تاريخياً ظهرت عصابات المافيا المنظمة في جزيرة صقلية وجنوبي ايطاليا في القرن الماضي وصار لها وزن في صناعة القرارات العسكرية والسياسية والاقتصادية، واتسع نطاق نشاطها فخرجت من دائرتها الاقليمية الى الاطار العالمي، وامتد نشاطها الى الاميركيتين، وقوي نفوذها فمولت بعض الانقلابات العسكرية ما يسر لها جمع ثروات. وتطورت اساليب المافيا فسيطرت على الكثير من الشركات العابرة للقارات الكارتيلات وضاربت الرأس مال الوطني، ووقفت وراء انهيار الكثير من العملات الوطنية، وافلاس بعض البنوك، وتنظيف الاموال الحرام الناتجة عن تجارة المخدرات والرقيق. ومع صعود نموذج الحكم الديموقراطي تكيفت المافيا مع الاحداث فمولت الحملات الانتخابية، واسقطت بعض النواب. وبعدما سيطرت على بعض البرلمانات تدخلت بانتخاب بعض رؤساء الجمهوريات العسكريين او المدنيين، وتم تسخير الاموال العامة ووضعها في خدمتها عبر الاقنية الرسمية التي تسن القوانيين. ويعتبر العالم الثالث حقل تجارب واسع لعصابات المافيا اذ تمتد احياناً سيطرتها من قمة الهرم السلطوي الى قاعدته، كما هو حال المافيا التركية. شهدت تركيا تحولا سياسياً واقتصادياً وعسكرياً سريعاً في القرن الجاري حين قام الانقلاب العسكري على السلطنة سنة 1923 والغاء الخلافة سنة 1924. ودارت رحى التغير، وتبدلت الوجوه، وخفض العالي، ورفع الواطي، واختلط الحابل بالنابل، وتأثر بالنموذج التركي العديد من دول العالم العربي والعالم الاسلامي. وسيطرت المافيا على مقدرات البلاد في مجالات الاقتصاد والتعليم والثقافة والزراعة والصناعة والاعلام المكتوب والمرئي والمسموع، كما سيطرت على بيوت الليل والدعارة القانونية، والملاهي والحانات، والمقاهي ومحلات القمار، وتجارة المخدرات. وبذلك اصبح المواطن التركي غريباً في بلده. ووجدت المافيا بالمتدينين الاتراك عدواً لا تشترى ذمته فأعلنت الحرب على المتدينين واتهمتهم بالرجعية، واتسع نطاق الحرب، واستطاعت المافيا اسقاط حكومة نجم الدين اربكان، وجاءت بوزارة مسعود يلماظ التي اصدرت قوانين اعادة فتح صالات القمار، واغلقت المدارس الشرعية والاعدادية ضمن خطة خنق التعليم، ومنعت الحجاب الشرعي في الجامعات والثانويات، واخيراً سقطت وزارة المافيا المكشوفة، وجاءت الوزارة 56 برئاسة بولنت اجاويد. في هذه الفترة ألقي القبض على خلوق كرجي احد قادة المافيا التركية. ويحتمل ان القاء القبض عليه جاء نتيجة صراع بين أجنحة المافيا المحلية. وسربت وسائل الاعلام التركية المتصارعة الكثير من المعلومات عن التعاون بين منظمة خلوق كرجي، واجهزة الجمهورية التركية المتنوعة. واعترف خلوق كرجي ببعض اعماله وعدد أهمها: 1- حادثة صوصورلك في 3/11/1996. 2- حادثة القناة الفضائية HBB في 15/12/1996. 3- خدمة الدولة في قضية المهاجرين المسلمين من بلغاريا سنة 1991. 4- قيام كرجي وعبدالله جاطلي باشعال حريق في رودس وحادث قتل في أثينا سنة 1994. 5- مقاومة منظمة اصالا ASALA الارمنية وقائدها اغوب آغوبيان. 6- التعاون المستمر بين كرجي وجاطلي لخدمة الدولة التركية من سنة 1975 حتى 1994. 7- موّل كرجي الحملة الانتخابية لنائب حزب الطريق الصحيح تشيلر محمد آغار الذي ترشح سنة 1995 ونجح. كما موّل من الحزب نفسه النائب الكردي سادات بوجاق فنجح ايضاً، ووصل الاول الى وزارة الداخلية، وقاد الثاني ميلشيا مسلحة من حراس القرى. 8- اعترف كرجي بالعديد من اللقاءات مع رئيس الوزراء السابق مسعود يلماظ بحضور النائب سادات بوجاق. ولم يذكر بعد المهمات التي نفذت لمصالحه. هذا غيض من فيض من الاعمال المشتركة بين المافيا التركية ووزراء الدولة ونوابها. فمن هو خلوق كرجي وما هي سيرته الذاتية؟ وُلد خلوق كِرْجي في ولاية أرض روم في شرق تركيا سنة 1958، وبعدما انهى دراسته التحق بمعهد المعلمين في العاصمة انقرة، لكنه ترك الدراسة قبل التخرّج. وأثناء الدراسة أُعجب بالفكر القومي التركي المتطرف، وأدهشته افكار الزعيم القومي التركي الراحل آلب ارسلان توركش زعيم حزب حركة الملة MHP، فالتحق بمنظمته التي كانت تسمى منظمة الذئاب الرمادية، ولازم خلوق كرجي صديقه الحميم عبدالله جاطلي. ولعب الاثنان دوراً رئيسياً في تصفية مقاتلي حركة أصالا "A.S.A.L.A" الأرمنية الارهابية. ولما ازدهر العنف، والعنف المضاد في تركيا قبل انقلاب ايلول سبتمبر سنة 1980 لعب عبدالله جاطلي وخلوق كرجي دورهما اساساً في تصفية العناصر اليسارية والماركسية في تركيا. ساهم خلوق كرجي في مجزرة 8/10/1978 التي قادها عبدالله جاطلي، وأسفرت عن مقتل سبعة عناصر طلابية يسارية من حزب العمال التركي T.I.P وتمت المجزرة في حي بغجلي إيفلر. وتخلل القتل عمليات تعذيب، ونظرت محكمة انقرة في حيثيات المجزرة وحكمت على خلوق كرجي بالاعدام سبع مرات. وصدر الحكم غيابياً في 12/4/1988. ثم خُفّف الحكم الى السجن المؤبد مع الاعمال الشاقة. اودِع خلوق كرجي السجن سنة 1980م، وتبرأ منه الجميع ظاهراً، وأصبح كرجي مادة دعائية للزعماء الساسيين آنذاك، ولا سيما رئيس الجمهورية الحالي سليمان ديميريل، ورئيس الوزراء الحالي بولنت أجاويد. استمرت الاغتيالات على الساحة التركية وشكلت مبرراً لقيام العسكر بانقلابهم على حكومة ديميريل في أيلول سنة 1980 بقيادة الجنرال كنعان ايفرين. وبعد الانقلاب بسنوات صدر عفو عن المساجين سنة 1991. وقيل شمل العفو خلوق كرجي نتيجة خطأ حسابي مضحك فخرج من السجن سنة 1992 على رغم حُكمه بالاعدام سبع مرات. بعدما خرج كرجي من السجن بخطأ مقصود في سنة 1992 تزوج في أول آب اغسطس، وكان والي ارض روم آنذاك النائب محمد آغار، وحضر عقد الزواج كشاهد في الصالون الحكومي على غير العادة. وبعد ذلك تبوأ آغار منصب وزير داخلية عن حزب "الطريق الصحيح" الذي قاده ديميريل ثم قادته وما زالت تانسو تشيلر. كان محمد آغار من معارضي الائتلاف بين حزب "الطريق الصحيح" وحزب "الرفاه" الاسلامي في الوزارة 54. واستقال آغار بعد حادثة سير صوصورلك في 3/11/1996 التي قُتل فيها زعيم المافيا عبدالله جاطلي. وجرح معه النائب الكردي سادات بوجاق من حزب تشيلر وكان يتزعم ميليشيا مسلحة من الدولة، كردية - تركية معارضة لأوجلان. وضبطت مع الجميع بطاقات شخصية وأسلحة، وأوامر تسهيل مرور من وزير الداخلية محمد آغار. بعد حادثة سير صوصورلك ومقتل زعيم المافيا صرح كرجي الذي آلت اليه الرئاسة "ان جاطلي سافر تلك السفرة بدلاً عنه". وتولدت لديه قناعة انّ مخطّط تصفيته وُضِع قيد التنفيذ. اعتقاله بينما كانت دورية امنية تفتش على الهويات في محلة قاضي كوي في اسطنبول ألقي القبض على خلوق كرجي في 25/1/1996 واستطاع الفرار من نظارة التوقيف التابعة لمديرية شعبة حفظ النظام في "غيرت تبة" في اسطنبول في 1/2/1996. وقيل ان تسهيل الفرار حصل بناء على اوامر عسكرية عليا، واختبأ في مزرعة سادات بوجاق. وظهرت شائعة تقول: ان فرار خلوق كرجي كان صفقة، اذ اخلي سبيله ليقوم باغتيال ملك المقامرين الأتراك عمر لطفي طوبال بالتنسيق مع بوليس العمليات الخاصة، وقُتل عمر لطفي طوبال في 28/7/1996. بعد حادثتي المقامر عمر لطفي طوبال، وزعيم المافيا عبدالله جاطلي، تردد اسم خلوق كرجي على ألسنة المحققين والشهود والصحافيين، وصدرت عنه ثلاثة كتب في تركيا وصار رمزاً مخيفاً، اذ ورد اسمه في محاولة اغتيال البابا من قبل المختل عقلياً محمد آغجة، وطلبته المحكمة الايطالية للتحقيق في علاقته بالموضوع. وعلى رغم ذلك لم تصدر مذكرة توقيف بحقه آنذاك. وجاءت محاولة الحصول على فدية نقدية من محمد علي يابراق صاحب محطة تلفزيون يابراق في عينتاب وذلك بعد خطفه في 25/5/1996 لمدة خمسة ايام فُتحت دعوى بحق كرجي في محكمة عينتاب، كما فتحت بحقه دعوى محكمة امن الدولة في مدينة اضنة التركية بموضوع حمل سلاح غير مرخص، والتعاون مع العصابات الخارجة على القانون. بعد ذلك وقعت حادثة محطة قناة تلفزيون HBB الفضائية التركية. واتهم كرجي بتدبير العملية من اجل الحصول على فدية مالية. شكّلت وزارة اربكان - تشيلر لجنة تحقيق في تلك الحوادث ولا سيما حادثة صوصورلك، واغتيال القمرجي طوبال، وتوصلت اللجنة الى أدلة تدين قيادات عليا عسكرية ومدنية، فتمّ تعطيل اعمال اللجنة، وفُرضت الاستقالة على الوزارة: 54 وطُويت الملفات الأمنية بناء على اوامر عُليا لتجنيب البلاد قيام انقلاب عسكري يعيد البلاد الى الوراء. وفهم السياسيون الأتراك رسالة العسكر المرعبة وتمّ تشكيل الوزارة 55 بزعامة مسعود يلماظ ونائبه بولنت اجاويد بدعم من الجنرالات والرئيس سليمان ديميريل على شرط التقيد بتعليمات مجلس الأمن القومي العسكري. وبعد ما يقرب من سنة ونصف سقطت الوزارة بسبب علاقات رئيس الوزراء يلماظ مع المافيا، كذلك تعاون المافيا مع بعض الوزراء. وتم اعتقال خلوق كرجي بعدما عاد من رومانيا بأسبوع يوم السبت 10/1/1999 في بيندك بمحلة جاويش باشي، بشارع الهلال الأحمر "قزيلاي" في اسطنبول وسيق الى السجن في بيرم باشا مع اخيه بنيامين الذي ضبط معه اثناء مداهمة المنزل. قدمت الوزارة 56 برنامجها في البرلمان يوم الجمعة 15/1/1999، ونالت الثقة يوم الأحد 17/1/1999، وفي يوم الاثنين 11/1/1999 اعلن كرجي الذي تقدر ثروته بنصف بليون دولار انه اجتمع مع رئيس الوزراء السابق مسعود يلماظ عدّة مرات بحضور رئيسه عبدالله جاطلي. ونشرت تلك الملعومات صحيفة "صباح" التركية وتناقلتها الاقنية الفضائية التركية أيضاً. الآن يقف خلوق كرجي خلف قضبان السجن في مدينة إسكي شهر، وأمامه محاكمات وتحقيقات بلغت 30 صفحة في القضايا الآتية: هروب وجناية طارق اوميت من قبضة جهاز المخابرات التركية ميت، وقضية صوصورلك، ومقتل طوبال القمرجي، وخطف صاحب قناة بايراق التلفزيونية، محاولة الاعتداء بالضرب على يلماظ، قضية الاعتداء على مساعد وزير الصحة نامق اردوغان والمشاركة في انقلاب اذربيجان، وقضايا اخرى بحثها التحقيق في 20/1/1999. وينتظر آلاف الأتراك الكشف عن المحاضر الأمنية التي فُتحت ضد مجهول، وتراوحت ما بين السرقات والخوّة والقتل، وتصفيات الحسابات بين اجنحة مافيا السياسة، ومافيا رؤوس الأموال، وغير ذلك من أنواع المافيا التي دمّرت الاقتصاد التركي، وساعدت على قمع الحريات. * زميل اكاديمي في كلية الدراسات الشرقية والافريقية، جامعة لندن.