وهناك تطور سلبي داخل المجتمع المدني باتجاه تأسيس المزيد من النقابات والمهن ذات السطوة الاحتكارية وتضييق مجال العمل أمام غير المنتمين الى عضويتها، وكل ذلك بحماية السلطة السياسية ومباركتها وبالتشريعات التي تصدرها لجعل ذلك ممكناً! وآخر مثال منع محلات بيع العقاقير، أي الصيدليات، إذا لم تكن مملوكة من صيدلي، مما أدى الى ارتفاع أسعار الدواء، من دون أي مقابل للمواطن، مع ان القائمين على الادارة والبيع في نوعي المحلات هم انفسهم مع الفارق في الملكية التي تعطي حق الامتياز! إذ ان رخصة الصيدلية لا تعطى إلا لصيادلة، وكثرة من هؤلاء مستعارون يؤجرون حق امتيازهم. وهكذا فإن اختلاط السلطة السياسية بشبه المجتمع المدني جاء مكملاً، في سلبه استقلالية هذا المجتمع، السلب الحاصل نتيجة الاختلاط بالمجتمع الديني، ومكرساً الشرذمة الأصلية والأساسية الناتجة عن طريقة قيد وقائع الأحوال الشخصية في سجلات النفوس. اما السبب الرابع لفقدان شبه المجتمع المدني في لبنان استقلاليته فهو انعدام حكم القانون وانعدام استقلال السلطة القضائية. إذ لا يستطيع المجتمع المدني ان يكون مستقلاً او ان ينمو ويزدهر في غياب حكم القانون واستقلال السلطة القضائية. فبينما توجب المادة 20 من الدستور اللبناني السلطة القضائية المستقلة التي تصدر كل القرارات والاحكام وتنفذها "باسم الشعب اللبناني"، فإن الواقع يختلف. إذ جاء قانون تنظيم وزارة العدل يعتبر المحاكم جزءاً لا يتجزأ من تلك الوزارة أي من السلطة التنفيذية! ويعامل القضاة عامة كموظفين، ويحتاجون الى اذن سفر من المدير العام للوزارة إذا رغبوا في مغادرة الأراضي اللبنانية لأي سبب! وجاءت قوانين أصول المحاكمات تجرد المحاكم من صلاحية عدم تطبيق القوانين المتعارضة مع الدستور، والتي اعطيت الى مجلس دستوري لا يحق له النظر في المخالفات الماضية والقائمة، بل في المخالفات المستقبلية شرط ان يطرح النزاع عشرة نواب او رئيس طائفة! فإين هو حكم القانون إذا كان الدستور لا يطبق والقضاة ممنوعين من تطبيقه والمواطنون مسلوبين حق التذرع بمواده وأحكامه؟ ولو أعطيت المحاكم هذه الصلاحية من دون قيد، لوجب عليها الامتناع عن تطبيق كل القوانين والشرائع التي تخلّ بجوهر الحرية والمساواة، وفي طليعتها القوانين والشرائع التي تميّز ضد المرأة وضد أي انسان في لبنان لأي سبب. وليست كل المحاكم تابعة للسلطة القضائية، وليست كل المحاكم تصدر أحكامها باسم الشعب اللبناني، فكيف يكون اللبنانيون سواء في الحقوق والحريات والواجبات؟ وكيف يستطيع المجتمع المدني ان يقوم وأن يدافع عن ذاته وبالتالي عن حقوق المواطنين وحرياتهم في غياب حكم القانون؟ * السبب الخامس تبخر حرية القول. حرية القول هي أم الحريات! وهي الوسيلة التي يستخدمها المجتمع المدني للتكون والاجتماع والتحرك. وهي تبخّرت في لبنان بمنع اصدار الصحف باشتراط الغاء امتيازين قديمين لاعطاء كل امتياز جديد، وبتقليص عدد محطات الاذاعة والتلفزيون الخاصة واحتكار السلطة السياسية لمعظمها، وبوضع قيود على البث الفضائي، وباخضاع الكتب والمنشورات والمسرحيات والأفلام للرقابة من ضباط في الأمن العام! ذلك ان الرأي المسموح به والمنشور هو الذي يحبذ السلطة السياسية او لا تمانع فيه تلك السلطة! * السبب السادس مناخ الاستبداد. لم يعد في لبنان مناخ حرية. بل ساد في بلادنا مناخ الاستبداد الذي يلف بظلامه الشرق. وفي مناخ الاستبداد لا يزدهر مجتمع مدني ولا يستقل. إذ دخلت القوات الأجنبية الى البلاد وصادرت الحرية والسيادة والاستقلال بالتعاون مع لفيف من رجال السياسة الذين قبلوا ان يصبحوا واجهة لها. وارتأت الارادة الأجنبية ان من المناسب لمناخ الاستبداد ابقاء الأوضاع الفاسدة على ما هي عليه بل تشجيع المزيد من الفساد. بينما المجتمع المدني لا يزدهر ولا يقوى إلا بالنزاهة. وأصبح جميع اللبنانيين الذين يحرصون على العلل التي أودت بالمجتمع المدني المستقل عملاء للارادة الأجنبية سواء عن وعي او من دون وعي. كيف يمكن المجتمع المدني اللبناني، في هذا المناخ الاستبدادي، ان ينشأ وأن يقف على رجليه بكل استقلال وأن يصبح قوياً ونزيهاً؟ اقتراح حلول هناك ست خطوات ينبغي تحققها ليكتمل نشوء المجتمع المدني المنشود، مستقلاً، صحيحاً ونزيهاً، وهي: - الخطوة الأولى تعديل القانون المتعلق بقيود النفوس. يجب ان تفتح في كل بلدة ومحلة لائحة نفوس مدنية واحدة للمقيمين فيها وللولادات الحاصلة ضمن نطاقها، بصرف النظر عن الأصل الاقليمي والعائلة والطائفة! هذه اللائحة المدنية تحدد النطاق الذي يمكن المواطن فيه ممارسة حقوقه وواجباته الانتخابية، إذا لم يغيرها بارادته الخاصة الحرة بنقل قيده الى محل سكنه الحقيقي، ولن تتضمن قيود هذه اللائحة أي ذكر للطائفة! وتلغى لوائح النفوس الطائفية. ولتترك لكل طائفة حرية احصاء ابنائها وتسجيلهم بوسائلها الخاصة وعلى نفقتها ومسؤوليتها! عندها، وعندها فقط ينشأ مواطنون غير مكبلين ولا أسرى منذ الولادة. - الخطوة الثانية اقرار القانون المدني. في لبنان ست مدارس لتعليم القانون، وهو مركز أقدم مدرسة قانون في التاريخ، حيث وضع تشريع جوستينيان الذي هو أساس القانون المدني الذي شرّعه نابوليون مطلع القرن التاسع عشر. لكن لبنان يبقى بلداً من دون قانون مدني Civil Code! وحان الوقت منذ زمن طويل لاشتراع قانون مدني عصري يجب ان يكون تطبيقاً أميناً للضمانات الدستورية في الحرية والمساواة لجميع اللبنانيين، وفي اسقاط كل تمييز. وبالطبع سيشمل القانون المدني الأحكام الالزامية المتعلقة بالأحوال الشخصية والارث والوصية. ولن يخل بحق كل لبناني، يعتبر ان هذه الأمور تتعلق بحقه في الاعتقاد الديني، في ان ينفذ معتقداته عن طريق: 1 - عقد زواج ديني اختياري اضافة الى زواجه المدني الالزامي. 2 - الايصاء بموجب الشرائع التي يراها ملزمة له، أي ان ينفذ الأحكام الدينية الارثية بطريق الوصية. وهي أمر اختياري يتعلق بالحرية الشخصية. ولن يكون هناك مجتمع مدني لبناني إذا لم يُشرَّع قانون مدني الزامي لجميع اللبنانيين. - الخطوة الثالثة، سحب الصلاحيات المدنية للمحاكم الدينية ولكل المراجع الدينية. من دون الاخلال بحق كل طائفة دينية في ان تكون لها محاكمها الخاصة، فإن هذه المحاكم، وبعد اقرار القانون المدني، تفقد كل صلاحيتها المدنية التي يجب ان تؤول بكاملها الى السلطة القضائية المدنية! ولن يعود من الممكن ان تموّل الدولة مثل هذه المحاكم او تحتضنها رسمياً بأي شكل. بعبارة أخرى، فإن اللجوء الى المحاكم الدينية يصبح اختيارياً وعملاً بحرية الاعتقاد الديني. إلا ان هذه المحاكم لا تستطيع اصدار قرارات تكون لها القوة التنفيذية، ويكون التنفيذ اختيارياً وطوعياً بحسب الاعتقاد الديني لأصحاب العلاقة. وبالمنطق ذاته، فإن حق الطوائف الدينية في التشريع في شؤونها الذاتية يسقط خارج نطاق الشؤون الدينية المحضة، ولا يعود هذا التشريع قابلاً للتنفيذ، وفي مطلق الأحوال، كجزء من القانون الوضعي، بل يصبح طوعياً ينحصر التقيد به ضمن حدود التنظيمات الدينية الطائفية. - الخطوة الرابعة، اقامة السلطة القضائية المستقلة وحكم القانون. لا تقوم السلطة القضائية المستقلة إلا إذا استقلت المحاكم عن وزارة العدل، وأمكنها ادارة شؤونها بنفسها. ولا يقوم حكم القانون إلا إذا تعيّن على كل قاضٍ واجب التقيد بأحكام الدستور وتطبيقها واهمال كل قانون ان قرار يتعارض معها، وأصبح عليه واجب احترام القانون الدولي لحقوق الانسان وتطبيقه قبل تطبيق القانون الوضعي. ولا يقوم حكم القانون إلا إذا اتيح لكل مواطن التظلم من القضاة ومخاصمتهم بموجب أصول تؤدي الى نتائج تعيد النصاب الى ميزان العدالة. إذ ان القوانين الوضعية الحالية جعلت مخاصمة القضاة أمراً مستحيلاً! ولا يقوم حكم القانون في وجود المحاكم الأمنية والاستثنائية. لذا وجب الغاء المجلس العدلي والمحكمة العسكرية الدائمة. - الخطوة الخامسة فك الاختلاط بين المجتمع المدني وكل الجهات غير المدنية. كل مؤسسة مدنية يجب ان تسعى الى أغراض مدنية غير منحصرة داخل دين او طائفة، وعلى القانون ان يمنع كل ما عدا ذلك باستثناء المؤسسات الدينية ذات الأغراض الدينية الصريحة. وكل مؤسسة مدنية تستطيع ان تتأسس بموجب علم وخبر بسيطين من دون حاجة الى تسجيل او تدخل من وزارة الداخلية. وكل لبناني يستطيع ان ينشر صحيفة من دون حاجة للحصول على امتياز، بل بمجرد تسجيل تصريح بذلك مع نشر الموازنة السنوية للصحيفة. وكل لبناني يستطيع ان يتملك محطة اذاعة او تلفزيون ولكن ضمن القيود الفنية الدولية المتعلقة بتوافر الموجات القابلة للاستعمال، وضمن الحدود الجغرافية المعينة بالقانون. ولا يحق لأية سلطة مراقبة الكتب او المطبوعات او المسرحيات او الأفلام، إلا ان ما يخالف قانون العقوبات يدخل بطبيعة الحال ضمن نطاق الاختصاص القضائي العادي. عندها يمكن المجتمع المدني ان يمارس حرية القول بكل استقلال ونزاهة. - الخطوة السادسة التحرير. ويجب ان تكون الخطوة الأولى، لولا ان مصادر الاستبداد والفساد ليست كلها خارجية. فلدينا ما يزيد على حاجتنا من المستبدين والفاسدين. لكن تحرير الارادة الوطنية شرط أساسي من شروط قيام المجتمع المدني اللبناني. لذا اقتضى جلاء كل القوات المسلحة الأجنبية عن الأراضي اللبنانية، وليخرج معها عملاؤها وواجهاتها السياسية!