انذار القمة الافريقية لمجلس الأمن بأن خضوعه للمواقف الأميركية والبريطانية في شأن أزمة "لوكربي" سيضطر دول القارة الى وقف الامتثال لنظام العقوبات المفروضة على ليبيا، قرار جريء وحكيم. ما يميز اهميته هو تحديد المواعيد والاجراءات في قرار أصدره رؤساء دول وحكومات منظمة الوحدة الافريقية التي تضم 52 دولة. وما اثاره القرار من ردود فعل صدرت عن واشنطن ولندن زاد من عزم الأفارقة على التمسك به. فإذا اثبت الأفارقة التماسك في تنفيذ قرارهم بجدية، توجد فرصة قيّمة لديناميكية مميزة ليس في ملف أزمة لوكربي فحسب، وانما على صعيد العلاقات بين المنظمات الاقليمية والمنظمة الدولية من جهة، وبكل من الولاياتالمتحدةوبريطانيا من جهة أخرى. فقرار القمة الافريقية اطلق زوبعة وبعث قوى محركة ليس مستبعداً ان تتمثل اما بمواجهة محرجة أو بطرح جديد يحل عقدة محاكمة المواطنين الليبيين المشتبه بتورطهما في تفجير طائرة "بان أميركان" فوق لوكربي في اسكتلندا. مواقف الحكومة الليبية المستندة الى القانون الدولي مكنت الدول الافريقية من التضامن مع طرابلس والانحياز الى مواقفها. لكن ما ساهم في تعزيز الجرأة الافريقية على مواجهة الولاياتالمتحدةوبريطانيا يعود الى نمط الغطرسة البريطانية - الأميركية وتجاهل الدولتين الكبريين أي مقترحات بديلة بتحقير للمتقدمين بها، أفارقة كانوا أم عرباً، في توصيات للوزراء أو في مخاطبة الرؤساء مجلس الأمن مباشرة. وما زاد الاستياء ان المسؤولين البريطانيين والأميركيين افترضوا ان مواقف منظمة الوحدة الافريقية وجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الاسلامي وحركة عدم الانحياز ليست سوى للاستهلاك المحلي والاقليمي، وان الفاعل الأساسي هو مجلس الأمن حيث للدولتين سلاح "الفيتو" وسلاح الوزن الثقيل لفرض العقوبات. اضافة الى هذا، اصدرت محكمة العدل الدولية موقفاً لمصلحة الموقف الليبي لاقى استهتاراً وتحجيماً من الأوساط الأميركية والبريطانية الرسمية، فتكثفت معطيات ودعائم طرح النزاع بصورة مختلفة، كما حدث في قمة واغادوغو، في بوركينا فاسو، الاسبوع الماضي. فالقمة قررت "عدم الاستمرار في الامتثال للعقوبات المنصوص عليها في قرار مجلس الأمن 748 1992 و883 1993 بحلول شهر أيلول سبتمبر 1998، في حال عدم استجابة الولاياتالمتحدة والمملكة المتحدة لمقترح اجراء محاكمة للمشتبه فيهما في بلد ثالث محايد بحلول موعد مراجعة العقوبات في تموز يوليو 1998". وأوضح القرار ان ذلك يأتي "تأسيساً على حكم محكمة العدل الدولية"، وان عدم استجابة الدولتين للمقترح يشكل "مخالفة" للقرارين اللذين فرضا العقوبات ووضعا الشروط المعنية بالمحاكمة. وزاد قرار القمة الافريقية ان موقف الرؤساء يأتي أيضاً نتيجة ما "سببته العقوبات من أضرار بشرية واقتصادية جسيمة بالشعب الليبي وبالكثير من الشعوب الافريقية". ودعا القرار مجلس الأمن الى اتخاذ قرار برفع العقوبات المفروضة على ليبيا الى ان يصدر حكم محكمة العدل الدولية. القرار ادهش الحكومتين البريطانية والأميركية واحرجهما في آن. لذلك جاءت ردود الفعل هجومية ودفاعية معاً، مع ترك نافذة شبه منفتحة على بدائل. فالولاياتالمتحدةوبريطانيا أصرتا دائماً على محاكمة المواطنين الليبيين المشتبه فيهما بتفجير الطائرة إما أمام العدالة الأميركية أو الاسكتلندية، لا غير. منظمة الوحدة الافريقية وجامعة الدول العربية وحركة عدم الانحياز دعمت ليبيا في تقدمها بثلاثة بدائل هي: اولاً، اجراء المحاكمة في محكمة لاهاي الدولية بناء على احكام القانون الاسكتلندي. ثانياً، انشاء محكمة خاصة على غرار محكمة مجرمي الحرب على أساس ان تدمير الطائرات المدنية يدخل في خانة الجرائم ضد الانسانية. وثالثاً، اجراء المحكمة في بلد ثالث محايد. الاطروحات التي تتردد اليوم في اطار ايجاد مخرج كحل وسط بين الموقفين تركز على امكان الاتفاق على مكان للمحاكمة يتم التباحث فيه بين الأطراف المعنية، وان بصورة غير مباشرة. أحد الحلول المنطقية والقانونية قد يكون بمبادرة احدى الدول التي ذهب رعاياها ضحية تفجير الطائرة بطلب اجراء المحاكمة في أراضيها. فالأكثرية الساحقة من الضحايا ال 270 كانت أميركية وبريطانية، لكن بين الضحايا جنسيات أخرى، فرنسية ويابانية وهندية والمانية وايطالية وارجنتينية وايرلندية وسويدية وكندية. فإذا أخذت السويد أو كندا مثلاً مبادرة طلب اجراء المحاكمة بمجب قوانينها في أراضيها، قد يكون ذلك هو المخرج الذي يؤدي الى الحل الوسط المريح للجميع. على الأقل، ان مجرد طرح مثل هذا الطلب سيفرض على المعنيين التفكير جدياً فيه وسيؤدي الى وضع جديد لا يمكن تجاهله كما لا يمكن الاعتراض عليه بسهولة. ويجدر الذكر ان مواطناً من جنوب افريقيا "بين الضحايا"، قد يحمل الرئيس نيلسون مانديلا الى المبادرة بطلب اجراء المحاكمة في جنوب افريقيا. مانديلا لا يخفي انحيازه لليبيا في هذا الملف ليس انطلاقاً من اعترافه بدعم ليبيا للنضال ضد نظام الابارتايد في جنوب افريقيا، وانما نتيجة اقتناعه باستحالة ان تكون بريطانيا أو الولاياتالمتحدة "المدعي والنائب العام والقاضي" في آن. مانديلا سيترأس قمة عدم الانحياز في جنوب افريقيا أواخر آب اغسطس المقبل، ووزراء خارجية الدول غير المنحازة في اجتماعهم الأخير في كولومبيا أيار مايو الماضي رفعوا توصية الى القمة المقبلة "باتخاذ قرار بعدم الاستمرار في الامتثال لقرارات العقوبات" ضد ليبيا "في حال عدم استجابة الدول الغربية المعنية" للمقترحات البديلة، والكلام عن 140 دولة على الأقل تنتمي لحركة عدم الانحياز. سيقوم مجلس الأمن بالمراجعة الدورية للعقوبات مطلع تموز يوليو المقبل، وسيصادف ترأس روسيا للمجلس لذلك الشهر، ما يضيف عنصراً آخر الى قائمة ما يسبب قلقاً وانزعاجاً للديبلوماسية الأميركية - البريطانية. وفوق ذلك، تتحرك ليبيا نحو طرح الموضوع في دورة استثنائية للجمعية العامة، إذا فشل المجلس بتعليق العقوبات، بهدف خلق اشكالية دستورية داخل المنظمة الدولية ليس فقط بين مجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية وانما ايضاً بين مجلس الأمن والجمعية العامة. درجة السخط والاستياء في الأوساط الأميركية والبريطانية عالية، لكن استراتيجية التصدي لما طرأ على ملف لوكربي مشوشة ومرتبكة. فردود الفعل الرسمية تميزت بنبرة الاهانة للقرار الافريقي والتهديد المبطن بانعكاسه على قضايا تهم القارة على نسق الاشارة الى مصير العقوبات على يونيتا في أنغولا والتذكير بأن العقوبات فُرضت على روديسيا السابقة وعلى جنوب افريقيا اثناء حكم الابارتايد. الناطق باسم الخارجية الأميركية جيمس روبن وصف القرار بأنه "قصير النظر ويشكل اعتداء مباشراً على صلاحية مجلس الأمن وقراراته الملزمة بموجب الفصل السابع من الميثاق". وطالب القادة الأفارقة بالعودة عن "هذا القرار غير المسؤول" الذي "لن يتمكن في أي حال من التأثير" في التزامات اعضاء منظمة الوحدة الافريقية نحو المنظمة الدولية، وقال: "اننا نطالب منظمة الوحدة الافريقية ألا تتراجع عن هذا القرار الذي يعوزه حسن المسؤولية". القادة الأفارقة لم يعجبهم ان يخاطبهم المسؤولون الأميركيون والبريطانيون بهذه اللهجة التي سكبت الاهانة على جرح التحقير، فازداد العزم على مقاومة التسلط. هذا لا يعني بالضرورة ان صفوف الأفارقة ستبقى متماسكة، وان الضغوط الثنائية لن تؤدي الى التفرقة والإضعاف المرجوين، اميركياً وبريطانياً، في الصفوف الافريقية. انما أيضاً، لا توجد مؤشرات تفيد بأي تراجع من طرف الأفارقة عن قرار القمة الجريء. ما تحتاجه منظمة الوحدة الافريقية في هذا المنعطف ان تتخذ جامعة الدول العربية موقفاً مماثلاً وابلاغه رسمياً الى الأممالمتحدة. فنصف أعضاء الجامعة العربية هم أعضاء في منظمة الوحدة الافريقية، والجامعة أخذت مبادرات مشتركة مع المنظمة الافريقية في شأن الملف الليبي. وقد تستفيد جامعة الدول العربية بقدر استفادة منظمة الوحدة الافريقية إذا اثبتت أنها أيضاً تستحق القدر نفسه من الاحترام الذي يوليه مجلس الأمن لقرارات المنظمات الاقليمية الأوروبية. كذلك، قد تستفيد منظمة الوحدة الافريقية من حشد ديبلوماسي وسياسي مع الأمين العام للأمم المتحدة، كوفي أنان، وهو من أبناء افريقيا، كي يتدخل بصورة ما إبرازاً لاحترامه لقرار أصدرته قمة افريقية بالاجماع. فهذا ليس رأياً لحفنة دول مهمشة وانما هو موقف ل 52 دولة في الأممالمتحدة. فالأمين العام للأمم المتحدة مكلف بدور بموجب قرارات مجلس الأمن، وفي وسعه لعب دور مميز إذا شاء. اما ما قد يفيد ليبيا فهو تقنين كل مواقفها ومطالبها في الخانة القانونية حصراً من دون اقحام فن البلاغة في الخطاب على الملف. فما أنجزته الديبلوماسية الليبية في الأشهر القليلة الماضية يستحق الاعجاب ذلك أنها تمكنت من نقل الدعم من لغة التضامن الى لغة الاجراءات. لكن كل هذا لن يؤدي الى رفع العقوبات طالما ان الحكومة الليبية تتصرف، خارج ملف لوكربي، بما يجعلها تبدو حكومة خرافية احياناً يصعب جداً فهم منطقها وفكرها وتصرفاتها. فضمن ما ساعد ليبيا على تحقيق الانتصارات السياسية في مواجهة الولاياتالمتحدةوبريطانيا اضافة الى العناصر القانونية هو استغلال بريطانيا لشق في قرارات مجلس الأمن تعلق بالارهاب. فقد حصلت بريطانيا على تعاون ليبي كامل في موضوع الجيش الجمهوري الايرلندي ساهم بدون شك في توصل الطرفين الى التفاوض برعاية أميركية وفتح صفحة جديدة في العلاقة البريطانية - الايرلندية. ورغم ذلك، بقيت بريطانيا متمسكة بالغموض المتعمد في قرارات مجلس الأمن بحيث استفادت من التعاون الليبي وأودعت حصيلته في جيبها ثم سارت في غير اتجاه دون أي استعداد للمكافأة حتى ضمن الشرعية الدولية. مثل هذا الاستغلال أيقظ كثيرين الى عدالة الطروحات الليبية بعدما تبين أن الأهداف الحقيقية هي التعجيز من أجل بقاء العقوبات. وهدف العقوبات، جزئياً، هو تذكير الحكومة الليبية بصورة "مؤسساتية" انها مرفوضة ومنبوذة. لذلك، قد ترى الحكومة الليبية ان الفرصة التي يوفرها زخم قرار القمة الافريقية مناسبة مؤاتية لمراجعة النفس والتدقيق بسيرتها وبدء نمط جديد على الصعيد الداخلي يرقى الى المرتبة التي حققتها على مستوى طرحها ملف لوكربي عقلانياً على الساحة الدولية