وفرت نتيجة استفتاء الصرب الرافضة للوساطة الدولية في حل مشكلة كوسوفو، دليلاً شعبياً يلوح به الرئيس اليوغوسلافي سلوبودان ميلوشيفيتش، الذي عاد الى الاستفتاء، لتعزيز موقفه أمام الضغوط الاجنبية التي يتعرض لها. يجهل الصرب تاريخهم الذي سبق وجودهم في البلقان، وفي أرض كوسوفو بالذات، حين ظهروا كشعب له خصائصه المتميزة، شرع يعمل من اجل كيان خاص به، تحقق بأول دولة معروفة تحمل اسمه مطلع القرن الرابع عشر، لا زالت افراحها وأتراحها تشكل حتى اليوم أهم مأثوراتهم المتناقلة التي يسترجعون ذكراها في مناسباتهم ويفتخرون بها. لذلك يعتبرون كوسوفو شأناً مصيرياً يسمو على بلغراد، ظهر جلياً في الاستفتاء الذي شارك فيه 73 في المئة من الناخبين في صربيا البالغ عددهم 7 ملايين وربع المليون شخص وهي اعلى نسبة تصويت في صربيا، اذ لم تتجاوز في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية لاخيرة نسبة 52 في المئة، ما يدل ان مؤازرة الصرب له كانت شبه جماعية اذا استثنينا رُبع مجموع السكان الممثلين للألبان الذين قاطعوه واتباع الاقليات القومية التي اعتبرته خاصاً بالصرب والألبان وحدهم. وازاء هذه الحال، ليس عجباً ان يجاوب 96 في المئة من المشاركين في الاستفتاء بپ"لا" على سؤاله الوحيد "هل توافق على وجود وساطة خارجية في حل مشكلة كوسوفو" وهو سؤال تلاشت الخلافات بين زعماء الاحزاب الصربية الحكومية والمعارضة تجاهه، وتشددوا في رفض التدخل، ما يعني ان الرئيس ميلوشيفيتش اثبت شرعية اسلوب المجابهة الذي ينتهجه في شأن كوسوفو، وحقق الزعامة التي يصبو اليها لقيادة الصرب في الحسم مع البان كوسوفو الذي بدأه قبل عشر سنوات، وهو لم يتوان عن القول: "كل العقوبات الدولية على صربيا تهون امام عظمة كوسوفو". العقوبات أكد الاسلوب الذي يعتمد العقوبات الدولية على اساسه ان اضراره تصيب المواطنين العاديين وحدهم، في حين ان الحكام وأصحاب النفوذ هم في منجى عنها، ان لم تكن ذات فائدة في تحقيق المزيد من المكاسب لقطاع واسع منهم، وهو ما كان عليه حال العقوبات التي فُرضت على يوغوسلافيا ثلاث سنوات ونصف السنة بسبب الحرب البوسنية. وأثبت تنفيذ العقوبات على بلغراد ان مشاكلها الاقتصادية شملت دول المنطقة من دون اي تعويض، ما جعل التقيد بها يتلاشى مع مرور الأيام، وأخذت السفن تنقل البضائع الى صربيا عبر نهر الدانوب بحرية، بينما صارت الشاحنات وصهاريج النفط تفرغ في المدن الصربية حمولتها التي تشير اوراقها انها في طريقها الى دولة اخرى، وترسو البواخر في موانئ الجبل الاسود بعيداً عن كل رقابة، فاقتصرت العقوبات على مجالات محدودة مكشوفة لا يمكن التحايل عليها مثل حركة الطيران المدني والنشاطات الثقافية والفنية والرياضية والانتماء الى بعض المنظمات الدولية. وظهر رد فعل شديد من دول المنطقة ضد العقوبات مع تصاعد المواجهات في كوسوفو في آذار مارس الماضي، تجلّى في تصريحات المسؤولين في كل من اليونان ومقدونيا وبلغاريا ورومانيا والمجر الذين اعلنوا اعتراضهم على كل اشكال العقوبات الاقتصادية، وتأكد ذلك في المؤتمر الذي عقده وزراء خارجية اليونان وبلغاريا ورومانيا في جزيرة "سانتورينو" اليونانية 10/4/1998 ودعوا الى وقف التهديد الدولي بعقوبات اقتصادية جديدة على يوغوسلافيا. وتعم الخلافات بين دول مجموعة الاتصال الست الولاياتالمتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا التي تولت القضايا المتعلقة بشؤون البلقان، وفقا لمصالحها الذاتية، فطغت اقوال التهديدات الموجهة عبر وسائل الاعلام على الاعمال، وجاءت الاجراءات التي تجمع عليها دول المجموعة مدعاة للسخرية، كما هو حال قرارها الذي اقترن بمصادقة مجلس الأمن والخاص بمنع توريد الاسلحة في يوغوسلافيا في الوقت الذي يعلم اصحاب القرار ان المصانع اليوغوسلافية تنتج ما يكفي من السلاح للحاجات المحلية والتصديرية. ويبدو ان دور الرياضة حلّ بعد الاسلحة، وأفاد مسؤول كبير في الادارة الاميركية واشنطن بوست 25/3/1998 ان بلاده "تبحث عن اجماع لابعاد يوغوسلافيا عن المباريات الرياضية وبما فيها نهائيات كأس العالم لكرة القدم المقررة الصيف المقبل في فرنسا" وهددت واشنطن بالانسحاب من مجموعة الاتصال ما لم توافق على "فرض عقوبات ضد بلغراد". يذكر ان اقتراح عقوبات الرياضة ليس جديداً، فقد اثنى عليه وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي في اجتماعهم الاخير في لندن، بعد ان قدمته وزيرة خارجية السويد لينا هيلم والن مع توضيح جاء فيه "انا متأكدة من ان هذا الاجراء يشكل تهديداً جدياً لليوغوسلاف، لأني اعلم انهم مولعون بكرة القدم". وعقب مسؤول من البان كوسوفو على هذا الاقتراح بقوله "يبدو انهم يعتقدون بأن ميلوشيفيتش، الذي لم يدخل في حياته ملعباً رياضياً، سيموت غما ويتقوض نظامه فوراً اذا لم يغادر الفريق اليوغوسلافي الى باريس". تصعيد المواجهة نقلت بلغراد العديد من وحدات جيشها الى مناطق كوسوفو الحدودية مع البانيا، واتخذت اجراءات صارمة بذريعة منع دخول المقاتلين "المتدربين في البانيا والحد من تهريب الاسلحة الى كوسوفو" كما ادعت الحكومة اليوغوسلافية. ومن جانبها ردت السلطات الألبانية بزيادة احتياطاتها الامنية على حدود بلادها مع كوسوفو، واعتبر رئيس الحكومة الألبانية فاتوس نانو ان "التطورات الخطيرة في كوسوفو اصبحت من اولويات البانيا ومواطنيها من اجل حشد الدعم للمقاومة المسلحة التي تدافع عن الألبان في مواجهة القمع الصربي والدفاع عن المصالح القومية الألبانية". وبينما وصفت وسائل اعلام غربية ما اعلنته الحكومة الألبانية، بالتشدد في تعاملها مع قضية كوسوفو "بعد ان لزمت الصمت حيال ما يجري هناك" الا ان مراقبين في البلقان اعتبروا ذلك بأنه ارضاء لكل الاطراف. اذ اراد نانو ان يخفف من وطأة مشاكله الداخلية بمراعاة مشاعر الألبان، خصوصاً في المناطق الشمالية المتعاطفة مع الذين يعتبرهم سكانها اشقاءهم في "الاجراء المحتلة" اضافة الى معالجة خلافاته مع رئيس الجمهورية رجب ميداني والانتقادات الموجهة اليه "لموقفه الغامض من قضية الألبان المصيرية في كوسوفو" الذي انتقدته الاحزاب المتعاونة مع حزبه الاشتراكي وأسفر - حتى اعداد هذا التقرير - عن استقالة وزيري: الدفاع سافيت بروكاي والشباب ارت داد. وتوخى نانو في اعلانه إرضاء الدول الغربية التي آزرته في الوصول الى السلطة ويتوقف بقاؤه فيها على مساندتها له، بتأكيده انه "يلتزم المقترحات الدولية في حل ازمة كوسوفو" ودعوته قوات حلف شمال الاطلسي الى "حماية بلاده ومنع امتداد حرب كوسوفو الى الدول المجاورة". وراعى نانو اهم مطلب صربي منه والمتعلق بالتسلل ونقل الاسلحة، فجاء في اعلانه "منع عمليات العبور غير القانونية للحدود". وإزاء الظروف الألبانية، فمن الصعب تحميل حكومتها مسؤولية تهريب الاسلحة، اذ ان حدود البانيا مع كل من مقدونيا وكوسوفو والجبل الأسود تسودها الجبال والغابات والبحيرات، ويقيم على جانبيها البان تربطهم أواصر القربى والعشيرة والعلاقات الاجماعية، واعتادوا العبور دائماً من دون التقيد بأماكن معينة، وتفاقم الوضع تسيباً اثر الحوادث التي شهدتها البانيا العام الماضي وانهيار اجهزة الدولة العسكرية والأمنية، بما فيها الحدودية، في وقت نهب السكان ما يزيد عن مليون قطعة سلاح من المخازن الحكومية، وأصبح الاتجار بها من اكثر الاعمال شيوعاً. ووفق المعلومات الرسمية فانه خلال 12 شهراً الماضية، تم مصادرة حوالى 6 آلاف قطعة سلاح متنوعة اثناء تهريبها الى مقدونيا، ما يدفع الى التخمين بأن اضعاف هذا العدد نجح في الافلات من الرقابة المقدونية، والحال ذاته ينسحب على اقليم كوسوفو، مع الاعتبار ان الوضع فيه يتطلب اندفاعاً اكبر في الحصول على السلاح. يذكر ان نانو ينتمي الى منطقة مدينة جيروكاسترا الجنوبية القريبة من حدود اليونان، التي هي مسقط رأس زعيمي العهد الشيوعي أنور خوجه ورامز عليا، وينحدر منها غالبية اعضاء الحكومة الحالية ومنهم نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية باشكيم فينو الذي تولى رئاسة الحكومة الموقتة السابقة. ويوصف الجنوبيون عادة بضعف ارتباطهم القومي، على العكس من الشماليين المعروفين بعلاقاتهم الوثيقة مع الألبان في مقدونياً وصربيا والجبل الأسود، ومنهم زعيم الحزب الديموقراطي الرئيس السابق صالح بريشا من قرية تروبايا المحاذية للحدود مع كوسوفو والمطالب بالعرش ليكا ابن الملك زوغو من قرية بوراجيت شمال تيرانا الذي يدعمه حزب الشرعية الألباني. ويرجح المراقبون ان فاتوس نانو يدرك بأن انفلات جماح النزعات العرقية المتطرفة في البلقان سيطال البانيا ذاتها، التي تسودها الفوارق بين الشمال والجنوب، وتتعدد الانتماءات القومية والدينية فيها، التي بدأت منذ أيام باعلان وزير من الاقلية اليونانية في حكومته بأن اليونانيين في الجنوب يقدّر عددهم بحوالى 400 الف شخص من مجموع سكان البانيا البالغ ثلاثة ملايين وربع المليون نسمة يطالبون بنفس ما يحصل عليه البان كوسوفو. ويعلم نانو انه يواجه مشكلة مطالب الألبان القومية في مقدونيا الذين يبلغ عددهم زهاء نصف مليون نسمة اي نحو ربع سكان هذه الجمهورية. وتقلق مشكلة الاقليات في البلقان عموماً الدول الأوروبية، وهو ما يجعل تأييد مساعي البان كوسوفو لتحقيق الاستقلال غير وارد، وحتى الحكم الذاتي الواسع الذي يتجاوز الأمور الثقافية والادارية المحلية يجلب المخاوف من طلبات مماثلة له بين اقليات دول المنطقة الاخرى، وهو ما يزيد ازمة كوسوفو تعقيداً ويمنح الفرصة للصرب للتمسك بنتائج استفتائهم والضرب بشدة لتحطيم اي حركة مسلحة في الاقليم. يستبعد امتدا مواجهات كوسوفو الى الدول المجاورة، لأسباب موضوعية، منها: ان قوة الصرب العسكرية هي الاقوى في المنطقة ولا يتوافر ما يستدعي تورط حلف شمال الاطلسي في صراع داخل حدود دولة قوية معترف بها، ثم ان كلا من البانياومقدونيا المجاورتين لكوسوفو لا تقبلان في الواقع ان يتخذ المقاتلون من البان كوسوفو أراضي الدولتين عمقاً عسكرياً لهم. ويمكن الاستنتاج ان المخاوف المتداولة، خصوصاً بين بعض الدول الأوروبية والولاياتالمتحدة مبالغ فيها، وانها نابعة عن مصالح ذاتية في التقسيم الجديد لمنطقة البلقان، وناتجة عن مواقف خاصة مع نظام حكم الرئيس ميلوشيفتيش وليس الطموحات الصربية، وستزول كل التهديدات مع اي تغيير في الحكم باتجاه ما يدعى بپ"الديموقراطية" كما حصل في الجمهورية الصربية كيان صرب البوسنة اذ صارت الولاياتالمتحدة تضرب المثال وتغرق الأموال وأنواع الصفات الحميدة على كل من زعيمي صرب البوسنة الحاليين: الرئيسة بيليانا بلافيتش ورئيس الوزراء ميلوراد دوديك على رغم تعصبهما القومي وسعيهما لتحطيم وحدة البوسنة، لكن رغم ذلك فان المسؤولين الدوليين الاميركيين والأوروبيين يلحون على قادة المسلمين والكروات "الاعتدال والاقتداء بديموقراطية صرب البوسنة الحالية".