مع أن هناك من يقيم تصوره على مصير التيارات والمذاهب الفكرية على تقدير اتجاه سيرها وأبعادها، إلا أن تغيير الأحداث يغير من تلك التقديرات في اتجاه غير متوقع لتلك التيارات والمذاهب. وثمة طرق مختلفة لاعتناق تلك المذاهب والتيارات من معتنقيها، إما لأنها إلهية التنزيل، أو فكرية الاستقاء، أو فلسفية الدراسة، وربما استوقفت انتباه الكثيرين المتخصصين وغيرهم فصبغ بعضها بطابع عقدي وأخرى بطابع عقلاني.. «والناس فيما يعشقون مذاهب» الحديث عن "الصابئة" متشعب، حيث إنهم فرق شتى، واختلف والعلماء والمؤرخون في وصفهم، وذهب ابن القيم في كتابه "إغاثة اللهفان" إلى أن الصابئة عدة فرق؛ صابئة حنفاء، وصابئة مشركون، وصابئة فلاسفة، وصابئة يأخذون بمحاسن ما عليه أهل الملل والنحل من غير تقيد بملة أو نحلة، ومنهم من يقر بالنبوءات جملة ويتوقف في التفصيل، ومنهم من يقر بها جملة وتفصيلا، ومنهم من ينكرها جملة وتفصيلا. وقيل إن كلمة "الصابئة" مشتقة من "صبا"، وتعني باللغة المندائية "اصطبغ"، أي غطس في الماء، ولذلك استوطنوا قرب الأنهار، ويوحي ذلك المعنى عند "الصابئة" إلى أنهم المصطبغون بنور الحق والتوحيد والإيمان، ولعل تسمية "المندائيين" مشتقة من الفعل الآرامي مندا، وتعني "العالم العارف"، فيكون معنى الصابئة المندائيين أي "العارفين". لا طموح سياسياً لا يوجد لدى "الصابئة المندائيين" أي طموح سياسي، وهم يتقربون إلى أصحاب الديانات الأخرى بنقاط التشابه الموجودة بينهم وبين الآخرين، ويشتهرون بصناعة الفضة، وبراعتهم في تلك الصناعة دفعتهم إلى الرحيل للعمل في بيروت ودمشق والإسكندرية، ووصل بعضهم إلى إيطاليا وفرنسا وأمريكا، كما يجيدون صناعة القوارب الخشبية والحدادة وصناعة الخناجر. أما أشهر فرق الصابئة قديما أربعة؛ فهي: أصحاب الروحانيات، أصحاب الهياكل، أصحاب الأشخاص، والحلولية، اشتهر منهم الصابئة الحرانيون (انقرضوا) الذين تختلف معتقداتهم بعض الشيء عن الصابئة المندائية. وتعد الصابئة المندائية هي طائفة الصابئة الوحيدة الباقية إلى اليوم، ويمثلون أكبر وأهم الفرق الموجودة حاليا من الصابئة، ثم يأتي بعدهم صابئة "حران" في شمالي العراق وسوريا، ويزيد عددهم في العراق في بداية الثمانينيات على 100 ألف، وينتشرون في ست مدى كبرى في العراق، هي: بغداد وأربيل (في الشمال)، الديوانية والكوت (في الوسط)، العمارة والبصر (في الجنوب). ومن ذلك، يمكن القول إنه لم يتبق من فرقهم إلا فرقتان فقط كما تشير بعض المصادر، وبعضهم اعتنق الإسلام، وهاتان الفرقتان هما: المندائيون: وهؤلاء قيل عنهم إنهم ممن تخلف من بعد الأسر البابلي على يد "نبوخذ نصر" (أشهر ملوك الدولة البابلية)، ولكنهم آثروا البقاء على أرض العراق بعد أن حررهم الحاكم الفارسي "قورش"، واختلطوا بالمجوس فأخذوا عنهم بعض الأفكار والمعتقدات ومزجوها باليهودية والنصرانية، ولهذا صارت عقيدتهم خليطا بين هذه الديانات والمعتقدات. الحرانية: وهم من سكان منطقة حران، وتذهب بعض كتب الملل والنحل إلى أن هؤلاء ليسوا صابئة أصلا بل كانوا على ملل أخرى من غير أهل الكتاب، وإنما انتحلوا هذه الديانة في فترة من العهد العباسي حماية لأنفسهم حيث يدفعون الجزية وترعى لهم الذمة، ويشير آخرون إلى أنهم صابئة ولا يختلفون عن الفرقة الأخرى وبذلك يكونون فرقة واحدة. الإسلام والصابئة أوضح بعض الذين كانوا صابئة وأعلنوا إسلامهم وخاصة من طلبة علم الشريعة الإسلامية، ومن يدين منهم بدين أهل الكتاب لا تتعدى الواحد في المائة. وثمة علماء أوضحوا أن الصابئة الذين أدركهم الإسلام وكانوا بأرض "حران" ليسوا من أهل الكتاب، ولكنهم مشركون يعبدون الكواكب، فلا يحل أكل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم وإن أظهروا الإيمان بالنبيين، فهم من جنس إيمان الفلاسفة بالنبيين، وقال علماء آخرون "بما أن الصابئة الحاليون هم امتداد للصابئة في بداية العهد الإسلامي فلا يجوز أكل ما يذبحونه إلا من يثبت أن الذابح يدين بدين أهل الكتاب وهم قليلون جدا فيكون له حكم أهل الكتاب في حل ذبيحته إذا ذكر الله تعالى وأنهر الدم، أما ما يصنعونه من الخبز أو الحلويات أو غير المذبوح من الأطعمة فهو حلال لآكله". واعتبر الصابئة المندائية قبل الاسلام على أنهم من أهل الكتاب، وجاء التعبير ب"الصابئين" في ثلاث آيات من القرآن الكريم كانت تقصد تلك الجماعة العراقية التي آمنت بالتوحيد واتخذت "التعميد" شعارا ورمزا لها. وعدم التمكن من معرفة حقيقة الصابئة وهم قد أشار لهم القرآن الكريم كأصحاب ديانة ربما يرجع إلى إخفاء تعاليمهم والامتناع عن الدعوة إليها، واعتقادهم بوراثة الدين واختصاصه بهم، وأن نبيهم قد بعث إليهم فقط. وورد ذكر الصابئة وبصورة مستقلة في القران الكريم في قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، وقوله عز وجل: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابؤون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، وقوله سبحانه: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد). تاريخ قديم تعود جذور "الصابئة" إلى ما قبل المسيحية، وثمة باحثون يؤكدون أنهم مذهب منشق عن "اليهودية" وصلوا إلى بلاد الرافدين في القرن الثاني قبل الميلاد، وتقول بعض المصادر إنهم بدأوا بأول هجرة إلى العراق قبل 5 آلاف عام تقريبا، وانتشروا على "الهلال الخصيب"؛ العراق وسوريا ولبنان ومصر. ويرجع بعض المؤرخين إلى أن "الصابئة المندائيين" شعب آرامي عراقي قديم، ولغته هي اللغة الآرامية الشرقية المتأثرة كثيرا بالأكادية، استوطنوا وسط العراق وبالأخص المنطقة الممتدة من بغداد وسامراء من ناحية دجلة. وكانوا منتشرين في بلاد الرافدين وفلسطين، وكانوا يقيمون في القدس وطردوا منها بعد الميلاد، فهاجروا إلى مدينة "حران"، فتأثروا بمن حولهم، ثم هاجروا إلى موطنهم الحالي في جنوبي العراق وإيران وما يزالون فيه، ويعرفون بصائبة "البطائح". وهناك تواجد للصابئة في إقليم "الأحواز" في إيران إلى الآن، ينتشرون على الضفاف السفلى من نهري دجلة والفرات، ويكثرون في مدن العمارة والناصرية والبصرة. ديانة الصابئة الصابئة نوعان؛ صابئة حنفاء، وصابئة مشركون، أما الصابئة الحنفاء فهم بمنزلة من كان متبعا لشريعة التوراة والإنجيل قبل النسخ والتحريف والتبديل من اليهود والنصارى، أما الصابئة المشركون فهم قوم يعبدون الملائكة ويقرأون الزبور ويصلون، فهم يعبدون الروحانيات العلوية. وقيل إنهم من مشركي العرب قبل البعثة ساورهم الشك في ما كان عليه قومهم من عبادة الأصنام، فبحثوا لأنفسهم عن عقيدة يرتضونها فاهتدوا إلى التوحيد، وقالوا إنهم يتعبدون الحنيفية الأولى (ملة إبراهيم)، واعتزلوا عبادة قومهم، فقال عنهم المشركون إنهم صبأوا، أي مالوا عن دين آبائهم ومن ثم سموا صابئة. وديانة "الصابئة" هي أحد الأديان الإبراهيمية لأنها أول الأديان الموحدة، وأتباعها من الصابئة يتبعون أنبياء الله: آدم، شيث، إدريس، نوح، سام بن ونوح، ويحيى، ويعتقد الصابئة أن دينهم أقدم الأديان على وجه الأرض، وأنه أنزل بأمر ملك النور على آدم وحواء، وهو باق منذ تلك الأزمنة إلى العصر الحاضر. ويشكل الصابئة المندائيون أقلية دينية ما زالت تمارس طقوسها وديانتها إلى الآن، ويدعون بأن دينهم يرجع إلى عهد آدم عليه السلام، ويزعمون أن يحيى عليه السلام هو نبيهم الذي أرسل إليهم، وينتسبون إلى سام بن نوح عليه السلام، فهم ساميون، ويقدس أصحابها الكواكب والنجوم ويعظمونها، ويعتبر الاتجاه نحو نجم القطب الشمالي والتعميد في المياه الجارية من أهم معالم هذه الديانة. ويعتقدون من حيث المبدأ بوجود الإله الخالق الواحد الأزلي الذي لا تناله الحواس ولا يفضي إليه مخلوق، ولكنهم يجعلون بعد هذا الإله 360 شخصا خلقوا ليفعلوا أفعال الإله من رعد وبرق ومطر وشمس وليل ونهار، وهؤلاء يعرفون الغيب ولكل منهم مملكته في عالم الأنوار. والثابت أن الصابئين قوم ليس لهم شريعة مأخوذة عن نبي، وهم قوم من المجوس واليهود والنصارى ليس لهم دين، ولكنهم عرفوا الله وحده، ولم يحدثوا كفرا، وهم متمسكون "بالإسلام المشترك"، وهو عبادة الله وحده وإيجاب الصدق والعدل وتحريم الفواحش والظلم، أي مما اتفقت الرسل على إيجابه وتحريمه وهم يقولون "لا إله إلا الله" فقط وليس لهم كتاب ولا نبي، والصحيح أنهم كانوا موجودين قبل إبراهيم عليه الصلاة والسلام في أرض اليمن. التعميد شعيرة يعد "التعميد" من أبرز معالم وأهم الشعائر الدينية لدى الصابئة، ويرون أنه تطهير للروح جسما ونفسا، ويكون عبر تغطيس الجسم في الماء الجاري في يوم معين، وهو يعادل تعميد 60 يوما من الأيام الاعتيادية التي تقام يوم الأحد أسبوعيا وفق مبادئ طائفة الصابئة، ولا يكون إلا في الماء الحي، ولا تتم الطقوس إلا بالارتماء في الماء سواء أكان الوقت صيفا أو شتاء، وقد أجاز لهم رجال دينهم (مؤخرا) الاغتسال في دورات المياه، كما وأجازوا لهم ماء العيون النابعة لتحقيق الطهارة. ويتم التعميد على أيدي رجال الدين في عدة حالات، هي: عماد الولادة، عماد الزواج، عماد الجماعة، وعماد الأعياد: عماد المولود: يتم بعد 45 يوما من ولادته، ولكي يصبح طاهرا من دنس الولادة يتم إدخاله في الماء الجاري إلى ركبتيه مع الاتجاه نحو نجم القطب، ويوضع في يده خاتم أخضر من "الآس". عماد الزواج: يكون يوم الأحد بثلاث دفعات في الماء مع قراءة من كتاب "الفلستا" وبلباس خاص، ثم يشرب العروسان من إناء ملئ بماء النهر يسمى "ممبوهة"، بعدها يطعمان "البهثة"، ويدهن جبينهما بدهن السمسم كل على حدة، ولا يلمسان بعضهما لمدة سبعة أيام لأنهما نجسين، وبعد تلك الأيام السبعة يعمدان من جديد وتعمد معهما كافة القدور والأواني التي أكلا منها أو شربا. عماد الجماعة: يتم في كل "عيد بنجة" من كل سنة كبيسة لمدة خمسة أيام، ويشمل أبناء الطائفة رجالا ونساء، كبارا وصغارا، فيرتمون في الماء الجاري ثلاث دفعات قبل تناول الطعام في كل يوم من الأيام الخمسة، للتكفير عن الخطايا والذنوب في السنة الفائتة. عماد المحتضر: يكون بأخذ الشخص قبل الوفاة إلى الماء الجاري ليتم تعميده، ومن مات دون عماد فهو نجس ويحرم لمسه، ويغسلون المحتضر متجها إلى نجم القطب الشمالي ثم يعيدونه إلى بيته ويجلسونه في فراشه بحيث يواجه القطب أيضا حتى وفاته، وبعد ثلاث ساعات من موته يغسل ويكفن ويدفن مكان بلدة موته ولا يجوز نقله إلى بلد آخر، ومن مات غيلة أو فجأة فإنه لا يغسل ولا يلمس ويقوم "الكنزبرا" بالعماد عنه، ويحرم على أهل الميت الندب والبكاء والعويل لأن الموت عندهم مدعاة للسرور. عماد الأعياد: تتكون من عدة أيام، هي: "العيد الكبير" ويسمى عيد "ملك الأنوار" أو عيد "اليوم الجديد" ومدته أربعة أيام، لا يشرب خلاله الكهان والمتقون الشاي بالسكر، ولا يشربون الماء المعقم إنما يشربون من ماء النهر مباشرة، ويكون الكهان مستعدين لتعميد الراغبين من أبناء الطائفة، وهناك "العيد الصغير" ومدته يوم واحد، وهو الذي جمد فيه جبرائيل الأرض بعد أن كانت غارا، ويكثرون فيه من أعمال البر والإحسان، والعيد الثالث: "عيد البنجة" وهو احتفال ديني أكثر منه فرحا، حيث يقام فيه أكبر عيد عمادي نهري لمدة خمسة أيام، أما "عيد النبي يحيى" فيقولون إنه اليوم الذي عمد فيه آدم وهو يوم ولادة النبي يحيى. محرمات الصابئة يعتبر صابئة العصر الحديث أن "الصيام" تحريم ما أحل الله، ومع ذلك يمتنعون عن أكل اللحوم المباحة 36 يوما متفرقة طول العام، كما يعتقدون بصحة التاريخ الهجري ويستعملونه بسبب اختلاطهم بالمسلمين، ويعتقدون أيضا أن النبي يحيى لم يكن رسولا بل نبيا خاصا بهم. أما المحرمات في الديانة المندائية فهي: التجديف باسم الخالق (الكفر)، عدم أداء الفروض الدينية، القتل، الزنا، السرقة، الكذب، شهادة الزور، خيانة الأمانة والعهد، الحسد، النميمة، الغيبة، التحدث والإخبار بالصدقات المعطاة، القسم الباطل، عبادة الشهوات، الشعوذة والسحر، الختان، شرب الخمر، الربا، البكاء على الميت ولبس السواد، تلويث الطبيعة والأنهار، أكل الميت والدم والحامل والجارح والكاسر من الحيوانات والذي هاجمه حيوان مفترس، الطلاق (إلا في ظروف خاصة جدا)، الانتحار وإنهاء الحياة والإجهاض، تعذيب النفس وإيذاء الجسد، الرهبنة، وزواج غير الصابئة. كتب الصابئة لا يوجد كتاب مطبوع عند "الصابئة"، بل كتبهم يتم استنساخها بينهم، ومكتوبة بلغتهم المندائية، كما أن لديهم عددا من الكتب المقدسة مكتوبة بلغة سامية قريبة من السريانية وهي: الكنزبرا: أي الكتاب العظيم ويعتقدون بأنه صحف آدم عليه السلام، فيه موضوعات كثيرة عن نظام تكوين العالم وحساب الخليقة وأدعية وقصص، وتوجد في خزانة المتحف العراقي نسخة كاملة منه، طبع في كوبنهاجن عام 1815م، وفي لايبزيغ عام 1867م. دراشة إديهيا: أي تعاليم يحيى، وفيه تعاليم وحياة النبي يحيى عليه السلام. الفلستا: أي كتاب عقد الزواج، ويتعلق بالاحتفالات والنكاح الشرعي والخطبة. سدرة إدنشاماثا: يدور حول التعميد والدفن والحداد، وانتقال الروح من الجسد إلى الأرض ومن ثم إلى عالم الأنوار، وفي خزانة المتحف العراقي نسخة حديثة منه مكتوبة باللغة المندائية. الديونان: فيه قصص وسير بعض الروحانيين مع صور لهم. إسفر ملواشه: أي سفر البروج لمعرفة حوادث السنة المقبلة عن طريق علم الفلك والتنجيم. النباتي: أي الأناشيد والأذكار الدينية، وتوجد نسخة منه في المتحف العراقي. قماها ذهيقل زيوا: ويتألف من 200 سطر وهو عبارة عن حجاب يعتقدون بأن من يحمله لا يؤثر فيه سلاح أو نار. تفسير بغره: يختص في علم تشريح جسم الإنسان وتركيبه والأطعمة المناسبة لكل طقس مما يجوز لأبناء الطائفة تناوله. ترسسر ألف شياله: أي كتاب الأثنى عشر ألف سؤال. ديوان طقوس التطهير: وهو كتاب يبين طرق التعميد بأنواعه على شكل ديوان. كداواكدفيانا: أي كتاب العوذ.