في واحد من مقالاته الظريفة، تحدث الكاتب المصري الراحل يحىى حقي بشيء من الاستفاضة عن الصراع الذي كان دائراً خلال العشرية الثانية من هذا القرن، بين ممثلي المصالح الاستعمارية البريطانية في منطقة الشرق الأوسط وكانت القاهرة مقراً لهم، وبين زملائهم ممثلي المصالح الاستعمارية البريطانية في شبه القارة الهندية، الذين كانت بومباي في الهند مركزاً لهم. وكان الجزء الأكبر من ذلك الصراع يدور حول الموقف الذي يتعين على سلطات لندن أن تقفه من العرب. ففي ذلك الحين كانت التوقعات تشير الى أن الامبراطورية العثمانية في طريقها الى الزوال، وأن العرب سوف يجدون أنفسهم أمام لحظة اختيار، وكذلك سيكون حال الانكليز الذين كانوا يرون أن من حقهم أن يرثوا الامبراطورية العثمانية في هذه المنطقة من العالم، أولاً بسبب موقعها الاستراتيجي وثانياً بسبب ما فيها من ثروات. وكانت تتقاسم التطلعات البريطانية مدرستان: احداهما تقول أنه من البديهي أن يحصل العرب على حكم ذاتي، يحقق لهم تطلعاتهم النهضوية الوحدوية، وذلك تحت رعاية بريطانيا وبالتحالف معها، مما يؤمن المصالح الاستراتيجية والاقتصادية الانكليزية في المنطقة، والمدرسة الثانية ترى أنه لا يمكن ضمان الوجود الانكليزي هنا إلا بالإحتلال المباشر، لذا لا يتعين على لندن أن تعد العرب بأي شيء. وكان مكتب بومباي يرى هذا الرأي، بينما يرى مكتب القاهرة الرأي المعاكس. وكان لورانس، العامل بنشاط في المنطقة محرضاً العرب ضد الأتراك، من أنصار مكتب القاهرة. لأنه كان يعرف العرب عن قرب ويعتقد أنه لم يعد من الجائز خداعهم - أو هذا ما يقوله هو على الأقل - من هنا كان لورانس يرى أنه يجب أن تعهد لندن لمكتب القاهرة، بمسألة الوضع العربي وإلا فإن الأمور سوف تصل الى الأسوأ. أما مكتب الهند فكان يشتد به القلق حين يدور الحديث البريطاني الرسمي حول انشاء دولة عربيّة كبرى. وكانت حجة مكتب الهند في هذا، هو أن شبه القارة الهندية تضم أكثر من 75 مليون مسلم، وأن اي تحرك استقلالي في الشرق الأوسط سيكون معدياً مثيراً للقلق. أما لندن فكانت وسط هذا الوضع كله تراقب، بقلق، ما تصل اليه تطورات الأمور في المنطقة العربية نفسها. وكانت أقل اشارة تبدر عن الشريف حسين الصورة تدفع لندن الى تقليب المواقف والمواقع. فلندن كانت ترى أن الشريف حسين يعبّر حقاً عن الآمال العربية في ذلك الحين وأن قطاعات عريضة من الرأي العام العربي مستعدة للحاق به أينما اتجه. والشريف حسين، كان في ذلك الحين لا يزال يلعب لعبة بالغة الغموض والحذر. ففي ذلك الحين، وتحديداً في ربيع العام 1915، لم تكن الامبراطورية العثمانية انهزمت بعد في الحرب العالمية الأولى. كانت الحرب لا تزال سجالاً، على رغم بعض الخسائر المتفرقة، لهذا لم يكن من شأن الشريف حسين أن يغامر، خصوصاً أنه كان يرى بكل وضوح أن الموقف البريطاني نفسه غير واضح. ثم كانت المقاومة العنيفة التي ابداها الأتراك بقيادة مصطفى كمال في غاليبولي، حيث تمكنت حفنة من الجنود الأتراك، يوم الخامس والعشرين من نيسان ابريل من ذلك العام، من اجبار ألوف الجنود الانكليز والاستراليين والنيوزيلنديين، على الانسحاب والتراجع، ما أعطى انفاساً لكافة القوى المؤيدة للأتراك في المنطقة، وأوقف الشريف حسين عن اندفاعته - المدعومة من لورانس - نحو الانكليز. وهكذا راح القلق الانكليزي يشتد، وراحت الضغوط تتصاعد، وبلغت تلك الضغوط ذروتها يوم الثالث والعشرين من حزيران من ذلك العام، حين قامت القوات الانكليزية، بأوسع حملة نفسية استهدفت اجتذاب الرأي العام العربي اليها. ففي ذلك اليوم، ولرغبة في دفع الشريف حسين الى اتخاذ موقف يحدد فيه ما إذا كان العرب سيقفون في الحرب ضد الانكليز أو معهم أو على الحياد، قامت عشرات الطائرات التابعة لسلاح الجو البريطاني بالتحليق فوق العديد من مناطق الجزيرة العربية، ملقية عشرات ألوف المناشير التي حملت ترجمة حرفية لتصريح مهم أدلى به وزير الخارجية البريطانية السير ادوارد غراي، وفيه يشير بكل وضوح الى أن حكومة صاحب الجلالة، ملك انكلترا وامبراطور الهند، تتعهد بأن تكون الجزيرة العربية والأماكن الإسلامية المقدسة، عند انتهاء الحرب، بنوداً في شروط السلام. ويؤكد التصريح قائلاً "اننا لن نضم أي شبر من أراضي الجزيرة العربية، كما لن نسمح لأية قوة من قوى العالم بأن تفعل ذلك. وبهذا سوف نضمن لكم استقلالكم عن أية حكومة أجنبية". كان الكلام واضحاً وصريحاً وفعل فعله في منطقة الشرق الأوسط، ولا سيما لدى الشريف حسين الذي بدأ يوضح موقفه اكثر وأكثر. أما في الهند فإن نائب الملك لورد تشارلز هاردنغ، اسرع ما أن عرف بنص الرسالة الانكليزية الى العرب، الى الاحتجاج العنيف أمام سلطات لندن مبدياً قلقه من موقف المسلمين الهنود