لم يبقَ سوى أسابيع قليلة وينتقل العالم من قرن إلى قرن، ومن ألفية إلى ألفية، وسط إرهاصات كبرى وأحاديث عن متغيرات وعولمة وهيمنة ونظام عالمي جديد وصراع حضارات ونهاية تاريخ... ونهاية جغرافيا. العالم كله يترقب ويستعد ويراقب ما يجري حوله ويتخذ خطوات وقرارات ويعقد تحالفات إستعداداً لركوب قطار التحوّل والإنتقال وبالتالي ركوب موجته والتعامل مع استحقاقاته وتحدياته ومتغيراته. هذا الإنتقال من القرن العشرين إلى القرن الحادي والعشرين، ومن الألفية الثانية إلى الألفية الثالثة، ليس مجرد انتقال زمني بين فترة وفترة، أو أنه حدث احتفالي يخص الغرب الذي يعمل على تحويل أي مناسبة إلى مهرجان استهلاكي، كما أنه ليس حدثاً يقام وفق التقويم الغربي ويخص فئة من الناس ولا علاقة لنا به نحن معشر العرب والمسلمين لأن تقويمنا مختلف. إنه حدث عالمي يخص الجميع، ولا يصح أن نبقى بعيدين عنه وعن معانيه ونجلس في مقاعد المتفرّجين كما جرت العادة، إذ ولّى هذا الزمن بعدما تحوّل العالم الى قرية كونية صغيرة بفعل ثورة الاتصالات والمعلومات والتكنولوجيا والبث التلفزيوني عبر الأقمار الصناعية. كما أن مفهوم الإهتمام والمشاركة لا يعني ان نعيش آنية لحظة الإنتقال بل التعامل مع الجوهر والتعايش مع المتغيرات في ضوء الإرهاصات الأولى منذ بداية الثمانينات وما تبعها من رسم ملامح النظام العالمي الجديد بكل مفاهيمه ومفاعيله الإيجابية والسلبية وتأثيراته على العرب وعلى منطقة الشرق الأوسط ككل. فهل يجوز ان يبقى العرب في عزلة عن مفاعيل لحظة الإنتقال؟ وكيف يمكن الإستعداد، أو محاولة اللحاق بما فاتهم حتى يكون لهم دور ورأي وكلمة في المرحلة المقبلة؟ لو عدنا قليلاً الى الوراء لوجدنا أن العرب كانوا في حال غفوة وهم تحت الحكم العثماني لحظة الانتقال من القرن التاسع عشر الى القرن العشرين، ولم يكن لهم دور ولا حول ولا طول على رغم ان هذا الانتقال ايضاً سجّل عملية تحول خطيرة في تاريخ العالم والمنطقة العربية بالذات. وفي نظرة سريعة ل "بانوراما" الأوضاع التي كانت سائدة في تلك الحقبة تبدو لنا بوضوح "قتامة" الموقف العربي وسلسلة التداعيات التي تدحرجت ككرة الثلج من أعلى القمة خلال تعاقب الأحداث المؤسفة بعد عملية الإنتقال من قرن الى قرن. استخدم الاستعمار العرب كأداة لتحطيم الإمبراطورية العثمانية ثم استغل سذاجتهم بزعم مساعدتهم على الثورة ضدها من اجل اقامة وحدتهم المنشودة وتحقيق آمالهم وطموحاتهم، وبعد نجاح الخطة الجهنمية انكشفت الكذبة الكبرى وسقط العرب في فخ الخداع المزدوج: خداع النفس وخداع الاستعمار بألوانه وأشكاله وجنسياته شتى. والباقي معروف من فرض الإنتداب والإحتلال والحماية والإستعمار واقتسام البلاد العربية ونهب ثرواتها واستغلال طاقاتها وموقعها الاستراتيجي الى "منح" فلسطين للصهاينة لإقامة دولتهم المزعومة على أراضيها بعد ان صار الحق العربي مشاعاً يتقاسمه اصحاب المطامع في الشرق والغرب. وانتقلت علّة "الرجل المريض" وهي التسمية التي "أطلقت على تركيا لتبرير تقاسم غنائمها وتركتها الى العرب... صحيح انهم عاشوا فترة من الزمن نهضة قومية وثقافية تمثلت في النضال ضد الاستعمار إلا أن المرض تمكن من اجسادهم وانتشر في ارجاء اوطانهم ليخلف الفقر والفرقة والتواكل والتخاذل والتحول الى ادوات ومسارح لحروب الآخرين على اراضيهم وصراعات القوى العظمى والحروب السرية للمخابرات الغربية والشرقية في عزّ ايام الحرب الباردة، والأنكى من كل ذلك أن العرب أدمنوا لعبة الجلوس في مقاعد المتفرجين على الأحداث ولا سيما تلك المتعلقة بمصيرهم وحاضرهم ومستقبلهم وفي بعض الأحيان بمصالحهم وشرفهم وكرامتهم وسمعتهم. ومن يستعرض الأحداث لا يجد إلا بعض المحطات التي لعب فيها العرب دور الفاعل، وأن معظم الأحداث كانوا فيها في وضع "المفعول به" بكل أسف، من نكبة فلسطين الأولى عام 1948 الى هزيمة الخامس من حزيران يونيو 1967، وفي كل الأحداث الأخرى التي شهدتها المنطقة والعالم. وبدلاً من أن توحد المصائب والنكبات الأمة زادتها فرقة وانقساماً وشهد العالم العربي سلسلة من الانهيارات تمثلت في الانقلابات والمؤامرات والحروب الأهلية والحروب مع الآخرين والحروب العربية - العربية وكان اخطرها وأشدا فتكاً الغزو العراقي للكويت في 2 آب اغسطس 1990 وما نجم عنه من مفاعيل وشروخ وأضرار ودمار. وزاد في حدة الخلافات تحول العرب الى وقود في أتون الحرب الباردة والصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي فاتسع انقسامهم انقساماً وازداد حدة بفعل استيراد المبادئ من الخارج واقتباس السلبيات منها مما أسهم في التدهور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الحاصل في العالم العربي والذي تعاني الأمة من مفاعيله هذه الأيام. في ظل هذه "البارنواما" المظلمة شهد العالم إرهاصات المتغيرات الكبرى وقيام النظام العالمي الجديد: انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك المعسكر الاشتراكي وانتهاء الحرب الباردة وهيمنة الولاياتالمتحدة على مقادير العالم كقوة عظمى احادية تتبعها القوى الأخرى او تسكت على هيمنتها على مضض. وتزامنت هذه المتغيرات الكبرى مع ثورة كبرى في الإتصالات والتكنولوجيا والعلوم والبث عبر الأقمار الصناعية بشكل انقلبت فيها كل الموازين والقيم ورسمت فيه معالم خارطة كونية جديدة لا مكان فيها إلا للأقوياء والتكتلات الكبيرة والمحصّنة اقتصادياً وعسكرياً ومالياً وعلمياً وتكنولوجياً. ولكن أين يقف العرب ومعهم مئات الملايين من المسلمين من هذه المتغيرات؟ وهل من دور لهم في القرن الحادي والعشرين إن لم يحجزوا مقعداً لهم منذ الآن؟ قد يكون الجواب قاسياً ومؤسفاً ولكن الواقع هو الواقع، إذ لم يتغير شيء ونحن على عتبات "النقلة" الجديدة من قرن الى قرن منذ نقلة القرن الماضي الى القرن المشرف على الرحيل: الإكتفاء بالتفرج على الأحداث والتعامل معها وكأنها لا تعنينا ولا علاقة لها بمصير الأجيال ومستقبلها فيما ترسخ إسرائيل أقدامها في فلسطين وتتكالب القوى الأجنبية على تثبيت مواقع نفوذها وتنتشر نظريات "نهاية التاريخ" و"صراع الحضارات" حيث يصوّر الإسلام وكأنه الخطر القادم الذي يجب أن يخترعوا رعبه ليحل محل الخطر الشيوعي المنهار والذي تبين انه كان عملاقاً من ورق أسوة بالصين التي كانوا يقولون أنها مجرد "نمر من ورق". والمؤسف أن هذه الآفة، أي الإكتفاء بموقف المتفرج، رافقتها آفات اخرى مثل السقوط في فخ "العولمة" والهيمنة الأميركية فظن البعض منا ان التقليد او الاستيراد سيغني عن تعب الإبتكار والإختراع مع التخلي عن القيم والعادات والتقاليد وحتى مبادئ الإسلام العظيمة كوسيلة للحاق بالآخرين. الغزو الثقافي التلفزيوني والفضائي وغيره الذي كنا نحذر منه صار في بيوتنا وبدلاً من ان نتصدى له شوّهنا ثقافتنا وتخلينا عن حضارتنا وصار البديل العربي اكبر خطراً من المستورد الأجنبي لما فيه من إسفاف وبعد عن اخلاقياتنا. وثورة التكنولوجيا لم يستفد منها سوى في الحدود الدنيا وضمن سياسة الاستهلاك فقط على عكس غيرنا من الأمم والشعوب مثل اليابانيين الذين صار الإبتكار والإبداع طوع بنانهم وحققوا فيه قصب السبق حتى على الأميركيين، فيما تمكنت الهند وباكستان من دخول النادي النووي على رغم العراقيل والصعوبات والمعارضة التي كانت تواجههما. اما عن نظرية "صراع الحضارات" التي روج لها صموئيل هاتنغتون وغيره فلم نرد عليها بالتمسك بالإسلام الحقيقي دين التسامح والتعايش والتطور والعلم والإيمان بل عمد البعض الى المساهمة في تشويه صورته عبر نماذج الإرهاب والعنف والتطرف، ونحمد الله ان هذه الموجة قد انحسرت وتضاءل خطرها الذي كان يهدد بإثارة الفتن الداخلية وتحقيق آمال أصحاب المطامع الأجنبية. هذا الإنحسار تزامن مع إشارات إيجابية ودعوات للإعتدال والحكمة والعمل على سد الفجوة القائمة بين الدول الإسلامية والعالم من بينها قول الرئىس المصري حسني مبارك اخيراً انه لم يعد ممكناً اضاعة مزيد من الوقت لأن عصر العولمة الذي يعيش فيه العالم هو عصر التكتلات الاقتصادية، ولم يعد أمام المسلمين مفر من مواجهة هذه الحقيقة، معتبراً ان "لا سبيل امام العالم الاسلامي للخروج من مأزقه الحالي إلا التنمية الشاملة والشروع فيها والإيمان بأنها الطريق الأوحد للخلاص"، مشيراً الى انه "لا بد من الاعتراف بأن الدور الذي يقوم به المسلمون في عالمنا المعاصر لا يتناسب اطلاقاً مع ما لديهم من قدرات وما يملكونه من امكانات بشرية ومادية، بل ولا يتناسب مع المعطيات الحضارية لعقيدتنا وتاريخنا"، مؤكداً "ان المسلمين في حاجة اليوم الى وقفة مع النفس للقيام بتشخيص علل الحاضر وتذكر دروس الماضي واستشراف آفاق المستقبل". كما تزامن هذا الانحسار مع عودة فرنسيس فوكوياما المفكر الأميركي الى اعادة تقويم نظريته الشهيرة عن "نهاية التاريخ" عبر التحذير من انه لا يمكن الاستغناء عن اي مصدر من مصادر الأخلاق الدينية او المدنية وقوله في كتابه الجديد The Great Disruption أي: الإضطراب او الانقطاع العظيم، ان المجتمعات التي كتب عنها لأنها حازت على جوائز نهاية التاريخ عن تقدم تقني ومن رأسمالية او ليبرالية ديموقراطية تكاد تنفجر من داخلها وليس بفعل اخطار خارجية ومن أعداء يملكون بدائل او نماذج ايديولوجية بل أن التحدي الأساسي لها يأتي من المشاكل الإجتماعية التي تتلازم مع عملية تحولها الى مجموعات معلوماتية. وهذا درس للعرب لكي يلحقوا بالركب وفق منطق سليم وعقلانية من دون ان يتخلوا عن قيمهم وجذورهم وحضارتهم والمبادئ السمحة التي تشكل الحصن الحصين لهم في وجه المشاكل والأزمات والتحديات. والتخلي الوحيد المطلوب هو عن عقلية الإكتفاء بالتفرج على الأحداث. فالعالم يعيش حالة انهيار الحدود والسدود والجدران ونهاية الجغرافيا ونحن ما زلنا نتمسك بحدود سايكس - بيكو والخطوط الوهمية التي رسمها الإستعمار في مطلع القرن. والعالم يتحدث عن نهاية التاريخ فلا نفهم منها إلا الجانب السلبي ونتمسك بأمجاد التاريخ الغابر من دون ان نحاول ان نبني امجاداً حقيقية للحاضر والمستقبل ويحاربنا الأعداء بالتهويل بخطر الإسلام فلا نثبت العكس ونظهر سماحة الإسلام وكونه دين كل عصر وزمان ونتكاتف للرد على الحملات المغرضة بل نقدم صورة مشوّهة بعيدة كل البعد عن الجوهر الحقيقي والإنساني للإسلام ودوره الرائد في مجال حماية حقوق الإنسان. وها نحن نعيش إرهاصات الإنتقال من قرن الى قرن ومن ألفية إلى ألفية ومن "عولمة الى عولمة" ونحن نتساءل: الى متى الضياع؟.. ومتى نتخلى عن أدران التواكل والتقاعس وذل المفعول به؟ ومتى سنعلن نهاية تاريخ الهزائم والفرقة والتشرذم ونهاية جغرافيا الحدود الوهمية الفاصلة بين العرب وتطلعاتهم وآمالهم والمعرقلة لمسيرتهم نحو التقدم ومواكبة روح العصر؟ * كاتب وصحافي عربي