تثير مقدمة كتاب الروائي الناقد نبيل سليمان "بمثابة البيان الروائي" سؤالاً طالما أثارته، في سنوات العقد الأخير من القرن العشرين، كتابات عربية تتطلع بفضول ودهشة نحو القرن المقبل - الأول بعد العشرين، وما ينبغي أن يكون عليه حال "كل شيء" في القرن هذا، وكيف يمكن لنا - نحن العرب - أن نجعل قدوم هذا الضيف مناسبة لتحولات على غير صعيد، وفي كل مجال. فنبيل سليمان يتهيأ كي لا تباغته "احتفالية 31/12/1999 في غفلة حياة أو موت، أتهيأ لها مبكراً، بهذا الكتاب"، مع أن "الأمر لم يكن كذلك في بدايته. لقد كان - ببساطة - لحظة تأمل أخذت تلح منذ فرغت من "مدارات الشرق" وهي رواية في أربعة مجلدات أنهى المؤلف اصدار الجزء الأخير منها عام 1993، وتتجاوز الألفين وأربعمائة صفحة ثم أطبقت اثر "أطياف العرش" أحدث روايات المؤلف، صدرت أخيراً عن دار شرقيات في القاهرة. السؤال هو عما يدفع كاتباً الى ربط كتابه - نتاجه بقدوم قرن جديد أو سنة جديدة؟ الأمر - كما أعتقد - يستحق أن نتوقف أمامه، لأنه ينقل اهتمام المبدع من فضاء الزمن المطلق، الى اطار الأيام والسنوات التي تمر يومياً، مع ان الطبيعي في حال المبدع أنه يشعر بمرور الزمن في صورة أكثر حميمية من التوقف عند الاحتفاليات التي يتوقف أمامها - عادة - الفئات الأقل احساساً بالزمن. والأغرب في أمر نبيل سليمان ان كتابه هذا لم يُكتب بروحية "الاحتفال" بمرور قرن نودعه، أو بقدوم قرن نستقبله، فهو يثير القضايا والأسئلة الروائية، عبر تأمل تجارب عربية حيناً، وتأمل التجربة الروائية الذاتية معظم الأحيان، محاولاً أن "يتلمّس منعطفاً جديداً" لهذه الرواية، ويلقي بكتابه - تأملاته - في فضاء الاحتفالية "مشدداً على ألا يلتبس بالتبشير أو سواه من سوءات البيانات العتيدة في الثقافة أو السياسة أو... إذ لم أسعَ قط الا الى النقدي عبر المساءلة والحوار، وأحياناً عبر البوح والاقتراح...". يضم الكتاب قسمين، الأول منهما يضم الدراسات والشهادات التي كتبها المؤلف - في مناسبات/ ندوات ومؤتمرات محلية وعربية - بين عامي 1996 - 1997، والثاني خلال عام 1995. يتقدم نبيل سليمان بكتابه هذا بوصفه روائياً "عاش الحكاية منذ بداية السبعينات"، وليس ناقداً، هو الذي حاول في النقد كما في الرواية. وبهذا التقدم لا يلغي سليمان الروائي سليمان الناقد، بل يفيد من الرواية والنقد في صوغ بيانه الروائي، متناولاً "الحداثة الروائية: ما كان وما قد..." بعناية خاصة لكن ليس في معزل عن الحداثة في مستوياتها الأخرى، مسترشداً - ابتداءاً بمقولة ياسين الحافظ "كيف أمكن أن نجد بموازاة أو مقابل اقتصاد كالاقتصاد الفيتنامي، أكثر تأخراً أو أشد فقراً من الاقتصاد العربي، ثقافة وإيديولوجيا وسياسة على درجة ملحوظة من الحداثة، فضلاً عن ثوريتها وتقدميتها؟"، وبأقوال منظّري الحداثة العربية، في سورية تحديداً، كي يخلص الى أن أوهاماً كثيرة نبتت في حقل الحداثة الروائية التي كان من علاماتها: الاشتغال على الفخامة والصخب والذاتية/ النرجسية، وعلى الشغف بالراهن واختزاله، وعلى توظيف التقنيات وتسارع البحث الجمالي، وذلك كله في غياب - أو تعثر - المفهوم، سواء على أيدي الروائيين أم النقاد... وحتى على مستوى "الحداثة الماركسية"، لكن ليس دون انجازات، مثل تهشيم العمود السردي - في موازاة العمود الشعري، والإفادة من السينما ومن الموروث السردي الحكائي الشفوي والمكان/الفضاء، وبعد تناول مسار "الحداثة" في الرواية العربية عموماً، وفي تجربته هو الروائية خصوصاً، يلفت الانتباه في ال"خاتمة" الى ما يسميه "ما بعد الحداثة في الرواية العربية"، منبهاً الى ضرورة أن لا يلتبس ذلك ب"ما بعد الحداثة" لدى الآخر، ويشير في هذا الصدد الى ثلاثة نصوص لكتّاب جدد "موجز تاريخ الباشا الصغير لفيصل خرتش"، و"اختبار الحواس" لعلي عبدالله سعيد، و"ذلك الربيع" لأسامة غنيم - صدرت جميعاً في سورية بين 1990-1994، ليقول متسائلاً ان ما فعله هؤلاء الروائيون يؤشر الى منعطف جديد، الى ما بعد الحداثة الروائية العربية. وكما هو متوقع من روائي يدلي بشهادته الروائية، معبراً عن تجربة شخصية ذات فرادة وتميز، يقدم المؤلف شهادته "لأجل منعطف روائي عربي جديد في الدورة الثالثة لملتقى الروائيين العرب - قابس - أيار مايو 1997 بطرح أسئلة حول طبيعة المنعطف عند نهاية القرن، بعد المنعطفات التي مرت بها منذ بداية القرن، ويقترح حوارات حول محاور منها نقد النمطي التقليدي"، و"نقد النمطي الحداثي". ولعل الأبرز في "البيان" الذي يقترحه هو ما جاء في عنوان فرعي "روائية الرواية"، حيث يرى ضرورة "تخليص الشعرية من صداها العربي السائد الذي يحيل على الشعر. فمدار البحث هنا هو الصورة الروائية اللغة الروائية، وصولاً الى البلاغة الروائية، من دون القياس على مقياس الشعر، وبالتشديد على الطبيعة الروائية اللامتناهية، وعلى التلاقح الروائي مع الأجناس الأدبية والفنون وشتى المعارف والعلوم"... ففي هذه الفطرة من الرغبة المشروعة في اظهار استقلالية الرواية وعالمها الصورة، اللغة، والبلاغة بقدر ما فيها من الاعتراف ب"التلاقح" مع الأجناس... وهذا التلاقح، أو التداخل حتى بين الأجناس، لا يلغي الحدود بين الأجناس، بل يسمح بتداخلها. وربما كان من الصعب القول ب"صورة روائية" دون الاحالة الى "صورة شعرية" لأن هذه الأخيرة هي المصدر، كما أن وجود الصورة في الرواية يمكن أن "يطعِّمها" بعنصر من خارج عالمها - مثلما يمكن للرواية أن تفيد من المسرح استعارة الحوار ومن السينما المشهدية على أن تجري عملية الاستعارة ضمن امكانية العمل الروائي على الهضم. وهذا - أو قريباً منه - ما يقوله صاحب "البيان" هنا، في سياق سرد انجازات الرواية الحداثية العربية. وكان عليه، بناء على ما جاء في الفقرة السالفة أن يعلن وجود "الحوار الروائي" و"المشهد الروائي" و"النغمة الروائية" حين يتحدث عن علاقة الرواية بالموسيقى... خصوصاً وهو يعرف ولا نقول يعترف مع ماريانو باكيروكويانس أن "الرواية كالموسيقى، انفتاح مطلق" وان في الإمكان، بل من الضرورة "الافادة من بناء الرواية من بناء القطعة الموسيقية أو اللوحة أو القصيدة أو السيناريو والقاعدة في ذلك هي كما نص عليها موليير: انني آخذ ما يلزمني هنا حيث أجده..." الخ. بل انه يكرر من وراء ميشيل بوتور ان على الروائيين "أن يكونوا مطلعين على بعض المفاهيم الموسيقية..."، ويقارن بين السلّم الموسيقي وبين سلّم روائي، الأول يكتب الصوت، فيما يكتب الثاني "الحدث والشعور والوصف والرسالة"، ويتساءل عن كيفية نسج علاقة بين السُلَّمين و"كيف يمكن أن أجعل عتبة النص ذلك المفتاح الموسيقي؟"، ويقدم الإجابة من اشتغاله في رواياته وغيره من الروائيين السوريين، لافتاً الى ان "تجليات العلاقة بين الرواية والموسيقى قد جاءت غالباً في الايقاع" ولكنه يعدّد ثلاثاً من العلامات الموسيقية حضرت في روايته "مدارات الشرق" وهي: البوليفونية، الهارموني، والايقاع. ثم يضيف الاشتغال على الموسيقى الشعبية "كحصيلة للممارسة التلقائية للغناء والعزف والرقص، مما يؤديه الفلاحون الأمّيون وأبناء الطبقات المدينية الدنيا". وربما يستطيع القارىء أن يأخذ على هذا الربط أنه يذهب، أحياناً، الى سطح العلاقة، لا الى عمقها. فحين يعدد لنا المؤلف أسماء الموسيقيين الذين سمع أعمالهم، أو الأغاني الشعبية التي استخدمها في رواياته، فهو يتناول الجزء الخارجي، لا الداخلي - المتعلق بنية الرواية - من العلاقة. وكان يكفي ما أشار اليه من عناصر الموسيقى في البنية الروائية، وليس في جسد الرواية. قضايا واشكاليات في القسم الثاني من "البيان"، يواصل نبيل سليمان طرح قضايا وإشكاليات الرواية عموماً، ومن خلال نتاجه الروائي خصوصاً، فيحدد الكثير من الملامح والسمات والعناصر، ويثير أسئلة ويعلن اجابات. ففي عنوان "الرواية والذات" يعود ليثير - وغالباً عبر تجربته، أو من خلال بعض التنظيرات - سؤال العلاقة بين الرواية والحياة الشخصية للكاتب معلناً انه قد تعلم من لوكاش "ألا أخلط السِّيْريَّ بالتاريخي... إذ من يكون مؤدى ذلك - كما برهن تاريخ الرواية - لا رواية ولا تاريخاً ولا سيرة" والمّح من الحياة الشخصية، حتى لو ارتبط اسم الشخصية الروائية باسم المؤلف، لا يعني الوقوف عند حدود السيرة الذاتية أو التاريخ الشخصي، فمعظم شخصيات غالب هلسا تحمل اسمه، ومع ذلك فهو يكتب الرواية لا السيرة. وحتى استخدام ضمير المتكلم يمكن توظيفة فنياً وابعاده عن دائرة السيرة الى دائرة الرواية. من جانب آخر يثير مؤلف البيان سؤال "السفر" ودوره في الرواية، سواء أكان سفر المؤلف، أم سفر الشخصيات الروائية، ودوره في تنمية الشخصية وتنمية الفعل الروائي. ويؤكد على الكتابة الفسيفسائية في كتابة الفسيفساء، سواء القومية أو الدينية أو الاجتماعية والثقافية، ودورها في اثراء وتنويع الكتابة والأجواء الروائية. كما يؤكد على اشتغال رواياته وانشغالها - في المقام الأول - بما يسميه "بطولة العاميّ" - أي المهمش، مستذكراً مقولة كونديرا عن كون "الرواية مقبرة الفرص الضائعة". أما الحرب والسلام، فهو عاش في أوحالهما، في الخضم، بدءاً من حرب 1956 التي عاشها طفلاً ثم هزيمة 1967 و1973 و1982 و1991... الخ. ويكشف عن تفاصيل مما تناوله في رواياته "جرماني" و"المسلة" و"قيس يبكي" ترجمت الى الاسبانية بعنوان "لا تبكِ يا قيس"، أما في "حوار الأمكنة"، فيبدو المؤلف مشدوداً الى ما نقله هلسا من باشلار حول "جماليات المكان"، ومحليّة الأدب التي تنطلق الى العالمية. ويعرض سليمان مساحات من الأمكنة التي شكلت وعيه ثم عالمه الروائي، من الجبل الى البحر والنهر، ومن البادية والريف الى المدن والبيوت، وصولاً الى "المكان الصغير الكبير" كما يطلق على الجسد. وأبرز ما في مداخلته هذه اشارته الى الفرق بين المكان والفضاء، ثم اشارته الى انتقاله في عمله الروائي من "تحديد" المكان، الى "تشكيل" المكان - أي اعادة انتاجه. هذه هي بعض ملامح "البيان الروائي" الذي، في استعادته لمسار التجربة المنجزة، يظل يتطلع الى ما يسميه "المنعطف الجديد للرواية العربية"، والذي يصادف الانتقال من القرن العشرين الى الذي يليه، مشكّلاً هاجساً من هواجس البيان، بوصفه يحلم بملاقاة المستقبل بمشروع روائي فكري يكون علامة من علامات تحوّل الرواية. * صدر الكتاب عن دار الحوار للنشر والتوزيع اللاذقية 1998.