أوحى الإيقاع السريع لتحركات باراك الاقليمية والدولية، والنبرة الواثقة والمتفائلة، بانطلاق العملية السلمية وبقوة. ففي فترة وجيزة قطع باراك آلاف الكيلومترات للالتقاء بقادة دول: مصر، الأردن، الولاياتالمتحدة، المملكة المتحدة، مصر ثانية، روسيا الاتحادية، بالاضافة الى لقاءين مع الرئيس ياسر عرفات، وملأ وسائل الاعلام بتصريحات رنانة حول استئناف المفاوضات على كافة المسارات وعقد اتفاقات خلال 15 شهراً. إطار المفاوضات استطاع باراك رسم "صورة ذهنية" لنفسه باعتباره رجل سلام اخترق بها التحفظات والحذر وأقام جسوراً مباشرة وغير مباشرة مع أطراف العملية السلمية حيث سوّق رسمياً وإعلامياً باعتباره "الأمل المنتظر" و"الفارس النبيل" الذي سيخرج العملية السلمية من جمودها وموتها البطيء، وألمح الى ضرورة عدم إعاقته بالمطالب المبالغ فيها. سمح له ذلك بالتحرك، اقليمياً ودولياً، لطرح رؤيته لإطار المفاوضات وإيقاعها وفق منظوراته وأهدافه. فعلى الصعيد الداخلي شكّل وزارة خلت من الشخصيات الكبيرة حيث اختار الوزراء للأماكن التي حددها، واحتفظ لنفسه بوزارة الدفاع، وكلّف ديفيد ليفي بوزارة الخارجية بعد ان اتفق معه على ان يكون دوره هو دور منفذ للسياسة التي يضعها باراك. واستبعد من طواقم التفاوض الوجوه السابقة وكلّف جنرالات سابقين لرئاستها: الجنرال احتياط أوري ساغي رئيس الاستخبارات العسكرية السابق، رئيساً للطاقم المفاوض مع سورية، الجنرال احتياط يوسي بيليد قائد المنطقة العسكرية الشمالية، رئيساً للطاقم المفاوض مع لبنان، الجنرال احتياط "أمنون شاحاك" رئيس الأركان السابق، رئيساً للطاقم المفاوض مع السلطة الوطنية الفلسطينية. وكلّف الجنرال احتياط داني ياتوم المدير العام السابق للموساد بالتنسيق بين هذه الطواقم التفاوضية. مبرزاً انفراده بتحديد سياسة الحكومة تجاه العملية السلمية، ومواقفه من بعض الملفات كالتمسك بالاعتبارات الأمنية من خلال إشراك احزاب تُعلي من شأن هذه الاعتبارات والتمسك بالاستيطان عبر تكليف حزب استيطاني "المفدال" بوزارة البناء والاسكان. والاهتمام بتسريع عملية التطبيع عن طريق تفصيل وزارة خاصة "وزارة التعاون الدولي" واسنادها الى شمعون بيريز صاحب فكرة الشرق الأوسط الجديد والوجه المقبول دولياً. وعلى صعيد آخر أعطى اولوية لتطوير القدرات العسكرية بعقد صفقات تسليح كبيرة ومتطورة 60 طائرة إف 16 محسنة تطال العراق وإيران أصبح لدى اسرائيل 250 طائرة من هذا النوع. الدخول في مشاريع تطوير شبكات صواريخ مضادة للصواريخ والمشاركة في تطوير أنظمة تسلح في الفضاء، 3 غواصات ألمانية حديثة قادرة على حمل اسلحة غير تقليدية وإطلاقها. مبرزا ربطه بين المفاوضات وميزان القوى. اماعلى صعيد دور القوى الدولية في المفاوضات فأوضه انه يريد اجراء المفاوضات دون تأثيرات خارجية سلبية، من وجهة نظره، وحقق في ذلك انجازات هي: 1 - الاتفاق مع الادارة الاميركية على تقليص الدور الاميركي المباشر في المفاوضات، بخاصة في الشأن الأمني، والاكتفاء بدور المساعد وعدم التدخل في المفاوضات الا بطلب من الطرفين وإعادة الدور الاميركي الى وضعه التقليدي: التنسيق مع اسرائيل. فأكبر أخطاء نتانياهو من وجهة نظر باراك افساح المجال امام تبلور علاقة ايجابية بين الادارة الاميركية والسلطة الوطنية الفلسطينية. 2 - الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي على الالتزام بالدور المحدد له سابقاً: دور ممول للعملية السلمية وعدم الدخول على خط المفاوضات مباشرة او التعليق على ما يحدث وتحديد الطرف المعرقل للعملية وإدانته. 3 - اغراء روسيا بلعب دور ايجابي، من وجهة نظره، مقابل السماح لها بلعب دورها كراع ثان للعملية السلمية، هذا الدور من شقين: أ - تسهيل استئناف المفاوضات على المسارين السوري واللبناني باستخدام نفوذها لدى الطرف العربي. ب - اضعاف اوراق الضغط العربية عن طريق تحديد نوعية الأسلحة وكميتها التي يمكن ان تبيعها روسيا لسورية. مناخ المفاوضات المشهد السياسي بالغ التعقيد نتيجة تداخل وتشابك القوى والمصالح والمواقف الاقليمية والدولية. فباراك محكوم بمجموعة من عناصر الضغط: أولها: الأثر الذي تركه نتانياهو الذي كرس حقائق سياسية لعل اخطرها امكانية تجميد العملية السلمية وتحقيق خفض جدي لسقف التوقعات الفلسطينية والعربية. ثانيها: غياب حافز يُغري اسرائيل بتنفيذ التزامات المرحلة الانتقالية بعد تنفيذ الطرف الفلسطيني لالتزاماته وافتقاره لوسائل ضغط او اغراءات. ثالثها: وجود قطاع اسرائيلي رافض لأي تنازل اقليمي. رابعها: اطمئنان باراك الى ضعف الدول العربية ووجود تناقضات بينها ومراهنته على اللعب على هذه التناقضات. خامسها وآخرها: يقين باراك بأن الظرف الدولي موات له، فالادارة الاميركية قبلت طلبه تخفيض دورها من دور "الراعي" الى دور "المساعد". وبقاء الاتحاد الأوروبي على دوره المحدود "ممول العملية السلمية". تقابلها عوامل تدفع باتجاه تنفيذ الالتزامات الاسرائيلية وإتمام العملية السلمية: اولها: وجود قطاع متزايد من الاسرائيليين يعتبر "السلام" اولوية وأولوية ملحة، وقد عبّر عن نفسه بالانتقادات الحادة التي وجهتها الصحافة الاسرائيلية لتباطؤ باراك في العملية السلمية، والتي ذكرته بأن ناخبيه يتوقعون منه ان يعوض الزمن الذي اضاعه نتانياهو، وإذا به اكثر ميلاً للتسويف ووضع المواعيد البعيدة. ثانيها: المخاطر التي يمكن ان تنجم عن اقتناع العرب ان اسرائيل يميناً ويساراً، بعد التجربة، غير قادرة على دفع ثمن السلام معهم، واحتمال عودة دورة العنف، ومؤشرات ذلك كثيرة تنم عن ازدياد درجة الاحتقان والتوتر التي عبّرت عن نفسها في عمليات عفوية وفردية حصلت أخيراً، يزيد من خطورتها التداخل الجغرافي بين الفلسطينيين والاسرائيليين. ثالثها: الثمن الباهظ الذي يمكن ان تدفعه اسرائيل نتيجة تجميدها للعملية السلمية، وقد دفعته خلال فترة حكم نتانياهو تجسد في تراجع حجم الاستثمارات الدولية في اسرائيل وتراجع نسبة النمو وتزايد البطالة، ناهيك عن العزلة السياسية وشبه القطيعة التي حصلت حتى مع حليفتها واشنطن. هذا بينما باراك بحاجة ماسة لعودة الاستثمارات لتنشيط الاقتصاد وتحقيق وعوده الانتخابية على هذا الصعيد. رابعها: تشكل الحكومة والكنيست من اغلبية من اليسار والأوساط السلمية، وتهميش الأطراف الرافضة للتسوية، بخاصة في الجولان، في الانتخابات وفي استطلاعات الرأي. خامسها: ارتباط الانسحاب من لبنان، وهو مطلب اسرائيلي ملح، بما سيحصل على المسار السوري. سادسها: المعضلة الفلسطينية لب الصراع العربي - الاسرائيلي وجوهره، والعرب رغم ضعفهم ملتزمون بأن الموقف من فلسطين معيار لعلاقتهم ليس باسرائيل فحسب بل وبالغرب والعالم. سابعها: تمسك واشنطن بإبقاء العملية السلمية حية ونشطة لتسجيل انجاز خارجي للحزب الديموقراطي قبيل الانتخابات الرئاسية. ثامنها وآخرها: وجود رغبة دولية بحل الصراع العربي - الاسرائلي سلمياً. خطة باراك عكست تصريحات وتحركات باراك نمط المفاوضات التي ينوي خوضها، واعتماده خطة مكونة من مستويين هما: أ - اطلاق وعود بتحريك المفاوضات وتحقيق انجازات على كافة المسارات، والايحاء بأفضلية لهذا المسار او ذاك لتحفيز التنافس العربي - العربي، وابتزاز تنازلات كبيرة. 2 - العمل على تحقيق اختراق واسع في مسائل التطبيع، وإنهاء حالة المقاطعة العربية، بخاصة بعد انجاز تقدم على المسارين السوري واللبناني واستخدام ذلك في تركيز الضغط على المفاوض الفلسطيني. فباراك مع تحريك المفاوضات على كافة المسارات لتلافي الانتقادات المحلية والدولية مع اعتماد آلية معقدة: عرقلة على المسار الفلسطيني وتقدم على المسارين السوري واللبناني، حيث سيعتمد تكتيك اغراق الطرف الفلسطيني في مفاوضات معقّدة حول تطبيق الاتفاقات المرحلية، مع اثارة الخلاف حول قضايا الحل الدائم واستفزازه بممارسات استيطانية وأمنية تتناقض مع الاستحقاقات المتفق عليها، واستنزاف الوقت والجهد الفلسطيني مع عدم اعطاء مبررات لقطاع المفاوضات عن طريق تحقيق تقدم في قضايا رمزية وثانوية. وبعدها يستطيع باراك المطالبة بإنهاء المقاطعة العربية والولوج في اجواء علاقات طبيعية بين اسرائيل وباقي الدول العربية والاستفراد بالطرف الفلسطيني، الملف الأهم بالنسبة له ولائتلانه الحاكم، لتحقيق رؤيته في قضايا الحل الدائم، التي لا يختلف فيها عن نتانياهو. كل هذا في بيئة اقليمية ودولية مواتية بعد ان أمن موقفاً اميركياً اوروبياً روسياً لصالحه. ان هدف باراك من خطته التفاوضية تحقيق هدفين رئيسيين أ الاستحواذ على اكبر قدر من أرض فلسطين ب اقامة علاقات طبيعية وشاملة بين اسرائيل والدول العربية. ستشهد المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية انعطافات وانقطاعات تستثمر خلالها اسرائيل التناقضات العربية - العربية وتسعى لخلق حوافز للتنافس العربي على التقارب مع اسرائيل، توثيق العلاقات مع مصر، بإقامة علاقات ودية وخاصة، مقابل تخلي مصر عن دعم الموقف الفلسطيني من جهة، ومن جهة ثانية اغراء الأردن بإشراكه في مفاوضات قضايا الحل الدائم. والضغط في الوقت ذاته على الطرف الفلسطيني الذي هو في أضعف حال. ما الرد العربي الممكن؟ من الواضح ان البيئة الاقليمية والدولية ستفضي، بخاصة تنامي النزعة القطرية الضيقة، الى نزع عدد من اهم الأوراق العربية التي كانت توظّف بالأساس، عبر التنسيق والتعاون والعمل المشترك، من اجل تحسين شروط التفاوض. لذا يجب ان يكون أول عمل عربي للرد على خطة باراك التفاوضية اعتماد خطة موازية قائمة على: 1 - حق كل طرف عربي باستعادة حقوقه المشروعة دون التخلي عن الالتزام تجاه القضية الفلسطينية. والتمسك باعتبارها لب الصراع وأول خطوات الحل الدائم. 2 - بلورة اطار جديد للتنسيق والتعاون لدعم ومساندة حقوق الشعب الفلسطيني في مرحلة حرجة للغاية. 3 - الاتفاق على صورة الحل الدائم المقبول عربياً، خاصة وان المصالح العربية والإسلامية تتداخل مع المصالح الفلسطينية في قضايا الحل الدائم، والتركيز على الهدف الثابت: حل عادل وشامل. 4 - التمسك بالمرجعية الدولية للعملية السلمية وربط اي تحسّن في العلاقات مع اسرائيل بتنفيذ مضامين القرارات الدولية. 5 - استثمار الظواهر "الايجابية" في الساحة الاسرائيلية حيث اصبح "السلام" بالنسبة لعدد متزايد من الاسرائيليين اولوية وأولوية ملحة، وتحول الدولة الفلسطينية الى حاجة اسرائيلية بقدر ما هي حاجة عربية وطموح فلسطيني مشروع، فقد باتت شرطاً مسبقاً لشعور اسرائيل بالأمن وبالشرعية. 6 - وعلى الصعيد الفلسطيني يمكن اتخاذ ما يلي: أ - رفض اعادة النظر في الاتفاقات السابقة او تغيير جدولها الزمني. ب - اعتبار وقف الاستيطان شرطاً مسبقاً للدخول في مفاوضات الحل الدائم. ج - التمسك بالانسحاب من جميع الأراضي المحتلة عام 1967. ه - التمسك بهدف الدولة الفلسطينية كاملة السيادة. 7 - وقف المفاوضات ما لم تحقق الأهداف السابقة، وتحميل اسرائيل مسؤولية عدم الالتزام بالمرجعية الدولية وقراراتها. ان التمسك بكون القضية الفلسطينية لب الصراع وجوهره وإقناع الاسرائيليين، عملاً وقولاً، بأن كل محاولاتهم للقفز فوق هذه الحقيقة بمبادرات نحو الدول العربية، لن يغير شيئاً من المعادلة الأساس، هو العمود الفقري لخطة عربية قادرة على احتواء وإحباط الخطة الاسرائيلية. * كاتب ومحلل سياسي سوري.