تشهد الساحة التركية ازمة مركبة متعددة الرؤوس، وسبب ذلك هو خلل دستوري يحتاج الى الاصلاح والتطوير كي يواكب التطور التاريخي المعاصر، لتلبية ما يحتاجه سكان الجمهورية على اختلاف وتنوع مشاربها الدينية والقومية والاقليمية والطبقية. كانت الحرب العالمية الثانية اسفرت عن انتصار الحلفاء على دول المحور ورافقت الانتصار قضايا عرقية ادت الى زوال بعض الامبراطوريات العالمية، أي تفكك السلطنة الاسلامية العثمانية، وتقاسمت الدول المنتصرة التركة فوقع الوطن العربي تحت نير الاحتلال الاوروبي، وتم تحجيم تركيا، وفرض عليها نظام دستور علماني لا يراعي خصوصيات تركيا وطوائفها ومذاهبها، وأوكلت مهمة التنفيذ للعسكر. اسندت مهمة تغريب تركيا على القواعد الآتية: الدستور يحمي العسكر، العسكر يحمي الدستور، القضاء يتسلح بالدستور لحماية العسكر والحيلولة دون تنفيذ الارادة الشعبية. وهكذا خُلع السلطان عام 1923، وخلع الخليفة عام 1924، وآلت السلطة الى رئيس جمهورية دائم. وتم انشاء حزب الشعب خلق بارتسي الذي استمر يحكم البلاد طوال ايام الجنرال الأوحد، والرئيس الأوحد، والقائد الأوحد، والمفكر الأوحد، الى ان مات مصطفى كمال اتاتورك سنة 1938. وحل الجنرال عصمت انينو كزعيم اوحد مكانه. لكنه عجز عن تحقيق استمرارية الحزب الواحد فانشق عنه حزب الثقة اليساري غوفان بارتسي. ثم اسس عدنان مندريس الحزب الديموقراطي في 7 كانون الاول ديسمبر سنة 1946 وبذلك انتهت مرحلة الحزب الواحد التي استمرت 23 سنة. وجاءت مرحلة الانتقال من الحزب الواحد الى التعددية لتتجاوب مع تراجع الهيمنة البريطانية لمصلحة نمو النفوذ الاميركي. واستمرت لعبة تأسيس الاحزاب، وخوض الانتخابات، وحافظ حزب الشعب الاتاتوركي على اكثرية المقاعد حتى جرت انتخابات 14/5/1950 ففاز الحزب الديموقراطي بزعامة مندريس فحصد 404 مقاعد من اصل 482 مقعداً، وحصل حزب الشعب على 69 مقعداً، والمستقلون على 9 مقاعد، والحزب الوطني على مقعد. واسفرت الانتخابات عن سقوط رئيس الجمهورية عصمت انينو وحل محله جلال بايار الذي كلّف عدنان مندريس تشكيل الوزارة فقاد تركيا نحو الحرية والاصلاح واستعادة الهوية الوطنية. لكن العسكر اصدروا حكماً باعدامه في 15/9/1961 بعدما قاموا بانقلابهم المشؤوم. دخلت تركيا مرحلة التعددية الحزبية منذ سنة 1946، وبرز الاتجاه الاسلامي الحزبي الواضح مع نشوء حزب النظام الوطني الذي اسسه نجم الدين اربكان في كانون الثاني يناير 1970. واعقب ذلك الانقلاب العسكري سنة 1971 فعُطلت الاحزاب بأوامر عسكرية، ثم اجريت انتخابات تشرين الاول اكتوبر 1973 فحصل حزب السلامة بزعامة اربكان على 48 مقعداً في مجلس الشعب، ودخلت المجلس سبعة احزاب ولم يستطع زعيم حزب الشعب الجمهوري بولنت اجاويد تشكيل حكومة فلجأ الى الائتلاف مع حزب السلامة فاحتفظ حزب اجاويد بپ18 وزيراً واعطى حزب السلامة 7 وزراء. ودار الصراع بين الاسلاميين والعلمانيين في الشارع ومجلس الشعب والوزارة ابتداء من 25/1/1974 حتى استقال اجاويد في 18/9/1974 على اثر حرب قبرص. وبعد ذلك كُلف سليمان ديميريل بتشكيل حكومة، فشكل حكومة ائتلافية شارك فيها حزب العدالة 49 مقعداً وحزب السلامة 48 مقعداً وحزب حركة الملة القومي بزعامة ألب ارسلان توركش 3 مقاعد، ونالت الحكومة الثقة بغالبية 200 صوت في 25/12/1974 ثم سقط الائتلاف واجريت الانتخابات في 1/6/1977 فألف بولنت اجاويد حكومة لم تنل ثقة البرلمان، فكلف ديميريل بتشكيل الحكومة فشكلها ائتلافية من حزب العدالة 189 مقعداً، وحزب السلامة 24 مقعداً، وحزب حركة الملة 16 مقعداً ونالت الثقة البرلمانية في 1/8/1977. وقام العسكر بانقلابهم في 12/9/1980 وعطلوا البرلمان وحلت الاحزاب وآلت رئاسة الجمهورية الى قائد الانقلاب كنعان افرين. بعد ذلك برز حزب الوطن الأم بزعامة الرئيس تورغوت اوزال الذي ترأس تركيا بعد الجنرال أفرين الى ان توفي فآلت زعامة حزب الوطن الأم الى مسعود يلماظ فتراجع الحزب الى المرتبة الثالثة. شكل يلماظ حكومة سقطت برلمانياً قبل اكمال مئة يوم، فتم الائتلاف بين الرفاه والطريق الصحيح وشكلت الوزارة برئاسة اربكان ونائبته طانسو تشيلر وقضت الحكومة سنة وخمسة اشهر. حينذاك وقع حادث سير قتل فيه احد زعماء المافيا التركية وجرح معه النائب سادات بوجاق، وتبين ان المافيا زُوّدت ببطاقات وأوراق موقعة من قبل وزير الداخلية آنذاك محمد آغار - من حزب تشيلر - فاستقال الوزير وشكلت لجنة تحقيق برلمانية قانونية برئاسة نائب من حزب الرفاه فاكتشفت اللجنة تورط جهات عسكرية عليا فصدرت الاوامر بطي الملف واقيلت الحكومة وتعهد يلماظ ان يترأس وزارة تحت شروط العسكر فشكل حكومة ائتلافية من حزبه وحزب اجاويد، وحزب حسام الدين جندروك، وتلقى دعم حزب دنيز بايكال بالتصويت البرلماني. وتعهد يلماظ لبايكال بفتح ملف المافيا كما تعهد للعسكر بطي الملف. ومرت سنة ونصف تقريباً وبايكال يطالب يلماظ بفتح الملف. وبدلاً من فتحه تورط يلماظ في علاقات مع زعماء المافيا والكسب غير المشروع. ازاء هذا الوضع اصبح بايكال امام خيارين اما ان يستمر في تأييد حكومة يلماظ ويخسر قواعده الحزبية او يسحب الثقة ويربح قواعد حزبه فصوت ضد الحكومة. يبلغ عدد الاحزاب في تركيا حالياً 35 حزباً ويسمح القانون بمشاركة 18 حزباً في الانتخابات حسبما قررت اللجنة القانونية في 17/11/1998. وهذا يعني حرمان 17 حزباً من حق الترشيح في اللوائح. والاحزاب التي ستشارك في الانتخابات المقبلة هي: حزب الوطن الأم، حزب الوحدة الكبرى، حزب الشعب الجمهوري، الحزب الديموقراطي، حزب الديموقراطية والصلح، حزب اليسار الديموقراطي، حزب الطريق الصحيح، حزب الفضيلة، حزب تركيا الديموقراطية، حزب الشعب الديموقراطي، حزب الديموقراطية الشعبية، حزب العمال، الحزب الليبيرالي الديموقراطي، حزب الملّة، حزب حركة الملّة، حزب الحرية والتكافل، حزب الاقتدار الاجتماعي، حزب النهضة الحديثة. ويقضي قانون الانتخابات ان تنال لائحة الحزب المرشح ما نسبته 10 في المئة من مجموع الاصوات في عموم تركيا حتى يحق للناجحين من منتسبي الحزب دخول البرلمان. وعندما ينال الحزب اقل من عشرة في المئة فان مرشحه يخسر مقعده للمرشح الذي يليه من الاحزاب الاخرى التي تنال ما فوق 10 في المئة من عموم اصوات تركيا. ان تركيا على ابواب تشكيل حكومة تتولى تسيير امور البلاد ريثما تتم الانتخابات على امل انتاج برلمان اكثر انسجاماً من البرلمان الحالي. ويقتضي العرف التركي ان يتشاور الرئيس التركي مع زعماء الاحزاب التي لها ممثلون في البرلمان ثم يكلف اقواها بتشكيل حكومة، وفي حال عجز زعماء الاحزاب عن تشكيل حكومة خلال 45 يوماً يحق لرئيس الجمهورية تكليف شخص مستقل لتشكيل وزارة مستقلة. وفي هذه الحال يبقى المستقلون تحت جناح رئيس الجمهورية وقادة الجيش مما يفرز مواجهات حامية بين الوزارة والبرلمان. طرح اجاويد نفسه ليرأس الوزارة بالتعاون مع يلماظ وتشيلر، وكلف الرئيس التركي اجاويد بالامر. الا ان تشيلر ابدت استعدادها على شرط ان تتولى هي رئاسة الوزارة. ويحاول رئيس حزب الفضيلة رجائي قطان اعادة الائتلاف مع حزب الطريق الصحيح وبعض الاحزاب غير العلمانية المتطرفة. لكنه بحاجة الى الائتلاف للخروج نسبياً من تحت الكابوس العسكري. وهذا ما عبّر عنه رئيس حزب الفضيلة الذي طالب الاحزاب ببذل التضحيات والتعاون للخروج من الازمة من دون انقلابات. النتيجة ان تركيا امام نوعين من الوزارة والحصيلة واحدة هي وزارة اعداد للانتخابات خلال الشهور المقبلة. وقد تعيش البلاد فترة فراغ دستوري ما سيسارع الى تقديم موعد الانتخابات لانقاذ البلاد من ذيول ازمة ديون حكومة يلماظ التي استدانت الكثير وارهقت الخزينة بمستحقات في بداية العام 1999. وبذلك يكون يلماظ صرف ما وفره اربكان، كما انه ارهق من سيأتي بعده. يبقى العسكر سادة الموقف السياسي في تركيا وتستمر لعبة القط العسكري والفأر البرلماني ويدفع الناس ثمن الصراع من أمنها ورفاه عيشها. وأي تمرد شعبي سيُرَد عليه بانقلاب عسكري يتولى نصب المزيد من التماثيل للزعيم الاوحد في ظل التعددية الحزبية والنظام العالمي الجديد. * زميل في كلية الدراسات الشرقية والافريقية، جامعة لندن سواس