنكلترا الملكية...
لا أقول ذلك عزاء، بل ان ما أريد قوله ان ليس المهم للكاتب التفكير ب"داخل" و"خارج"، إنما الأكثر أهمية هو التفكير بشرط الإبداع. إن الكتّاب المنفيين الذين يكتبون بالعربية والعراقيين منهم بشكل خاص بإمكانهم تقديم "أوطانهم" من خلال انجازاتهم الإبداعية. فبالتالي أجمل الأوطان ليست تلك التي تفرضها ايديولوجيا سلطة ما في حالة العراق تفرضها السلطة بالموت والرصاص والدمار والسلاح الكيمياوي وبكتبها في "داخل" و"خارج" البلاد!!، إنما هي تلك التي نجدها في كل رواية جميلة وفي كل قصيدة جميلة وفي كل أغنية جميلة. وهذا ينطبق على الإبداع في أي مكان وزمان. وذلك ما عرفه الغجر، فهم منذ سرقتهم للمسامير التي أريد صلب المسيح بها، منذ ذلك اليوم وهم مطاردون، يدفعون ثمن احتفاظهم بالمسامير التي لن يعطوها لأحد، راحلين من مكان الى آخر. ذات مرة سألت - في ندوة في بوخارست - رئيس المجلس العالمي للغجر السؤال التالي: "كل الأقليات عندما تتحدث عن حقوقها تصبو للانتماء لقومية كبيرة تتحدث لغتها، الى ماذا يصبو الغجر؟"، نظر إلى، ابتسم، وضرب برقة على القلب: "نحن ننتمي لهذا الوطن". جواب لا يخلو من الرومانسية لكن هذا ليس بغريب لأن لا وطن ولا منفى لكلمتي "وطن" و"منفى" في لغة الغجر، ربما تُشكل هذه الرؤيا أحد مصادر الإبداع، وربما تتزود منها شرايين دم الكتابة، وربما هي التي شجعت الكاتب البيرواني فارغاس يوسا على أن يقول "من لا يشعر بالراحة هنا فليغادر".
* روائي وكاتب عراقي مقيم في ألمانيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.