استفادة ليبيا من حل أزمة "لوكربي" بمثول المواطنين الليبيين المشتبه بتورطهما في تفجير طائرة "بان اميركان" امام المحكمة استفادة هائلة على أكثر من صعيد سياسي وديبلوماسي واقتصادي وفي اطار العلاقات الثنائية والاقليمية ومع مجلس الأمن والأمين العام للأمم المتحدة. أول مردود ملموس لموافقة ليبيا يتمثل ليس فقط بتعليق العقوبات، ما يعني عملياً ازالتها، وانما ايضاً في دحض "مؤسساتية" عزل الحكومة الليبية التي تبنتها الحكومتان البريطانية والاميركية. هذا اضافة الى شهادة عالمية بالغبن الذي الحقته السياسة الاميركية - البريطانية بفرضهما على مجلس الأمن قرارات عاقبت ليبيا قبل محاكمة المواطنين المشتبه بهما، ثم الاستدراك والتراجع عن مواقفهما بعدما بيّنت ليبيا صحة وعدالة مواقفها في محكمة العدل الدولية ولدى منظمة الوحدة الافريقية، وعبر اتقان سياسة تدريجية شارك فيها القانونيون والسياسيون وضعت واشنطنولندن في خانة الاضطرار للكف عن التسلط على الشرعية. ملف "لوكربي" تحرك بزخم وديناميكية في الأيام الاخيرة وقد يُحسم نهائياً قبل صدور هذه الكلمات. فاذا انهار التفاؤل بنقل المؤشرات الايجابية الى اجراءات عملية وحدث تقاعس في المواقف الليبية، فإن الخسارة على ليبيا ستكون فادحة وتتمثل في مضاعفة العقوبات وتشديد الحصار وتقنين سمعة اللاجدية ونسف كل صدقية لدى الذين راهنوا على القيادة الليبية بحسن نية وبثقة. تفيد المؤشرات بأن القيادة الليبية سارت المسافة الكاملة نحو اغلاق ملف لوكربي ولم يبقَ امامها سوى الخطوات الاخيرة. وكما بدا مستحيلاً تصور تسليم ليبيا المشتبه بهما للمحاكمة، يبدو مستحيلاً تصور انها لن تسلمهما بعدما قطعت ذلك الشوط في تيسير مثولهما امام المحكمة في هولندا بموجب القضاء الاسكتلندي، وفي وضع الترتيبات والاجراءات الدقيقة لمكان وظروف قضاء العقوبة في حال ادانتهما. هناك من اعتقد ان عثرة ما ستبرز في الخطوة الاخيرة بما يحول دون بمغادرة عبدالباسط المقراحي والأمين خليفة فحيمة الى لاهاي للمحاكمة. واستند هذا البعض الى افتراض عزم القيادة الليبية على احباط اجراء المحاكمة لأنها كانت تخشى ان تكون فخاً لمحاكمتها. ورأى هؤلاء ان طرابلس راهنت على عذر ما توفره المواقف الاميركية، بعدما تقدمت بمقترحات لاجراء المحاكمة في بلد ثالث، وهي على اقتناع بأن واشنطنولندن لن توافق عليها. وهناك من اعتقد ان بريطانياوالولاياتالمتحدة راهنتا على تملص طرابلس، وتأهبتا لفضح "بلف" توقعتاه كي تتمكنا من نسف قاعدة الدعم العالمي لموقف ليبيا الذي ضم 140 دولة. فهاتان الدولتان لم تتراجعا عن مواقف التعنت والاصرار على اجراء المحاكمة في بريطانيا او الولاياتالمتحدة إلا بعدما فوجئتا باجراءات ومواعيد محددة لخرق الحظر الجوي المفروض على ليبيا من جانب قادة الدول، ما هدد بسابقة قرارات اقليمية رسمية تقوّض عقوبات فرضها مجلس الأمن. بين رأي ورأي آخر توجد اسس تتفق عليها الاكثرية المطلعة على الملف الليبي في مجلس الأمن. بينها، ان السلطة الدولية العليا اعتدت على الشعب الليبي بعقوبات يتحدى شرعيتها قانونيون دوليون، وبينهم اميركيون، لأن ليبيا غُرِّمت بعقوبات قبل اثبات ادانة المتهمين او محاكمتهما، ولأن واشنطنولندن اصرّتا لسنوات عديدة على اجراء المحاكمة اما في الولاياتالمتحدة او اسكتلندا الامر الذي لم يرتكز الى قانون دولي. ويصل البعض الى وصف الاستئساد الاميركي - البريطاني على ليبيا بأنه صفحة سوداء في سجل الدولتين الكبريين كما في سجل مجلس الأمن، خصوصاً ان الدولتين استهترتا بمواقف اصدرتها محكمة العدل الدولية، فنالتا من الشرعية الدولية اكثر من مرة وفي اكثر من مجال. مواقف الحكومة الليبية المستندة الى القانون الدولي شفعت بها وأتت لها بالتضامن معها والانحياز لمواقفها. وقد تمكنت الديبلوماسية الليبية من ادهاش كثيرين بنقلها لغة التضامن الى لغة حشد دعم ملموس تمثل في اجراءات دولية. كما انجزت طرابلس قفزة نوعية، أولاً: في اسلوب تعاملها مع الأممالمتحدة عندما وكّلت الى قانونيين مهمات التفاوض على التفاصيل، وثانياً: في تجنبها المغالاة الاعلامية في وصف ما حققته بأنه انتصار، وثالثاً في احترامها لألم اسر الپ270 ضحية تفجير طائرة "بان اميركان". لهذا، فإن ضمن فوائد مثول المشتبه بهما امام المحكمة نسف سمعة البهلوانية والاعتباطية التي التصقت بالحكومة الليبية واستبدالها، بجدارة، بسمعة المهنية والاتزان والجدية والصدقية والبراغماتية. يضاف الى ذلك ان بت ملف لوكربي يأتي لليبيا بانجاز تاريخي ليست له سابقة على صعيد العلاقة بين مجلس الأمن والمنظمات الاقليمية من جهة، وعلى صعيد تحجيم دولتين مثل الولاياتالمتحدةوبريطانيا امام الزخم السياسي وراء الشرعية الدولية من جهة اخرى. فمنظمة الوحدة الافريقية، مثلاً، ستستفيد كثيراً نتيجة الاستثمار الافريقي الجريء في قمة واغادوغو عندما اعلن القادة العزم على وقف الامتثال لنظام العقوبات المفروضة على ليبيا اذا استمر مجلس الأمن في خضوعه للمواقف الاميركية والبريطانية. كذلك حركة عدم الانحياز في ابراز استعدادها لتبني الموقف الافريقي. وكذلك الجامعة العربية التي تبنت تقديم البدائل سوياً مع منظمة الوحدة الافريقية، يضاف الى كل هذا موقف الأمين العام للأمم المتحدة الذي راهن على الجدية الليبية وغامر بزيارة الى ليبيا ولقاء العقيد معمر القذافي بلا نتائج مضمونة مسبقاً. فتقوية التنظيمات الاقليمية والامانة العامة للأمم المتحدة هدف ضمن اهداف السياسة الليبية، وليس سيئاً أبداً ان تأتي هذه التقوية كإفراز لمعالجة ازمة لوكربي. ثم ان الدور الذي لعبته المملكة العربية السعودية وجمهورية جنوب افريقيا في شخصي مبعوث الرئيس نلسون مانديلا، جاكس غيرويل، والسفير السعودي لدى واشنطن الأمير بندر بن سلطان، جاء ليؤكد الثقة بقرارات ليبية ناضجة. وافراز مثل هذا الاستثمار في الثقة بالقيادة الليبية لا بأس به ابداً على الصعيد الاقليمي، الافريقي والعربي. انما الأهم ان القيادة الليبية، في استكمال ملف لوكربي باعتمادها على القانون الدولي وتوظيف الفرص السياسية المدروسة، ستأتي للشعب الليبي بالخلاص من عقوبات أثرت في كرامته واقتصاده على السواء. فعزل الشعب الليبي عن محيطه وعن بقية العالم اساءة توازي معاناته الاقتصادية نتيجة العقوبات. ذلك ان العزل في زمن الاختلاط والتداخل والانطلاق الى قرن جديد يترك اثراً جذرياً في مستقبل الاجيال. وخلاص ليبيا من العزل في هذا المنعطف بالذات فائق الأهمية فعلاً. ولا احد يمكنه القول ان السلطات الليبية "باعت" مواطنين لها، إذ أن التفاصيل الاجرائية والقانونية لمحاكمتهما بالغة الدقة في حرصها على عدالة المحاكمة. فالقانون الاسكتلندي يعطي المشتبه بهما أكبر مجال ممكن لاثبات البراءة، وهناك من يعتقد بين القانونيين ان اثبات الجريمة بموجب القضاء الاسكتلندي شبه مستحيل. اما "محاكمة" النظام الليبي فإنها باتت مستبعدة كلياً تقريباً بعد التطمينات التي حصلت عليها طرابلس من لندن في اطار الاستجواب اثناء المحاكمة وحتى بعد الادانة. الخطر الوحيد هو في امتلاك المشتبه بهما ادلة على تورط الحكومة الليبية يكشفان عنها اثناء المحاكمة وفي هذه الحال، تختلف اللعبة وأصولها. اما اذا اثبتت المحاكمة براءة المشتبه بهما، فإن ليبيا ستكون عندئذ في موقف قوة مضاعفة، اذ انها لا بد ان تقيم دعوى ضد الولاياتالمتحدةوبريطانيا، وربما ضد مجلس الأمن، لتطالب بتعويضات عن العقوبات التي فرضت عليها. ضمن الافرازات المباشرة لمثول المشتبه بهما امام المحكمة تجميد العقوبات، وذلك تنفيذاً للتعهد الاميركي - البريطاني الذي دوّنه الأمين العام كوفي انان في رسالته. ويفترض ان يكون التجميد بمثابة ازالة للعقوبات من دون التمكن من اعادة فرضها الا بتصويت مجلس الأمن على اعادة فرضها. وهذا مستحيل الا اذا جاءت مفاجأة من اعترافات غير متوقعة. تصرفت ليبيا حتى الآن بثقة كاملة ببراءتها من تفجير طائرة "بان اميركان" فوق لوكربي. أما الولاياتالمتحدةوبريطانيا فاعتمدتا طوال السنوات الماضية مواقف اساسها امتلاك الأدلة على تورط المواطنين الليبيين والحكومة الليبية بالعملية. والآن باتت الكلمة الاخيرة للمحكمة الجنائية، بعدما طمأنت بريطانيا ليبيا الى انها لا تسعى الى محاكمة النظام الليبي وليست لديها "اجندة خفية". تميّز مدى اطمئنان ليبيا الى التطمينات البريطانية بالغموض، خصوصاً ان طرابلس تخشى تطبيق الولاياتالمتحدة "سيناريو" العراق عليها، بمعنى العقاب بغض النظر عن مدى التعاون. لكن الديبلوماسية البريطانية حريصة جداً على الخروج بنتائج ايجابية لملف لوكربي لأسباب متعددة منها ضغوط اسر الضحايا ومنها اعادة النظر في سياسة العقوبات بصورة جذرية. انعدام الثقة الليبية بالولاياتالمتحدة وانعدام الثقة الاميركية بليبيا ليسا بلا مبررات. لكن الحلقة البريطانية، في هذا المنعطف، قد تكون مفيدة في شرح الغموض واستصدار تطمينات. هذا اذا صدقت لندن في قولها أن لا "اجندة خفية" لديها وإذا صدقت طرابلس في قولها أنها على استعداد لتيسير مثول المشتبه بهما امام المحكمة. الفارق بين عواقب صدق أو مواربة أي من الاطراف ان الولاياتالمتحدةوبريطانيا باتتا بوضوح في خانة "ربح ربح" فيما باتت ليبيا في خانة "خسارة خسارة" اذا كانت حقاً متورطة في لوكربي. والسبب ان التقاعس في تنفيذ التفاهمات، التي تم التوصل اليها عبر اكثر من طرف يشمل الأمين العام ووكيله للشؤون القانونية والسفير السعودي ومبعوث مانديلا، سيترك القيادة الليبية في قفص الاتهام. ومن شأن مثل هذا التقاعس ان ينسف كل استثمار أو مردود ليبي لأن مقومات التراجع عن التفاهمات ضعيفة. فكما بنت طرابلس لنفسها قاعدة دعم وتضامن دوليين لا سابقة لهما لأنها امتلكت مفاتيح القانون والشرعية الدولية، فإنها تغامر بتحويل قاعدة التضامن والتعاطف الى قاعدة استياء وندم دوليين اذا تذرعت بادعاءات سطحية لاحباط ما استُثمر فيها بحسن نية. فاذا امتلكت دلائل حقيقية تكشف سوء نية اميركية او بريطانية، فإن القيادة الليبية ستحتفظ بقاعدة الدعم الدولية. اما اذا سقطت التفاهمات على مزاج القيادة الليبية او مخاوفها، فإن خسارة ليبيا ستكون كبيرة جداً. ومرة اخرى، لن تتمثل هذه الخسارة بإدامة الحصار على ليبيا وبنسف كل ما استثمرته لانهاء القضية فحسب، وانما أيضاً في عزل الاجيال الليبية وحرمانها من الالتحاق بالركب العالمي. فوائد تنفيذ التعهدات عديدة ومجال تعزيزها لا يزال وارداً. اولى الحلقات في بريطانيا حيث تأكد ان لندن في صدد اعادة النظر في سياستها نحو ليبيا، اضطراراً او اقتناعاً. وإذا شاءت لندن ففي امكانها ابراز أهمية معالجة ملف لوكربي لدى واشنطن بما يؤدي الى استكمال ما تم تحقيقه من ايجابيات. فموازين الاقناع ومعادلاته لم تُستهلك بعد. والحوار بين الولاياتالمتحدة وليبيا كافراز لتسليم المشتبه بهما الى المحاكمة تطور مغر من شأنه ان يشجع طرابلس في اطار بناء الثقة. كذلك اجراءات ذات علاقة بالأرصدة الليبية المجمدة في الولاياتالمتحدة. انما المنطلق يبقى صدق النيات. هنا بالذات العقدة الأساسية في الثلاثي الاميركي - البريطاني - الليبي ازاء أزمة لوكربي. وعلى صدق النيات يرتكز مستقبل بلد واحد هو ليبيا. فأميركا بخير، وبريطانيا بخير في نهاية المطاف. لكن ليبيا تتأرجح في غموض القيادة والسياسات وحسن او سوء النيات.