تسلط الولاياتالمتحدةوبريطانيا على مجلس الأمن لاقى اخيراً بعض المقاومة في مجلس الأمن، ليس فقط من جهة الدول الاخرى دائمة العضوية وإنما ايضاً من الدول الاعضاء التي لا تملك حق النقض. هذا التطور، الى الآن، يشكل استثناء وليس قاعدة، قد يتكرر في مسألة العراق من دون غيرها، بل قد يؤدي الى التحامل في صدد ملفات اخرى كقضية العقوبات على ليبيا بذريعة استهلاك القدر المسموح به من المقاومة في ملف العراق. اهداف الولاياتالمتحدةوبريطانيا في العراق وليبيا لا تزال استمرار العقوبات ودحض مبررات تخفيفها او ازالتها. والأسباب تراوح بين الاعتبارات الاقتصادية والسياسية وبين النزعات العقابية والانتقامية والتعجيزية. بالنسبة الى العراق، وبسبب الضغوط الكبيرة المختلفة، خصوصاً من روسيا وفرنسا، تضمن قرار مجلس الأمن الاخير محاولة اعادة تأكيد شروط رفع الحظر الاقتصادي كما نص عليها القرار 687. بريطانيا اعتبرت الفقرة التي أكدت اعتزام المجلس العمل وفقاً لأحكام 687 "بشأن أمد" العقوبات الضوء المطلوب في نهاية النفق. والبعض اعتبر موافقة الولاياتالمتحدة على حصر شروط رفع الحظر بالقرار 687 تطوراً ايجابياً نسبياً بعدما كانت ميّعت الشروط بربط بقاء العقوبات ببقاء الرئيس العراقي صدام حسين في السلطة. هناك داخل الادارة الاميركية وفي الاوساط الفكرية المؤثرة من يصرّ على ان الترابط بين استمرار العقوبات واستمرار النظام سياسة جذرية لن تهزها فقرة في قرار ولا أية حجة قانونية. وفي رأي البعض ان الشروط الواردة في القرار 687، خارج الفقرة 22 التي ربطت بين رفع الحظر النفطي وبين تنفيذ العراق كامل متطلبات اللجنة الخاصة المكلفة بإزالة الاسلحة المحظورة اونسكوم، تجعل من المستحيل رفع العقوبات الاقتصادية بمجرد استحالة اثبات النظام العراقي النيات السلمية بصورة مرضية. بل ان البعض الآخر يرى ان من المستحيل للجنة الخاصة استكمال اعمالها وإصدار شهادة حسن سلوك لبغداد بسبب استحالة توثيق ما تزعم السلطات العراقية انها دمرته من اسلحة بيولوجية وكيماوية عام 1991 مباشرة بعد حرب الخليج. وعليه، حتى تفعيل الفقرة 22 بمفردها يصبح مستبعداً. الذين يناقضون هذا الرأي يؤكدون ان زخم التعاون العراقي التام والكامل والشامل مع اللجنة الخاصة سيفرض في نهاية المطاف وضعاً جديداً يصعب على الولاياتالمتحدة فيه مقاومة الطروحات السياسية والقانونية داخل مجلس الأمن لرفع العقوبات. وينصح هؤلاء القيادة العراقية بتعطيل اهداف احباط جهود رفع العقوبات من خلال نمط متماسك في تنفيذها قرارات مجلس الأمن والامتثال لمطالب اللجنة الخاصة بترفع تام عن محاولات الاستفزاز او الاستدراج. والى حين استكمال مقومات المطالبة بتفعيل الفقرة 22 من القرار 687 يرى المتعاطفون مع ضرورة خلاص العراق من العقوبات ان حماية النسيج الاجتماعي من المزيد من التفكك ممكنة في توسيع قاعدة "النفط للغذاء والدواء" لتأهيل البنى الأساسية مثل تنقية مياه الشرب وتوليد الطاقة الكهربائية وترميم المدارس وتقوية التعليم. ما تخشاه بغداد هو ان يكون القرار 986 المعروف بصيغة "النفط للغذاء والدواء" بديل الأمر الواقع عن الفقرة 22 وبالتالي عن رفع الحظر النفطي عن العراق. كما تخشى ان يصبح الاستثناء في نظام العقوبات بموجب 986 الذي سمح لبغداد بيع كمية محدودة من النفط لتوزيع عائداتها برقابة دولية هو القاعدة. والتخوف في محله اذ ان الولاياتالمتحدةوبريطانيا تودان حقاً ان يصبح الاستثناء هو القاعدة ورهانهما على سوء تصرف وسوء تقدير السلطات العراقية بما يبرر استمرار الوضع الراهن للعقوبات الى ما لا نهاية. فإذا كانت القيادة العراقية اعتمدت حقاً استراتيجية تحقيق اهداف رفع العقوبات كأولوية وليس كإفراز ثانوي لمعادلة بقاء النظام في السلطة فان فرص دعم هذه الاستراتيجية متوافرة. بين هذه الفرص تحسين العلاقات مع الدول العربية جذرياً بما يسمح بحشد دعم عربي متماسك لرفع العقوبات. بينها ايضاً الاستفادة من مقاومة اعضاء مجلس الأمن للتسلط الاميركي والبريطاني من خلال انجاح رهان هؤلاء على التنفيذ العراقي التام لمذكرة التفاهم التي وقعتها الحكومة العراقية مع الأمين العام كوفي انان. فللعراق قاعدة دعم في مجلس الأمن اليوم ليس لليبيا مثيلتها، وفرص تخفيف او ازالة العقوبات عن العراق اكبر من الفرص المتوفرة لليبيا على رغم الحجج القانونية الاقوى في الملف الليبي. فأعضاء المجلس ليسوا على استعداد لتحدي الولاياتالمتحدةوبريطانيا في شأن الموضوع الليبي في اعقاب تحديهم لهما في شأن العراق بإصرارهم على حجب التفويض الاوتوماتيكي لهما باستخدام القوة العسكرية اذا قررت واشنطن ولندن ان بغداد خرقت التزاماتها ونكصت بتعهداتها. لسوء حظ ليبيا، تزامن هذا التحدي مع صدور حكم محكمة العدل الدولية في شأن اختصاص المحكمة النظر في ازمة "لوكربي". فمجلس الأمن كان على وشك المراجعة التقليدية كل شهرين لنظام العقوبات المفروضة على ليبيا. والحكومة الليبية نجحت في المرتين الاخيرتين بتركيز الاضواء على قضيتها ووقف نمط الروتينية في المراجعة واستعدت لطرح جديد في ضوء حكم المحكمة يفرض على مجلس الأمن تناول القضية من كل جوانبها. لكن ما واجهته لم يكن فقط الرفض الاميركي - البريطاني لأي تغيير في نمط تناول الملف الليبي وإنما ايضاً لاقت من الدول المتعاطفة معها في المجلس اعتذارها عن التمكن من مقاومة الثنائي الاميركي - البريطاني وتحديه في الملف الليبي بعد الملف العراقي مباشرة. فالعدالة والقانون الدولي يأخذان المقعد الخلفي لاعتبارات السياسة والتوقيت في المجلس المكلف صيانة الأمن والسلم الدوليين. انما هذا لا يبدّل من واقع تأكيد المحكمة الدولية ان لها الاختصاص وهذا نابع من تقدم ليبيا بطلب النظر في قضية التهمة الموجهة الى المواطنين الليبيين بتفجير طائرة بان اميركان فوق لوكربي قبل صدور قرارات مجلس الأمن التي فرضت العقوبات بموجب الفصل السابع من الميثاق. كذلك اكدت محكمة العدل الدولية انها ستنظر في صلب الموضوع وان احكام اتفاقية مونتريال لعام 1971 لقمع الاعمال غير المشروعة المخلة بأمن وسلامة الطيران المدني الدولي هي التي تحدد القواعد التي تحكم النزاع. وباختصار، فإن ما قالته المحكمة هو ان القضية هي قضية قانونية، وان النزاع ليس بين ليبيا ومجلس الأمن وإنما بين ليبيا من جهة والولاياتالمتحدةوبريطانيا من جهة اخرى. ما طلبته ليبيا عبر سفيرها ابو زيد عمر دوردة هو عقد جلسة علنية لمجلس الأمن كي تتاح فرصة عرض التطورات الجديدة والتقدم بطلب تعليق العقوبات الى ان تصدر المحكمة الدولية حكمها في صدد جوهر الموضوع، اي مكان محاكمة المشتبه فيهما. الولاياتالمتحدةوبريطانيا عارضتا الجلسة العلنية، ومحاولات الأخذ بحكم المحكمة الدولية، وأي حديث عن رفع العقوبات او تعليقها، وأي كلام عن محاكمة المشتبه فيهما في اي مكان سوى امام العدالة الاميركية او البريطانية. دعم جامعة الدول العربية ومنظمة الوحدة الافريقية وحركة عدم الانحياز للموقف الليبي لم يؤد حتى الآن الى اي تغيير في المواقف الاميركية - البريطانية التي فرضت العقوبات قبل المحاكمة. فالدولتان تريدان استمرار اخضاع ليبيا للعقوبات وتعجيز اجراء المحاكمة. فإذا كان هدفهما محاكمة النظام في ليبيا، فذلك ممكن غيابياً وفي اي مكان علماً بأن العقيد معمر القذافي لن يخضع للمحاكمة ان اجريت في اميركا او اسكتلندا. ولو كانت ليبيا، من جهتها، تضع مسألة رفع العقوبات فوق اعتبارات نرجسية النظام لجنّدت كل الدعم والجهود الدولية للحصول على تعهدات اميركية - بريطانية تحدد خطوات تخفيف العقوبات او رفعها اذا ما مثل المتهمان امام المحكمة الاسكوتلندية بوجود مراقبين دوليين بصلاحيات موسعة. فقانونياً، ان المواقف الليبية مدعومة بحجج وبحكم من المحكمة الدولية. انما سياسياً، ليبيا في موقف الضعيف لأن مصير العقوبات في مجلس الأمن حيث الولاياتالمتحدةوبريطانيا سيدتا القرار وعرابه. وإذا كانت الادارة الاميركية تتخبط في رسم سياساتها نحو العراق بسبب الضغوط الدولية والمحلية، فانها لا ترضخ تحت عبء مماثل في شأن ليبيا على رغم انقسام عائلات الپ270 ضحية قضت بتفجير الطائرة فوق لوكربي. اما بريطانيا فانها تتعالى على الضغوط المحلية والدولية ايماناً منها بأنها عابرة لن تتطور الى مواقف متماسكة تتخذ شكل استراتيجية مدروسة لاحراجها. فتحرك السفراء العرب في الأممالمتحدة دعماً لطلب ليبيا انعقاد جلسة علنية لمجلس الأمن مفيد لليبيا معنوياً وسياسياً لكنه ليس اكثر من زوبعة في فنجان. فالضغط الحقيقي يبدأ عندما تضع جامعة الدول العربية ومنظمة الوحدة الافريقية برنامجاً للتحرك الجدي في جميع العواصم المعنية ترافقه حملة اعلامية تبرز الخلل القانوني والاخلاقي في المواقف الاميركية والبريطانية الرسمية... مجلس الأمن "مضطر" للتحامل على ليبيا لأنه تجرأ على الاعتراض على التسلط الاميركي - البريطاني في شأن العراق، وان كان استثناء وحتى اشعار آخر.