أبو عمار لن يستقيل بعد توقيع الاتفاق على الانسحاب الثاني من الأراضي الفلسطينية، وهو يظل الرجل الوحيد القادر على قيادة شعبه في هذه المرحلة. ليس هذا دفاعاً عن ياسر عرفات، فحتى لو قبلنا جدلاً الانتقادات السورية له، وهي الأكثر والأقسى، لبقي أبو عمار أفضل فلسطينياً وعربياً من خلفائه المحتملين، سواء أكانوا الشيخ أحمد ياسين من جهة، أو محمود عباس أبو مازن وأحمد قريع أبو العلاء من جهة أخرى. زعيم "حماس" في مصر ينتظر إكمال أوراقه الرسمية للعودة إلى غزة. وليس مهماً أن يكون سبب التأخير فلسطينياً أو مصرياً، فالشيخ أحمد سيعود "سالماً غانماً" من جولته الخارجية، وقد استقبل في بعض الدول استقبالاً لم يحظ به أبو عمار نفسه. وأهم من الاستقبال الأموال التي اغدقت على حركته خلال جولته، ما جعل الصحافة الإسرائيلية تصفه بالمليونير الغزاوي "يديعوت أخرونوت" الجمعة الماضي. وقد أكد الشيخ أحمد ان المساعدات لن تنفق على عمليات فدائية أو انتحارية، غير أن الإسرائيليين، وبعض قادة أجهزة الأمن الفلسطينية، يشكّون في كلامه هذا. وبالتأكيد فحماس لم تغير موقفها من إزالة إسرائيل، ولم تتخل عن الكفاح المسلح وسيلة لتحقيق هذا الهدف، وقد قال الشيخ أحمد ياسين خلال جولته إن إسرائيل ستنتهي في الربع الأول من القرن القادم. وإذا افترضنا أن إسرائيل لن يبلعها زلزال أو بركان، فواضح ان تدميرها، في رأيه، سيكون بحرب. هل هذا ممكن؟ العمليات الفدائية، من خطف الطائرات إلى التفجيرات الانتحارية لم تحرر شبراً من أرض فلسطين، والإصرار على الخيار العسكري "رومانسية" لا مكان لها على أرض الواقع في الشرق الأوسط اليوم، فإسرائيل لن تهزم بحرب شاملة، أو بعمليات فدائية، ولا سبب منطقياً أو عملياً يمكن أن يدعم هذا المنطق. وبكلام آخر، ففكر حماس صحيح، وعمل جناحها العسكري مبرر تماماً في وجه التطرف الإسرائيلي واستمرار الاحتلال، إلاّ أن الخيار العسكري غير موجود والحديث عنه نوع من العبث، بل ان العمليات الانتحارية السابقة التي أوصلت بنيامين نتانياهو إلى الحكم من شأنها أن تدّمر الانجازات القليلة التي تحققت حتى الآن. من ناحية أخرى، يطرح اسم السيد محمود عباس باستمرار، كخليفة للسيد عرفات باعتباره الرجل الثاني في السلطة الوطنية، كما طرح اسم السيد أحمد قريع غير مرة، مع ترجيح أن يكون أبو مازن المرشح الأول لخلافة الرئيس الفلسطيني. وإذا كان بعض العرب، ومنهم الاخوان في سورية، اعتبروا أبو عمار متنازلاً أو مفرطاً فما عليهم إلاّ أن ينتظروا رئاسة أبو مازن. وأقول بسرعة وبأوضح عبارة ممكنة إن محمود عباس وطني فلسطيني أفنى عمره في خدمة قضيته، وليس عندي أدنى شك في وطنيته واخلاصه، إنما الاعتراض هو على سياسته، فمهندس اتفاقات أوسلو دعا إلى مثل هذا الحل عندما كان العرب كلهم يبحثون عن حل عسكري، وهو لا يزال يصرّ على التفاوض. وإذا كان أبو عمار رفض أقل من 13 في المئة، فإن أبو مازن سيقبل أي نسبة انسحاب تقدم له، وهو يقول "هل إذا اعطيت مئة كيلومتر مربع من أرض فلسطين أو خمسمئة أقول لا؟". هذا هو اجتهاد السيد محمود عباس، وهذه هي سياسته، وهو بهذا أصبح أكثر السياسيين الفلسطينيين قرباً إلى نتانياهو. وأتوقف هنا لاختار كلمات من مقال للكاتب الإسرائيلي الواسع الاطلاع ناحوم بارينا في "يديعوت اخرونوت" قبل يومين، فهو قال: "أبو مازن، نائب عرفات، هو أكثر فلسطيني يحظى بإعجاب نتانياهو. ونستطيع القول إن الاعجاب متبادل، وقد استقبل أبو مازن هذا الأسبوع يعني الاسبوع الماضي النائب رومان برونغمان، من حزب إسرائيل بعاليا، وقال له: انني معجب فعلاً بنتانياهو. واجتماعاتي معه لطيفة، إلا ان الجزء غير اللطيف فيها ان تترك الاجتماع ثم تدرك أنه، خرجت بلا شيء في يدك...". وأعود إلى ما بدأت به، فبعض العرب يفضّل الشيخ أحمد ياسين على السيد عرفات، مع أن سياسة "حماس" لا يمكن أن تنجح في استرداد أي أرض فلسطينية، وبعضهم الآخر يفضل أي خليفة له على أساس أنه "متنازل"، غير أن خليفته داخل السلطة الوطنية أكثر تنازلاً منه. وبما اننا نتحدث عن وضع سياسي وقضية، لا أي شخص أو موقف شخصي، فربما فكر معارضو أبو عمار في الداخل والخارج مرتين قبل أن يلقوا بثقلهم وراء غيره، وربما وجدوا بعد التفكير أن من الأفضل التعامل معه للتأثير فيه والسير بالقضية إلى الأمام معاً، فهو لن يسير بها وحده، وهم لن يجدوا غيره للسير معهم.