منذ بدء الخليقة، والانسان في سعي دائم لكي يجعل الحياة اسهل وأبسط وأجمل. وعلى جدران الكهوف التي سكنها الانسان الأول بدأ يعبر بالرسم عن آماله واحلامه وطموحه. صور الوحوش الكاسرة التي كانت تخيفه وتنغص عليه عيشته، حاربها وانتصر عليها في رسومه. ثم كان له ما أراد فانتصر عليها في الحقيقة كما تمنى في الحلم والخيال. وهكذا اصبح الفن هو الدافع لتغيير عالمنا الى الافضل والأحسن. ومن خلال فن الرسم ومدى تأثيره العظيم في تغيير واقعه، بدأ في البحث عن اشكال اخرى، فكانت الكتابة التي سجل بها كل ما يحبه ويرجوه… وبالغناء والموسيقى انتصر الأجداد على كل الاصوات التي كانت ترعبهم كالبرق والرعد، او تنفرهم كالنهيق والنعيق. وتستمر الحياة وتتطور بتنوع اشكال الفنون والوانها المبتكرة، ويصبح الفن الحقيقي هو المعيار الدقيق على حضارة الامم والدافع على نموها وازدهارها. وعلى مر العصور اتسع رحاب الفن وتنوعت مناهله باتساع رقعة متذوقي شهده. وكغذاء للروح، فهو فريد في خصائصه، كلما نهلت من ينابيعه يزيدك احساساً بالجوع اليه، مغرياً إياك بالاندفاع نحوه طلباً للمزيد. هكذا عشت على أعتاب الفن، أحاول ان انهل من فيضه. تذوقت على قدر امكاناتي المتواضعة قطرة من بحره، فازددت عطشاً ونهماً الى المزيد، كذلك اكتشفت ان حبي للفن لم يتعارض في يوم من الأيام مع دراستي المدرسية، بل احسست ان العلوم التي تدرّس لنا، اجتماعية كانت او رياضية، وكذلك اللغات، لا تخرج عن كونها عاملاً مساعداً على الاستزادة من منهله العذب، بل احياناً كنت احس انها - اي العلوم واللغات - هي احدى روافده، وقد اغراني حبي العميق للفن ان اكون من مبدعيه، ولكن رحم الله امرأ عرف قدر نفسه، فما زلت أدق حتى الآن على بابه طالباً الإذن لي بالدخول. هذه هي رؤيتي للفن ومدى تأثيره في التقدم ومدى ارتباطه بالناس والحياة وسلطانه في التأثير عليهم. فعلى المستوى الشخصي، اذكر انني، بعد هزيمة 1967 النكراء، أصبت بما يشبه الجنون واليأس والضياع من هول الصدمة المفزعة، وانتابتني رغبة عارمة في الانسحاب من الحياة لولا الفن… الذي جاءني على شكل قصيدة قادمة من الأرض السليبة بلسان مبدعنا العظيم محمود درويش يصور فيها رؤاه لما حدث فيقول: خسرت حلماً جميلاً خسرت لسع الزنابق وكان ليلي طويلا على سياج الحدائق وما خسرت السبيلا وكأن محمود قد استشف ما في اعماقنا، فكانت كلماته صفعة من محب ليعيد الينا صوابنا، وكأنه بيد قوية حنون قد جذبني فاستعدت توازني. وكان اول ما فعلت هو كتابة القصيدة بخط مقبول يتمازج مع رسم لحنظلة ناجي العلي يرفع السلاح، وصنعت من كليهما تعويذة في شكل بطاقة بريدية لتحمينا من اليأس والإنكسار، وتدفعنا لنسير في طريق الحرية… والعدل… والسلام.