على صدى دقات الطبول التي تكاد تصم الآذان، احتفاءً باستقبال الألفية الثالثة، انطلقت، وتناثرت ايضاً من اقلام الصحافيين، ومن أفواه المذيعين وضيوفهم من المتحدثين في بقية اجهزة الاعلام المسموعة والمرئية أصوات لها رنين الطبول - إن لم تكن أشد - تتحدث عن القرن القادم، والتكنولوجيا والعولمة ووسائل الاتصالات التي سيصبح العالم عن طريقها قرية صغيرة. وتمادوا فتغزلوا بالحداثة والمعاصرة في الفن والحياة في القرن القادم، الذي بدأت تباشيره تظهر في قرننا الحالي، أي القرن العشرين. وسَقَطتُ في داخلي، وانطلقت تساؤلاتي تتناثر مني: تكنولوجيا؟ عولمة؟ اتصالات؟ حداثة؟ معاصرة؟ القرن الحادي والعشرون؟ وهل كنا نعيش بالفعل في القرن العشرين؟. لا... وألف لا... نحن العرب لم نصل بعد الى اي قرن من هذه القرون. أذكر أن أحد أصدقائي من قطر عربي شقيق حاول أن يهديني ساعة بدعوى أن ساعتي غير مضبوطة فقلت له شاكراً ساخراً: وفر عليك يا صديقي مكرمتك، فكل ساعاتنا نحن العرب غير مضبوطة، بل وغير لازمة، لأننا لم نعد تحتاج إلى ساعات تشير الى الثواني والدقائق والساعات، ولا حتى الى الشهور والسنوات. وحتى إذا احتجنا إلى ضبط الوقت فنحن في حاجة إلى ساعة قرنية! يسألني سائل عن الزمن، فأنظر اليها أولاً قبل أن اجيبه بأننا في القرن السابع عشر إلا ربع. ويجيبني ساخراً ان الظاهر أن ساعتي غير مضبوطة لأنها تقدم بضعة قرون! هذا في تصوري - حالنا، نحن أبناء الامة العربية الواحدة!، وكنت أتمنى أن أكون مخطئاً. ولكن، وللحقيقة، فنحن لا نحمل وحدنا مسؤولية هذا التخلف، فلقد عشنا لقرون عديدة تحت نير الاستعمار الغربي، الذي كان يقطف خيرات بلادنا، ثم يعود ليبيعها لنا - بعد تصنيعها - فيسلبنا مرتين، يسلبنا ما تنتجه أرضنا ثم يسلبنا قدرتنا على تصنيعه بأنفسنا، وحتى بعد أن ثرنا وكافحنا من أجل استقلالنا، خرج الاستعمار، ولكنه عاد من باب آخر لكي يسلبنا ما هو أغلى وأثمن، ينتظر الى أن ننتهي، بعد أن نجاهد ونشقى في تربية أبنائنا وتعليمهم لكي يصبحوا عماد المستقبل. يأتي الاستعمار الجديد لكي يخطف أحلى زهور شبابنا من أصحاب العقول الفذة والرؤية المستقبلية المتقدمة، لكي يستأثر هو بعلمهم واختراعاتهم، ولكي يحرمنا أيضاً من قدرتنا على التقدم، يأتي هذه المرة عن طريق الإغراء والترغيب، ويشاركه في تلك الجريمة بعض أولي الامر منا، سواء عن طريق عدم اتاحة الفرص أمام شبابنا للبحث أو عن طريق اهمالهم حتى يصبح الوطن قوة طاردة لهم. وحتى من يتغلب منهم على الإغراء والترغيب، ويحاول أن يكرس علمه للوطن وللبشرية جمعاء، يعمل الاستعمار على التخلص منه، ويفقده الوطن فجأة إثر حادث أليم. وهذا ما حدث مع الشهيد العالِم الدكتور المشد أو الشهيدة العالِمة الدكتورة سميرة موسى، والاثنان كانا من علماء الذرة. هذا هو ما يفعله العالم المتقدم أو، في الحقيقة، الاستعمار الجديد، وهو نفسه الذي يبشرنا الآن بالعولمة وثورة الاتصالات والقرية الصغيرة التي سيتحول اليها العالم، والمعاصرة والتحديث، ومع ذلك مازلنا نحن نصدقه، بل ندق له الطبول ونتشدق في اجهزة اعلامنا بدُرّاته ولآلئه. يا إلهي... أي قرية صغيرة هذه التي سيصبحها العالم؟! ونحن ابناء الامة العربية الواحدة لم نعد امة عربية واحدة. الاوروبيون - أو الاستعمار القديم - على اختلاف لغاتهم وأوضاعهم الاقتصادية توحدوا، واصبح لهم سوق مشتركة وعملة مشتركة وأُلغي ما بينهم من حدود وسدود. أما نحن العرب ابناء اللغة المشتركة، والمصير المشترك، مازلنا نتعامل مع بعضنا كغرباء وأحياناً كأعداء، ومازالت جوازات سفرنا وكأنها مكتوب فيها: يضرب حامله على حدود أو سدود وطنه العربي الكبير. ماذا أقول؟ لا شيء، فقط اتمنى بل احلم بأن أكون مخطئاً او مبالغاً في ما احسه او أراه، وأنني مجرد شخص متشائم ضيق الأفق لا يكاد يرى المستقبل الزاهر الذي ستعيشه أمتنا في القرن الحادي والعشرين... ودقي يا مزيكة. فنان تشكيلي