ما هو الدستور؟ انه النظام الاساسي والعضوي الذي يتضمن مجموعة القواعد المتعلقة بالنظام القانوني والاجتماعي للدولة، ويعنى بتنظيم السلطات المنبثقة عن الارادة الشعبية على اساس القيم التي يرتضيها المجتمع وفي طليعتها الحرية. وفي الدستور اللبناني فإن جوهر هذه القيم هو ما اصطلح المجتمع الدولي على تسميته بعبارتي "حقوق الانسان" و"الحقوق المدنية والسياسية". ولما كان الدستور اللبناني الصادر في 23 ايار مايو 1926 هو الضامن الاول للحقوق الانسانية والمدنية والسياسية وللنظام الديموقراطي السياسي الحر في لبنان، ولما اصبح من المعروف والذائع ان الحقوق التي يضمنها وسائر احكامه تتعرض لانتهاكات متمادية، ولم يعد خافياً انه يعاني من ازمة مستمرة ومتعددة الوجوه، ادت الى تعطيله عملياً، اصبح من المشروع طرح السؤال: من يحمي الدستور؟ ليس الغرض من هذا العرض تقديم دراسة نظرية بل القاء الضوء على مشكلة يعتبرها الكاتب في جذور المشكلة السياسية اللبنانية، بل ربما اساس المصيبة التي حلّت بالجمهورية وطناً وشعباً، وما تزال. وللتذكير فإن الدستور اللبناني هو عمل لجنة خاصة انبثقت عن المجلس التمثيلي اللبناني في مطلع عهد الانتداب الفرنسي وشارك في اعمالها ممثل عن المندوبية السامية بإشراف عضو مجلس الشيوخ الفرنسي هنري دو جوفنيل الذي تم تعيينه مندوباً سامياً، ومن ضمن مهماته تنفيذ موجبات الدولة الفرنسية وفقاً لصكّ الانتداب الصادر في 24/7/1922 ومنها صدور دستور لبناني خلال فترة لا تزيد عن ثلاث سنوات. وكان طبيعياً ان يتأثر واضعو الدستور اللبناني بالمبادئ الدستورية التي كانت سائدة في فرنسا وقامت عليها الجمهورية الثانية، واستندت بدورها الى التراث الفرنسي المنبعث من الثورة الفرنسية واعلان حقوق الانسان والمواطن. وخلال فترة الانتداب الفرنسي على لبنان، فإن التأثير القانوني الفرنسي كان دائماً طليعياً ومن النوع المتقدم حتى على ما كان يُطبّق في فرنسا. ونظراً الى أن كيان الدولة يقوم برمّته على اساس الدستور، فإنه لا يعقل ان يصدر عن السلطة الاشتراعية قانون يتعارض مع الدستور اذ يؤلف ذلك، في حال حصوله، نوعاً من الانتحار. وهو مبدأ بديهي، وإن لم يُنص عليه في الدستور. وهذا المبدأ الذي يضع واجب حماية الدستور على السلطات المنبثقة عنه ابتداء من السلطة التشريعية وانتهاء بالسلطة القضائية، يطبق على عدد من المراحل. والمرحلة الاولى هي خلال مناقشة مشروع القانون في البرلمان. فاذا تبين ان فيه ما يتعارض مع الدستور فان الاقلية تلجأ الى القضاء للاستحصال على حكم بإبطال القانون. وفي فرنسا التي يتخذ منها اللبنانيون نموذجاً يحتذى فإن دعوى الإبطال تقع ضمن صلاحية المجلس الدستوري. اما اذا لم تُقدم دعوى الإبطال وبقي القانون اللادستوري ساري المفعول، فإن في إمكان كل متقاض في دعوى تُثار فيها مسألة تطبيق القانون المذكور ان يدفع بعدم دستوريته وهنا، واذا اقنتعت المحكمة بهذا الدفع، فإنها تمتنع عن تطبيقه. واذا كان على السلطة القضائية ان تمتنع عن تطبيق القوانين غير الدستورية، فإن عليها، من باب اولى، ان تطبّق الدستور مباشرة، ولا سيما في الشؤون المتعلقة بضمان الحقوق المدنية والسياسية والحريات العامة. إذن، فإن عدم طرح مشاريع قوانين لادستورية، وعدم إقرارها، وعدم تطبيق القوانين اللادستورية، وتطبيق الدستور مباشرة، هي وجوه مختلفة لواجب حماية الدستور، ما يضمن استمرار احترامه ورفعة شأنه والتأكد من قيامه بمهامه وفي طليعتها ضمان الحريات والحقوق والنظام الديموقراطي الحر. ولا يثير هذا الموضوع ازمات مصيرية في فرنسا، لأن البرلمان الفرنسي نادراً ما يصدر قانوناً مخالفاً للدستور او يُطْرح عليه مشروع لهكذا قانون، وان فعل فإن ذلك يكون من باب الخطأ او سوء الاجتهاد، وسرعان ما يصحح الخطأ بواسطة واحدة او اكثر من الوسائل/ المصافي المشار اليها. وقد يكون البرلمان ذاته بالتصحيح الواجب عن طريق تعديل القانون عند الانتباه الى الخطأ. ولا بد من التنويه بأن الضمانة الأولى والأهم لعدم صدور قوانين فرنسية مخالفة للدستور الفرنسي هي نزاهة السلطات والجهات المشاركة بصورة مباشرة او غير مباشرة في صياغة القوانين واقتراحها وسنها، وبالدرجة الاولى اشخاصها. فان اقتراح او سن تشريع لادستوري بصورة واضحة يشكل فضيحة قد تطيح بالحكومة او تؤدي الى حل البرلمان واجراء انتخابات جديدة فالمسألة جدية جداً ولا تحتمل أي هزل. اما في الولاياتالمتحدة الاميركية فإن الوضع هو اكثر يسراً لان كل المحاكم تنظر في دستورية القوانين بلا أي حرج، وتسارع كلما وجدت نفسها امام حالة لادستورية قانون الى اعلان هذه الحالة بلا تردد! فما هو الوضع في لبنان؟ المجلس الدستوري هو مؤسسة لبنانية حديثة وعلى رغم ان التعديلات الصادرة عام 1989 الطائف أوجبت انشاءه، فإن نظامه صدر بقانون عادي لا يعتبر قانوناً مثالياً. ونصّت المادة 18 من القانون المذكور رقم 25 تاريخ 14/7/1993 على ما يأتي: "المادة 18 - يتولى المجلس الدستوري الرقابة على دستورية القوانين وسائر النصوص التي لها قوة القانون. خلافاً لأي نص مغاير، لا يجوز لأي مرجع قضائي ان يقوم بهذه الرقابة مباشرة عن طريق الطعن او بصورة غير مباشرة عن طريق الدفع بمخالفة الدستور او مخالفة مبدأ تسلسل القواعد والنصوص". وقد جاء هذا النص بمثابة جرعة السمّ لما تبقى من قدرة القضاء على مقاومة القوانين غير الدستورية، فإن قانون اصول المحاكمات المدنية الصادر عام 1934 م2 كان يمنع على المحاكم النظر في صحة اعمال السلطة الاشتراعية من جهة انطباق القوانين على الدستور، ولكنه لم يوجب عليها تطبيق قانون لادستوري يدفع احد المتقاضين بوجوب عدم تطبيقه. وكذلك فان قانون اصول المحاكمات المدنية الجديد الصادر عام 1983 م2 منع على المحاكم اعلان بطلان القوانين لعدم انطباقها على الدستور. لكن أيّاً من التشريعين المذكورين لا يمنع الدفع بعدم الدستورية ما يعني جواز عدم تطبيق القانون اللادستوري في الحالة المعروضة امام القضاء. هل هناك قوانين لبنانية نافذة وتطبق على رغم مخالفتها للدستور؟ الجواب: نعم! ويا لكثرتها ولتزايد عددها! وفي ما يأتي بعض الامثلة. نبدأ بحرية الرأي قولاً وكتابة وطباعة المكفولة بالمادة 13 من الدستور، إذ يواجهنا اكبر تجمع للقوانين المخالفة للدستور بل المعادية له. فالمرسوم الاشتراعي الرقم 74 تاريخ 13/4/1953 الصادر عن حكومة موظفين في عهد رئاسة كميل شمعون منع اصدار صحيفة سياسية جديدة الا لمن كان يملك صحيفتين سياسيتين قديمتين يوقفهما عن الصدور! أيْ انه منع اصدار الصحف السياسية منعاً كاملاً. ويشكل المرسوم الاشتراعي الرقم 104 تاريخ 30/6/1977 المعروف بقانون المطبوعات انتهاكاً واسعاً لأبسط معالم حرية الرأي والقول والطباعة والنشر. ونتوقف عند المرسوم الاشتراعي الرقم 2 تاريخ 1/1/1977 الذي يخضع المسرحيات لمراقبة مديرية الامن العام المسبقة، وكذلك الافلام السينمائية! ولا بد ان ننوه بلادستورية قانون الاعلام المرئي والمسموع الاخير الذي أدى الى جعل البث الاذاعي والتلفزيوني احتكاراً لأرباب السلطة وحواشيهم واقربائهم. كل هذه النصوص اللادستورية غير قابلة للتطبيق، فإذا اصدر لبناني صحيفة من دون الحصول على الترخيص المستحيل وجرت ملاحقته امام المحاكم المختصة فان في إمكانه في آن 1 ان يطلب تطبيق الدستور الذي يكفل حرية الرأي والقول والطباعة والنشر و2 ان يدفع بلادستورية القوانين التي تقيد هذه الحرية بل وتقضي عليها. لكن المحاكم اللبنانية تتألف اليوم من قضاة يوافق معظمهم على انهم ممنوعون من قبول الدفع بلادستورية القوانين المخالفة للدستور خصوصاً بمفعول الفقرة الثانية من المادة 18 من قانون المجلس الدستوري ويمارسون مهماتهم على هذا الاساس. فهل هم على حق؟ الجواب هو بالنفي. إذ ان الفقرة الثانية من المادة 18 المذكورة مخالفة للدستور وغير قابلة للتطبيق. واذا طبّقنا الفقرة المذكورة فإن اللبنانيين لا يعودون سواء لدى القانون وفقاً لأحكام المادة 7 من الدستور إذ يفقدون حقاً من حقوقهم الطبيعية والانسانية، وهو حق التقاضي ومن ضمنه الحق في طلب تطبيق الدستور وما يتماشى معه من القوانين من دون سواها. وننتقل الى مثال آخر هو الحرية الشخصية المكفولة في المادة 8 من الدستور والتي تتضمن مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات. إلا أن حرية اللبنانيين تنتهك يومياً فُرادا وجماعات على أيدي رجال الشرطة والدرك ورجال المخابرات اللبنانيين وغير اللبنانيين. وفي كل مخفر من مخافر قوى الأمن الداخلي سجن يحبس فيه الناس بصورة مخالفة للقانون. وكثيرون من المدعين العامين ومعاونوهم ينصبون أنفسهم سلطة ملاحقة وتحقيق وحكم في آن معاً بل ويفوضون هذه السلطة الى رجال أمن لا يتمتعون بذرة صلاحية أو ذرة معرفة أو ذرة نزاهة. فأين هي المحكمة اللبنانية التي تصر على تطبيق المادة 8 من الدستور وترفض أي نص قانوني مخالف لها؟ وهناك حق المساواة المكرس بالمادة 7 من الدستور، حيث لا يجوز التمييز بين الناس بسبب الذكورة والانوثة، والدين والطائفة. وكم هي القوانين النافذة المفعول التي تطبق بصورة مخالفة لهذا الحكم الدستوري الصريح؟ وننتقل الى حق الملكية الخاصة المكرس بالمادة 15 من الدستور، والذي تخالفه القوانين الكثيرة ومن أسطعها القانون رقم 117/91 الذي انشئت بموجبه شركة سوليدير ولا تزال تُنشأ شركات مماثلة لها في مختلف الأراضي اللبنانية. ويؤسف الكاتب ان يشهد انه سمع عدداً كبيراً من القضاة يستنكرون القانون المذكور ويجزمون بعدم دستوريته وعدم دستورية سوليدير لكنهم يعتبرون أنفسهم مجبرين على تطبيقه! فكيف يكون ذلك، وكيف يرضى قاضٍ لنفسه بأن يضع جانباً نصاً دستورياً ساطعاً ويطبق تشريعاً مخالفاً للدستور بصورة أكيدة وصريحة؟ من كل ما تقدم، يتبين تدهور بل تعفن الضمانات الأساسية المطلوبة للقانون الأساسي الذي هو الدستور في مختلف وجوهها ومراكزها: فالضمانة الأهم هي النزاهة المقترنة طبعاً بالمعرفة والجرأة في أشخاص القائمين بمختلف السلطات والتي تلزم بحد ذاتها باحترام وتطبيق الدستور وعدم تشريع أي قانون مخالف له واهمال مثل هذا التشريع ان صدر. هذه النزاهة لا أثر لها. وأدنى درجات الضمانة هي قيام المحاكم بتطبيق الدستور ان مباشرة بإعمال أحكامه أو بصورة غير مباشرة بإهمال النص المخالف له، لكنها محظورة بنص قانوني مخالف للدستور وبتوجيهات وزارة العدل! ومعظم القضاة يتقيدون بهذا الحظر بصورة خاطئة. والضحية هو الدستور الذي أصبح مريضاً، ولا من يدافع عنه. فما هو الحل؟ ومن يحمي الدستور؟ الجواب بسيط: عندما تصبح السلطات العامة المنبثقة عن الدستور والتي يقع على عاتقها واجب حمايته غير قادرة على توفير هذه الحماية أو تخل بهذا الواجب عن قصد أو عن اهمال، فإن هذا الواجب ينتقل الى الشعب، الذي هو مصدر السلطات. إذ يفقد الأشخاص الذين كانوا يتولون تلك السلطات باسم الشعب مشروعيتهم. ويصبح من حق الشعب وواجبه القيام بعمل لانقاذ النظام الديموقراطي الحر وإعادة توفير الضمانات اللازمة للحريات والحقوق بتأمين الدفاع الصحيح عن الدستور. الشعب اذن هو صاحب الدستور، وفي آخر المطاف فإن الشعب هو الذي يحمي الدستور. وتصبح المسألة هي كيف يتولد الوعي الشعبي الذي يؤدي الى هذه القناعة مما يمكنه من ممارسة هذا الدور. ويتوقف الأمر على وجود أحزاب وقوى ضغط سياسي وطنية تقف الى جانب الدستور وترى ان لها مصلحة في الدفاع عنه لا العكس. لذلك فإنه من الضروري لاستكمال هذا الطرح التساؤل عن سبب اختلال السلطات العامة، وعجز الأحزاب وقوى الضغط السياسي عن لعب دورها المفترض، هذا ما نتناوله لاحقاً. * محام لبناني.