"مزيداً من النور Mehr Licht، قيل انها كانت الجملة الأخيرة التي تفوه بها غوتة، والتي حورها الكاتب النمساوي المغموم توماس بيرنارد فصارت "مزيداً من العدم Mehr Nichts. رغم ذلك سيكون هناك الكثير من الأشياء في هذا العام بمناسبة الاحتفال بمرور 250 سنة على ميلاد الشاعر غوته. فعلى طول البلاد الألمانية وعرضها سيحاول العشرات من الخطباء ودور النشر استغلال هذه المناسبة لكي يتزودوا بجرعات تبقيهم على قيد الحياة، ولينهلوا ما يشاءون من الاستشهادات من مخزون غوتة الذي فيه ما لذ وطاب. ففي النهاية ليس هناك حقل علمي أو أدبي، حياتي أو خيالي، لم يحرث فيه قلم غوته، وهو فوق كل شيء، أكثر كتاب القرون الثلاثة التي مرت، قابلاً لأن يكون دكاناً كبيراً لكل من يريد أن يخدم نفسه بنفسه وفي كل الاتجاهات. ومرة أخرى سيحاول الألمان تبني ما هو "فاوستي" وتحويله الى هوية قومية. ومنذ الآن نعرف أن الأبطال، الذين يتبوأون خشبة المسرح في المقدمة، هم - ليس وسائل الإعلام الألمانية فقط - أعضاء الحكومة الألمانية الجديدة، رئيس الحكومة شرودير ووزير ماليته ورئيسه في الحزب لافونتين، مثل فاوست ومفيستو، وزير الخارجية زعيم حزب الخضر يوشكا فيشر مثل فامولوس. ان تحول غوته الى الكاتب والرجل الأكثر تأثيراً في المانيا - أكثر من أي كاتب آخر - بالمعنى السياسي، لا يخلو من مفارقة بعلاقته المعروفة مع الشكوك السياسية والتاريخية التي لم يخفها يوماً "أكبر عبقري متمرد في الزمان" كما وصفه الشاعر الألماني هاينريش هاينه. فإن غوته نفسه هو الذي صرح، من دون التباس، قبل موته بأربع سنوات: "أنا لم أصبح شيخاً الى درجة أن أهتم بتاريخ العالم، ذا الذي هو أكثر الأمور عبثاً" وسيان بالنسبة لي، إذا مات هذا أو ذاك، إذا انقرض هذا الشعب أو ذاك" وسأكورن أحمق لو شغلت نفسي بذلك. "غوته اللامبالي الكبير"، وهذا هو أحد أشكال ماهيته. من العبث تأطير غوته في صورة واحدة، فما أن يحاول المرء ذلك، حتى يبرز في صورة أخرى ويقدم نفسه أكثر من روحين في جسم واحد. إذ من المتعذر الإمساك به دائماً - ويصير ذلك مستحيلاً عندما يحاوله التربويون والسياسيون الذين يريدون تحويله الى نموذج، لأن النموذجي في غوته هو عدم تلاؤمه مع أي نموذج. فدراسة غوته تمنحنا الشعور بأن هذا الأرستقراطي، ابن البورجوازي الكبير المولود في فرانكفورت، ذهب عبر جحيم الوجود الإنساني، مثلما فعل مرة هولديرلن وفان كوخ، أدغار الان بو ودوستويفسكي، ولكنه رغم ذلك يترك الانطباع بأن شيئاً ينقصه ليكون كذلك. أقصد ذلك الشيء الذي ميز أو دمغ هؤلاء العظام بدمغته. كلا، فهو بالتأكيد لا ينتمي الى شهداء الأدب أولئك، بل على العكس، انه شغل أكثر من مرة منصب الوزير والمستشار في إقطاعية فايمار، لكنه عندما يرفض بقوة شهداء الأدب ويضع الكلاسيكية كمنهج سليم في مواجهتهم، فإنه لا يفعل ذلك نتيجة لنقص في الفهم، بل لأنه يمثل برنامجاً ونظاماً وتصوراً للأدب ولموقع الأديب وسلوكه. وفي تصريحاته المتعددة نجد تركيزه على كونه كاتباً لا يتلائم في الاتجاه الأدبي العام في زمانه كله، ولم يشأ أن يترك نفسه تقع "في الهاوية" - على حد تعبيره هو -. لكن هل من المعقول انه، ككاتب، لم يقع في اغراء السقوط في ما كان يطلق عليه "الهاوية"؟ وإذا كان الجواب بالنفي، فلماذا وضع نفسه هو في موضع الدفاع، وعمل المستحيل لكي يحمي نفسه من "الموت شهيداً" شأن أدباء عصره أو أدباء العصر الذي تلا؟ ربما كان غوته يغار من الآخرين، من كتاب الألم، الذي كان الاقتراب من الموت بالنسبة لهم أمراً عادياً. وكتابه "آلام فيرتير"، هو مثال على ذلك، حيث لم يبق في النهاية أمام الشاب فيريتر إلا أن يأخذ المسدس. "كل عزاء هو إثم، واليأس هو واجب وحسب"، كتب في "فاوست 2". لكن غوته حاول دائماً أن يفعل كل ما يقوده الى خارج هذا الواجب: الإنسحاب من الواجب، كان هذا شعاره. لذلك لا يخلو من العبث، أمر تحويل غوته الى "بطل قومي"، ذاك أنه كان يعيش غربة مستمرة عن القومية التي تزين نفسها به بقوة هذه المرة، مثلما تزينت به أكثر من مرة سابقاً مرة في عصر القيصر فيلهيلم، ثم في زمن النازيين، وبعد النازيين، ثم في زمن الوحدة الألمانية، على رغم محاولاته هو الاقتراب منها، وان ظلت هذه النتيجة غريبة عليه. ظل غوته غريباً حتى لأصدقائه القريبين. وأن يكون المرء قريباً منه، فهو أمر لا يجلب الكثير من الحسد. وحتى أولئك الكتاب الذين حاولوا التقرب منه، لم يجدوا طريقهم سهلاً، فهو شخص لا توقفه حدود. في العام 1912، ووفقاً لدفتر يومياته، حاول فرانتز كافكا كتابة موضوع عن غوتة، بعنوان "جوهر غوتة المرعب". لكن صاحب "المسخ"، يكتب بعد ذلك بأيام قليلة في دفتر اليوميات: "غوتة، عزاء في الألم". ما الذي يعني ذلك، رعب أم عزاء؟ من الواضح أن غوتة يترك الانطباعيين معاً، الشعورين ذاتهما. تناقضه يتطابق تماماً مع عظمته. ولذلك السبب بالذات كان غوته الوجه المضاد للمؤلف الشعبي، المؤلف المقروء من الجماهير. فالشعبية تشترط قبل كل شيء الوضوح، وضوح شيللر تقريباً. في العام 1778 كتب في دفتر يومياته: "أنا لم أُخلق لهذا العالم. فما أن يغادر المرء بيته حتى يدوس غائطاً كثيراً". ومثلما كره غوته النقاد، كره الجمهور، وقد كتب عنهم جملاً فاضحة عديدة، إحداها التالية: "أمس في غمرة احتفائية معرض لايبزك خطرت لي جملة أرسطو طاليس عن الرعاع: قيموا الموت قبل الولادة". ظل غوته محتفظاً بذلك الموقف حتى وهو طاعن بالسن، "أعمالي لا يمكن أن تكون جماهيرية، انها لم تكتب للجمهور، إنما فقط لأفراد معينين، لناس يريدون ويبحثون عن شيء مشابه، قال لكاتب سيرته أكيرمان، الشاب المعجب بغوته، الذي أراد أن يصنع منه كاتباً جماهيرياً. حواراته مع غوته تملك حتى اليوم صورة مؤثرة عن غوته "العظيم"، الذي ينزل مثل "إله" من الأولمب ليجيب على كل شيء يتعلق بالكون. نيتشه الذي قرأ محاورات أكيرمان مع غوته والتي يعتبرها أفضل كتاب ألماني على الإطلاق، يشكو، بأن غوته "ظاهرة لم تتكرر". لكنه لم ينتبه الى أن هذه الظاهرة التي لا تتكرر جاءت نتيجة لكتاب المحاورات التي أجراها أكيرمان. من اللافت للنظر أن غوته لم يكن قبل ظهور تلك المحاورات كاتباً مقروءاً إلا مرة واحدة، في كتابه "آلام فيريتر". كل الكتب التي ظهرت قبل ذلك الكتاب وبعده، هي كتب كُتبت للأقلية. وحتى عندما مات في العام 1832، لم يكن موته ذا قيمة، لدرجة أنه لم يستحق أن تنشره مجلة "شتوتغارتير ليتراتوربلات"، على رغم أنها كانت تصدر عن دار نشر غوته. كان رجل الساعة، إن لم يكن رجل العصر، في ذلك الوقت هو شيلر. ففي العام 1849 لم يلاحظ أحد في المانيا ذكرى مرور مائة عام على ميلاد غوته، بينما بعدها بعشر سنوات فقط، عاشت كل المانيا حماسة الاحتفاء بذكرى مرور مائة عام على ميلاد شيلر، البورجوازية الألمانية الثورية في ذلك الوقت رأت في غوته كاتب بلاط، وخادم للنبلاء والإقطاعيين، وكان على غوته أن ينتظر فشل الثورة البورجوازية، وصعود القيصر فيلهيلم الى العرش، لكي يتحول منذ تلك اللحظة الى أمير الشعراء، بلا منازع. والاختلاف بين غوته وشيلر، على رغم صداقتهما، لا يكمن في اختلاف طريقة كل منهما في الكتابة وحسب، وإنما في اختلاف موقفهما السياسي. يكتب غوته "كلما برز شيء ما مرعب ومهدد في عالم السياسة، رميت نفسي بعيداً، وبالنسبة لشيلر، صديق غوته ومعاصره الذي يصغره بعشر سنوات، كان هذا الموقف غير مناسب وغير قابل للتبني. وهو علق عليه - بشيء من الاحترام، قائلاً: ان غوته بقوله ذاك، هو مثل "نسر يبني عشه تحت المرزيب". فبالنسبة لشيلر كانت هناك ضرورة تعليم القومية وإرشادها" أما بالنسبة لغوته فقد كان الأهم هو تعليم الفرد. فهو يعتقد بأن قوميته، أو وطنه الأم الأصلي لا يستدعي منه الكفاح في سبيل انتزاعه، لأنه كان هناك موجوداً سلفاً: "الأصل وُجد من القدم، وبإمكاني الإمساك به". والوطن الأم الأصلي بالنسبة له، كان الطبيعة، ببرنامجها المنظم والشامل، وبالنسبة لألمانيا التي تستيقظ للتو كدولة قومية في ذلك الوقت، بدت تلك الأمور مجرد أمور غير جدية، وبإسم الطبيعة خطط غوته لأفكار هادفة ولشعراء هادفين: "الطبيعة والفن هما كبيران، ويمكنهما أن يسيرا سوية الى نفس الأهداف"، تلك الدعوة لا تتلائم مع القومية الصاعدة ولا تخدم سياستها "الثورية" مطلقاً، كما لا تلائمها دعوة غوته الشهيرة للألمان: "ان تثقفوا أنفسكم كقومية، أيها الألمان، فذلك ضرب من العبث" لكن بإمكانكم أن تثقفوا أنفسكم كبشر أحرار". وانها لمفارقة عجيبة محاولة غوته منح الإنطباع بأنه ليس المانياً. فهو، الألماني والذي يسليه الهجوم على الألمان - "كم هم محترمون كأفراد، وكم هم بؤساء كمجموع" قال عنهم ذات مرة -، مشترك مع هؤلاء الذين يشنعهم بكل تلك الصفات التي عابها عليهم، بل تقاسمها بقوة تلفت النظر، ويكفي النظر الى خوفه من الفوضى، انعدام النظام الذي رافق حدوث الثورة الفرنسية علّق عليه بالكلمات التالية: "من الأفضل لي أن أنتهي قابلاً بانعدام العدالة على تحمل الفوضى - اللانظام". هذه الجملة "الإلمانية" بالصميم لا يمكن تجاهلها، مثلها مثل ضيق الأفق عنده المتعلق بما يطلق عليه نمط "نظام الحياة الأساسي": إذا أردت أن تخلق حياة جميلة لك، فليس عليك أن تهتم بالذي مضى. ولكن عندما بدأ الموت يقترب، ولم تعد هناك إمكانية لخلق حياة جميلة، بدأ غوته بالاهتمام بالذي مضى، بحيث أنه طلب - بعد نصف قرن - إرجاع رسائله من كل أولئك الذين أرسل لهم تلك الرسائل. كان يريد أن يخلق ويرتب حياة جميلة له بعد موته، لأنه قلق على صورته التي رتبها بعناية كل هذه السنين وكافح من أجل الإبقاء عليها. وهو لم يخف ذلك الخوف، فقد بثه في محاوراته مع أكيرمان، معتبراً إياه جزءاً من طبيعته. وخوفه من الموت الذي كان يبثه بسرية في عمله، خوفه المطلق، كم حاول التستر عليه وإنكاره، هو الذي سمى الجمال "ابن الخوف"! يجب ألا ينسى المرء، بأن الطفل المولود الجديد فولفغانغ كافح ثلاثة أيام لكي يبقى على قيد الحياة، وكيف أنه عندما كان له من العمر ست سنوات، خضع لسيطرة "رعب الطبيعة غير المحدود"، عندما تعرض للهزة الأرضية في لشبونة في العام 1755، وهو في زيارة لها مع عائلته. هنا، في رعب التدمير المبكر وفي الكفاح ضد الموت، وضع "شيطان الرعب" جذوره في حساسية غوته وتوازنه وفي برنامج نظامه الحياتي العام. وفقط في ايطاليا وجد نفسه للمرة الأولى. تلك الرحلة كانت مثل هروب" هروب من واجباته في مقاطعة فايمار ومن المرأة فون شتاين. ولكن ألم تكن كل حياته عبارة عن هروب من أمام التراجيدي والسلبي؟ وألم يكن لجوؤه لما كان يسميه علم الطبيعة هو هروب خالص، لأن ما كان يعتبره علم طبيعة، لم يكن في الحقيقة غير معتقد في الطبيعة. في موضوعه "شمبانيا في فرنسا"، يقول غوته: "المرء يستطيع فقط من خلال إبداع الطبيعة والمساهمة القلبية في العالم الخارجي إنقاذ نفسه وتحريرها من وضع نفسي معتم ومعذب ومؤلم" أن المعرفة العامة بالطبيعة، لا يهم في أي حقل، ولا يهم من أية جهة تجيء، هي نشاط فعال، سواء نشط المرء كبستاني أو كفلاح، كصياد أو كعامل في جبل، ففي النهاية يسحبنا ذلك النشاط من أنفسنا بعيداً". إذاً ذلك هو الأساس، استخدام الطبيعة كوسيلة، للهروب من النفس، وتحقيق الذات من خلال تقليصها. ربما تأتي عظمة غوته مما أطلق عليه الكاتب والفيلسوف الروماني الفرنسي جيوران "الوسطية العظيمة". عظيمة هي هذه الوسطية، لأن إنساناً أصلياً أو بلا مقاييس، إنساناً ممزقاً من الأشياء، كما كان غوته يجبر نفسه دائماً أن يكون، يسعى للوسطية بدل سعيه للتطرف، ووسطيته العظيمة هي إنسانيته. ولهذا كان غوته دائماً عدواً لكل الظلمات وجملته الشهيرة "مزيداً من النور"، جعلها الواجب الوحيد الذي حمله على عاتقه، ف"الأسلوب الكبير ينشأ، عندما يستخلص الجميل انتصاره على المرعب"، استخلص نيتشه ذلك نتيجة قراءته لغوته، وبالذات من تلك الجملة التي كتبها غوته في "المرئيات الروميّة": الحب يعلمك الأسلوب الرفيع فقط، لم يسمح كاتب آخر في تاريخ الأدب لنفسه أن يتعلم من الحب، أكثر من غوته، فحتى وهو شيخ طاعن السن في الثمانين، كتب: "من لا يحب، ليس له الحق أن يقيمني". على أيّة حال يبقى أن جملة غوته الأخيرة قبل أن يموت لم تكن "مزيداً من النور"، إنما كانت في الحقيقة جملة أخرى موجهة للبنت الشابة أوتيلي، التي كانت تقف عند رأسه وهو يحتضر: "أيتها الفتاة أعطني كفك!".