قريتي الهادئة والحالمة التي تحتضنها الجبال والتي كانت نابضة بالحياة اليومية لم تعد كما كانت في الماضي بل أصبحت جزء من المدينة ، بكل مقوماتها ومكوناتها ومغرياتها والتي افتقدت فيها كل شي جميل ، فكلما تذكرت طفولتي وأيام صباي وشبابي اجتاحني احساس غريب وأنا أتحسر على ذلك الزمن الجميل الذي رحل وانطوى بالرغم من قساوته ومرارته ومعاناتنا فيه. فلي في كل مكان فيها ذكرى حزينة وتحت كل شجرة كنت استظل تحتها ذكرى جميلة ، هنا لعبت مع أصدقائي ، وهناك رعيت الغنم مع أقربائي وجيراني ، وهنا مررت مع أصدقاء الطفولة ، وهنا جلست تحت شجرة الرقاعة الكبيرة التي كانت تظل أهل قريتي بظلها وكانت تسمع حكاوينا ونحن صغارا وتسمع أمانينا ونحن كبارا وهاهي قد شاخت وشاخت معها أحلامنا وذبلت وتساقطت أوراقها ولم تعد شامخة كما كانت ، ففي قريتي عشت أجمل وأحلى أيام الطفولة في ذلك الزمن .. إنني ارتشف الحنين للماضي في قريتي مثل ما ارتشف فنجان قهوتي الآن ونظراتي تحدق في البعيد ، والذكريات تجتاحني وتحاصرني. إنني مازلت أتذكر ملامح جدتي وأتفرسها جيدا كما لو كٌنت صغيرا واشم رائحتها وأتذكرها عندما كنت خلفها فوق الشدادة وهي تقودها في جنبات الوادي بين سنابل الشعير والحنطة في أحضان الخضرة الوافرة والأشجار الوارفة. وفي الجلة وهي تغسل ملابسها بجوار نبع الماء العذب الرقراق النقي كالمرآة الذي كنا نشرب منه وكان يعكس ألوان قوس قزح. ومازلت أشم رائحة قهوة جدتي التي تفوح منها رائحة الحوايج والزعفران ، مازالت أتذكر ملامح وجوه أهل قريتي وأتفرس ملامحهم في ذلك الزمن الجميل زمن النشامى والشهامة ، زمن النقاء والمحبة والمرؤة والمحبة. مازلت أتذكر بقرة جدتي وغنماتها التي كانت ترعى في أسفل ركيب جدي (العثري) الذي كنا نحمي الطير فيه (وشدادة) جدي التي كانت تسرح بجوار الركايب المزروعة ، والممتدة تحت أقدامنا وكأنها قطعة قماش متداخلة الألوان والتي كانت طوق اخضر حول قريتنا من مياه الوشل التي كانت تسقيها ، حيث أشجار اللوز ذات الأزهار الوردية التي تبرق تحت أشعة الشمس ، مازلت أتذكر طيور الوادي وسرب العصافير التي هاجرت مع الفرح بعيدا عنا إلى عالم النسيان ، حيث كان أهل القرية منغمسين في أعمال الزراعة والأعمال الحرة الأخرى والحياة اليومية المضنية التي أنهكت الأجساد النحيلة حيث التعب في عيونهم والشحوب في وجوههم لقد جعلت تلك الحياة طباعهم ودوده ومرحه ،انه سحر المكان وسحر الحميمية للمكان والعشق في نفوسنا الذي يوحي بالجمال. عندما كان المطر ينهمر غزيرا ويستمر على مدى ساعات الليل والنهار ولمعان البرق يظهر في السماء السوداء الذي أضاءت شراراته المكان وصوت الرعد يعصف من بعيد بالأجساد والمكان. مازلت أتذكر بنت الجيران (والصرام) (والدياس) في (الجرين) يوم كنا (نذري) مع الجيران وكنا نردد من خلفهم بكل براءة الطفولة (جريننا ومافيه وما ضمت حواشيه) تلك الأهازيج الحماسية التي تحث وتشجع على العمل عندما يجتمع رجال ونساء القرية يشاركون في عملية (الدياس) مع بعضهم البعض يجمعهم التعاضد والتكاتف وهم يتقاسمون المحبة ويتشاركون الزاد ، ويعكس ذلك الترابط الروحي والوجداني لروابطهم الاجتماعية القوية التي شكلت مجتمعا فاضلا ، انه الانسجام الذي خلق حياة جميلة لملامح ذلك المجتمع. آه على تلك الحياة اليومية القاسية وحيويتها النابضة بالشهامة والمرؤة والفرح لذلك الزمن من الماضي الجميل. مازلت أتذكر هدوء قريتي التي يسودها بعد انكسار النهار وسقوط أشعة الشمس عندما تختفي مع ضيق شفق المغيب الأحمر وراء الجبال ويخيم عليها الظلام الدامس حتى ساعات الصباح الأولى ، وضوء القمر قد أكتمل وبدأ يبتسم للسماء في اجمل صوره والنجوم تزينه ، حيث كنا نتسامر معه في وجيف الليل وتارة تحجب الغيوم ضوئه ونوره عنا ويمر شهاب مسرع يخطف الابصار ونتعوذ من الشيطان ، ونعود نضحك حتى تدمع عيوننا ، حيث الهدوء والسكينة . انها جلسات هادئة ومسلية ، كل شيء يأخذ طعما مختلفا في ذلك المكان إنها الحياة القديمة التي كانت أهدا وأنمى. مازلت أتذكر مشا عيل رمضان والعيد التي كانت تزين رؤوس الجبال في قريتي وكأنها العاب نارية تضي سماءها بالفرح والبهجة والسرور إيذانا بدخول شهر رمضان وعيد الفطر وكانت السعادة تغمرنا ، وكنا نرقص خلف الكبار بلون العرضة والمسحباني عندما ترتفع السيوف والجنابى في أيادي النشامى. مازلت أتذكر عندما كنت لا أنام حتى أضع راسي على حضن جدتي وهي تداعب شعري وتسمعني رواياتها وحكاياتها التي لا تمل التكرار والتي كانت تبتدي بالثبات والنبات وتنتهي بزواج الصبيان والبنات وقصص بنت السلطان والست المزيونة ، والسعلية والنمنم وأنا أحب أسمعها حتى يغلبني النعاس فأنام .. مازلت أتذكر صوت الآذان من أعلى منارة مسجد قريتنا البديع بصوت مؤذن القرية ذلك العجوز السبعيني الذي الفت أذانينا إياه سنين طويلة والذي كان يصل إلى أنحاء القرية جميعها من غير مكبر الصوت ، وكنا نتسابق لكي لاتفوتنا صلاة العصر في المسجد. آما الآن وأنا أتجول في قريتي وكأنها لم تعد قريتي التي اعرفها وتربيت على أرضها وعشت في أحضان جبالها التي تلفها من كل جانب وأوديتها التي كانت بساط اخضر من الزراعة ، وقد أصبحت جزء من المدينة وأضحت البلاد والركايب بيوت من الاسمنت مزروعة بدلا من الشعير والحنطة التي تلاشت في وجه الزحف العمراني الذي طرا على المكان ولم يتبقى من تلك البيوت القديمة الوديعة إلا البعض المهجور منها ، ولكنها لازالت شامخة تجذب العيون ، وتخطف القلوب ، وتجعلك تطارد الماضي في كل جزء من القرية .. ولكن قد امتدت إليها يد الحضارة التي أفسدت كل شيء جميل فيها وتحسرت على قريتي التي احتضنتني صغيرا وحملتني كبيرا لقد أحسست بالكآبة وملأت الدموع عيني وشعرت بالحزن يغمرني عندما تذكرت كل لحظة جميلة مرت في ذلك الزمن .. وتذكرت صوت ذلك العجوز التهامي بعمره السبعيني الذي كان يسكن بجوار بيت جدي والذي كان يبيع الخوص والخصف في سوق القرية الذي يتم بيع المنتوجات الزراعية التقليدية فيه وخليط من البضائع التي كانت منسجمة مع روح المكان الذي كان تنبعث منه رائحة الماضي والحياة ، والذي ترك فينا تأثيرا كبيرا بملامح الباعة والزائرين القادمين من كل القرى المجاورة والبعيدة ، لكي يبتاعوا منتجاتهم ومحاصيلهم الزراعية والذين كانت لهم رائحة ونكهة خاصة حيث كان ذلك السوق شاهدا على تلك الذكريات الجميلة واللحظات الخاصة في خطوط العمر والزمن ، وعندما شاهد ذلك العجوز الخواجات في سوق قريتي الذي لا تجده يهدأ من حركة المشترين والمارة وعابري السبيل ، والباعة الذين يفترشون الارض ببضائعهم البسيطة والمتنوعة ، عندما شاهدهم وهم يتجولون فيه وبين البيوت القديمة ويحملون في رقابهم تلك الآلات الغريبة ويصوبون عدسات كاميراتهم على بسطات الباعة ونقوش البيوت القديمة ويلاحظون ذلك الفن المعماري الهندسي وهم يسرقون منا أجمل لحظات العمر شده ذلك المنظر ، صاح واخذ يردد بابتسامة ساخرة وباهته (اختلط حب المساقي وحب العثري) تنبؤا منه في ذلك الزمن الماضي بتغير الزمان والحال والأمور وما يحدث الآن من متغيرات في حياتنا وعاداتنا وثقافتنا التقليدية ودخول الحضارة وسطوتها التي أفسدت كل شيء جميل فينا وأصبحنا في حالة من الضياع الفكري. لحظة ذكرى : حنينك مازال جياشا بين الضلوع وأيامك هي سنوات الحلم. وقطرك يتعدى خيط الأفق ، ليتجاوز مساحات الندى . وذكرياتك ربيع اخضر تكتنفه دروع البنفسج وتقوم فيه ثغور الأقحوان وعذوق الكادي والبعيثران. لازلت أتذكر أجمل الرقصات التي قدمتها لك بين الركيب والجناب وأنت تسرقين النظر من منور (العلية) في بيتكم القديم وتبتسمين حين ترين أن خطاي قد أنهكت وان العرق بدأ يتصبب من جبيني وكنوع من الدعابة كنت تطالبينني بالمزيد. وكنت أنا أكابر تعبي واستمر. لازلت أتذكرك وأنت تحملين القربة وتسيرين من طرف الجرين وعند العراق تجلسين في المنسم ، تنتسمين ، ولحظتها كنت انتظرك بالقرب من المسراب طمعا في ابتسامة ساحرة وعابرة بعيدا عن كل العيون والنظرات تلاحق المكان الذي تجاوزناه. ألا تذكرين؟! إنني لازلت أتذكر وأتذكر ويظل الحنين مع الذكرى نارا تشتعل بين الضلوع ...، ---------- كاتب صحفي