الى رافع الناصري في صباح عادي، كنت في المرسم وحيداً: قهوة عربية، بقعة مسار ضوء خجول يهبط من سماء العتمة. تشاغلت بالقراءة لكن الكلمات اغلقت ابوابها، عدت الى رسم "شمس الرغبات"، وضعت الاحمر على بياض اللوحة، عاركته بعيداً عن ظلمة الأسود. ظلّت الشمس بعيدة والظلمة مدت يد الليل. جاءني صوت المذياع يردد نشرة الاخبار... كردية بعمر الورد تحرق نفسها حزناً على أوجلان. شرطي أبيض يقرأ تاريخ العبيد. مراسل يذكر اسم العراق كجريح ينزف أنهكه الصراخ. لماذا يرحل الأطفال سريعاً مأخوذين بقماشات بيضاء وكتابات بالاسود تذكر اسم الله والأولياء، على رأسهم يضعون تاج حضارة خارجة من وكر الخنازير، ينتظرون نجمة تأخذهم الى رحاب الله. أتشوق الى لوحة من دون جداول ولا حروف ولا ارقام، لوحة تفتح النوافذ على حدائق الشمس. تحوّل الخط الكوفي الى قصيدة لروح تبعثر صبواتها على افق يطوي ظلمة القسوة، لوحة يشق سوادها سكينٌ بلون سماء العراق، تتبع الريح من بيت الى بيت، تسلّم على النخل المحروق، على الغام مزروعة حول المدن، على تاريخ تذروه الرياح. عيناي على نهرين يشقان جسد الخصوبة، على بسطاء يبحثون في ضفاف الفرات عن طيور غرقت في النسيان، على صمت تمزّقه مقامات البكاء، على عشاق يمنحون الموت قناعاً بابلياً ليأخذه النسيان، ويحلمون بعرس قروي وصحون فضة وعرق عراقي يفجر سنوات القهر، على اصدقاء يخجلون من أسى الحاجة. اليوم تذكرتك وأنت تحتفل بمسارات الأفق، تجعل من النتوءات المغسولة باللون القهوائي اشارات وأرقاماً وتلميحاً سرياً لعشق قديم. علّ في هذا النشيد، مقاماتك لغربة طالت سنواتها. زاوجت فيها الأزرق بلون الطين وجعلت في عتمة اللون شقاً يشير الى جرح العراق. على مهل ايها الصديق... لنأخذ من حقائب الزمن اسماء من غادرونا مملوئين بالحزن: جاسم الفتى الشقي القادم من ضفاف ديالى، يعلق على رقبته آلة تصوير قديمة وفي جيبه علبة سجائر ومحفظة من دون نقود وشتائم لكل العالم... كيف اذا استيقظ هذا الصباح؟ من اين يأتي بآلة تصوير يصوّر معرضك... كيف ينسى بندقيته القديمة من أريتريا، ماذا يفعل بمنشورات الثورة في المخيمات؟ كل صباح ينهض الموتى، يحرقون بأرض السواد، يلوّحون للقتلى، عرباً وأكراداً وتركمان وصابئة، ثم يأخذون جاسم الى مدارج الملائكة وينامون. لن تكون وحيداً هذه الليلة. انت في بيت اهلك، معك شمس المنامة، نخلها يغسله ندى البصرة، الاصدقاء الموزعون في منافي الارض، فتيان علّمتهم اسرار اللون يعاندون شقاءهم اليومي ولا يلقون بجوهرة العشق العراقي بين اظلاف الخنازير. سلاماً الى البحرين اهلك، الى الأصدقاء تتوهج عيونهم بفرح اللون، الى قائم يشعل نيران الشعر، يبعثر رمل صحرائه القاسية ويحلم على ضفاف الخليج بحدائق ليل معتق بالأسرار