في الوقت الذي تركز معظم المتابعات لمحاكمة غارودي على الجوانب القانونية ودلالاتها السياسية، فإن التحليل المتعمق لآليات الخطاب المستخدم من قِبَلْ الادعاء في هذه المحاكمة يكشف عن أن الأبعاد الفكرية وآليات التشويه والصور النمطية STREO-TYPES كان لها الدور الأكبر خلال جلسات المحاكمة التي امتدت لساعات طويلة على مدار ثلاثة أيام كاملة من 7 إلى 15 كانون الثاني يناير الماضي. ويمكن تفسير هذه "الاستغاثة" بالفكر وآليات التشويه والصور في ضوء حجم وأهمية القضية بالنسبة الى الادعاء اذ جندت الجمعيات اليهودية، رافعة الدعوى، أربعة عشر مكتباً للمحاماة وفريقاً كبيراً من الشهود، في هذه القضية. وليس أدل على مركزية الجانب الفكري في مداولات هذه المحاكمة من كون المتحدث الرئيسي الذي اختاره فريق الادعاء كان السيد جاك تارديرو الباحث في المركز الوطني للدراسات والأبحاث في باريس. أما الدليل الثاني فقدمه القاضي بنفسه، إذ بدأ المحاكمة بمفهوم واسع للقضية كقضية فكرية تتعلق بمفكر كبير، إذ سأل غارودي عن تحولاته الفكرية قبل أن يطلب إليه سرد سيرة حياته الفكرية كاملة. كما لوحظ أن القاضي لم ينجح بعد ذلك في تغيير مسار المحاكمة في اتجاه مفهوم ضيق يقتصر على جوانبها القانونية المحضة، وتبين مدى مخالفة الآراء الواردة بين صفحتي 72 و147 من كتاب "الاساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية"، لقانون "جيسو - فابيوس" وبخاصة المادة 24 منه، ذلك أن اسئلة الادعاء وردود غارودي المطولة كانت أبحرت فعلاً في اتجاه قضايا فكرية لا تخرج عن حدود تلك الصفحات المشار اليها فقط، بل وتخرج عن حدود الكتاب برمته. ولا تهدف السطور التالية، بحال من الأحوال، الى الدفاع عن الآراء والمواقف الفكرية العديدة التي تبناها غارودي خلال مسيرته الفكرية والروحية - وهي عملية نقدية تخرج عن حدود هذا المقال المحدود - بقدر ما تهدف الى كشف دور الأفكار وفن صناعة الصور النمطية في هذه المحاكمة الفريدة. الصورة الأولى: "باحث غير نزيه" تمثل الموضوعية Objectivite في مقابل الذاتية Subjectivite أحد الأسس التي تقوم عليها الكتابة العلمية، بمعنى أن المهم هو الموضوع والنتائج وليس ذات الباحث، لذا يحرص الاكاديميون - في بعض مدارسهم - على أن تتوارى ذواتهم في ما بين السطور، فالباحث لا يطرح رأيه لأي مسألة في شكل فج مباشر، بل إن هذا الرأي يظهر من خلال طريقة الباحث ومنظوره الخاص في صوغ الموضوع وتحرير استشهاداته الموثقة ذات الاعتبار. إلا أن غارودي يتخلى في هذا الكتاب بالذات عن هذا النهج، ربما لحساسية الموضوع، وربما لتقديره وتوقعه لحملة تشكيك من قبل اللوبي الصهيوني. لذا نجده يتبع اسلوباً آخر، إذ يتعمد التمييز بوضوح بالغ بين الاقتباسات من النصوص المقدسة أو أقوال رجال الدين من اليهود أو المؤرخين نسبة كبيرة منهم من اليهود وبين رأيه وتعليقاته. وهكذا تتوالى الاقتباسات ثم المصادر داخل متن الكتاب - وليس في الهامش كما هو معتاد - وهو الأسلوب الذي وصفه البعض بأنه "مدرسي وممل". لقد أراد غارودي أن يؤكد أنه لم يأت سوى بفهم جديد متكامل لعملية توظيف الصهيونية للاساطير اليهودية القديمة والمبالغات حول ما تعرض له اليهود، وهو ما تحول بدوره الى اساطير حديثة، وذلك اعتماداً على النصوص من التوراة واقوال رجال الدين اليهودي ورجال السياسة الصهيونية والمؤرخين والوثائق التاريخية. ولكن، على رغم أن غارودي غامر - ككاتب - باتباع هذا النهج "المدرسي الممل" دفعاً للشبهات، إلا أن ذلك كله لم يمنع الادعاء والقاضي من التشكيك في نزاهته وأمانته العلمية، "كان ينبغي عليك توخي الدقة في التمييز بين رأي الآخرين ورأيك"! الصورة الثانية: "محتال ثقافي"! اتهم محامي فريق الادعاء غارودي بنصب فخ للأب بيير، عندما تحايل للحصول على دعمه المعنوي للكتاب من دون قراءته !! وأنه - أي غارودي - سعى الى الايقاع بالأب كاردينال في الفخ نفسه. ولا نعتقد بأن عاقلاً يمكن أن يصدق أن شخصية دينية بثقل الأب بيير، ووعيه بالحساسية الدينية والسياسية لتهمة معاداة السامية، وتقديره لحساسية رأيه كشخصية اعتبارية بصفته صاحب الشعبية الأكبر في الاستفتاءات الفرنسية يمكن له أن يتعامل بمثل هذه البساطة والخفة مع مثل هذا الموضوع ويقدم تأييده المعنوي لكتاب صديقه غارودي من دون أن يقرأه لاحظ أن محاولة إدانة كتاب غارودي السابق العام 1987 ليست ببعيدة. أما الحقيقة التي تغافل عنها محامي فريق الادعاء فهي أن الأب بيير - على مكانته الكبيرة - تعرض لضغوط ومضايقات بالغة من قبل الجمعيات اليهودية والصهيونية، كان آخرها المثول للاستجواب لمدة ساعتين ونصف الساعة أمام رئيس رابطة "ليكرا" ما أسفر عن إدانة الرجل وإسقاط عضويته في الرابطة الأب بيير عضو شرفي في العديد من الروابط الفرنسية. تلا ذلك حملة تشهير لوحت باتهام الأب بيير هو الآخر بمعاداة السامية، ما اضطر الرجل الوقور للتوقف لفترة عن الادلاء بأي تصريحات حول الموضوع. إلا أنه خرج عن صمته أخيراً في رسالة بعث بها الى غارودي قبيل المحاكمة تلا غارودي مقاطع منها أمام القاضي. الصورة الثالثة: "غارودي يساوي لوبن" اتهم محامي ليكرا غارودي بالتحالف مع اليمين العنصري في فرنسا ضد اسرائيل واليهود، ووصف أطروحاته بأنها هي نفسها أطروحات جان ماري لوبن. ويعكس هذا الاتهام تعمداً واضحاً لخلط الأوراق والقفز على الحقائق، إذ يتم عمداً إغفال التباين والخلاف الواضح بين غارودي وبين لوبن في ما يتعلق بالموقف إزاء الأقليات والأجانب في فرنسا، وهما موقفان متعارضان بشكل جذري. فشعار المستقبل "فرنسا للفرنسيين" الذي يطرحه لوبن يقوم على موقف عنصري إزاء الاقليات والاجانب، كما يربط بينهم وبين مشكلة البطالة في فرنسا، على اعتبار أن هؤلاء اخذوا وظائف الفرنسيين، ما زكى المشاعر العنصرية في فرنسا فعلاً خلال السنوات الأخيرة، وأسهم في خلق المناخ المسموم الذي صاحب حوادث قتل بعض العرب من المغاربة ونبش قبور اليهود. أما غارودي - وعلى النقيض تماماً - فيتناول الموضوع في سياقه التاريخي، إذ ان فرنسا هي التي استدعت الاجانب اساسا بهدف المساهمة في إعادة إعمار البلاد منذ فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. والأكثر من ذلك أن غارودي ينتقد الأحزاب الفرنسية التي تحاول مواجهة لوبن وتياره العنصري ولكنها تسلم بقواعد لعبته العنصرية من حيث المبدأ، مثل لوران فابيوس رئيس الجمعية الوطنية ورئيس الحكومة السابق الذي عبر عن هذا الموقف بقوله "يقدم لوبن أجوبة فاسدة على مسائل صحيحة". وكان غارودي عبر عن موقفه المناهض للعنصرية سواء ضد اليهود أو ضد العرب المغاربة بقوله "لقد كان اليهودي هو كبش المحرقة، وتحمل كل تعاسات ألمانيا، كما هو المغربي اليوم، في نظر لوبن، مسؤول عن البطالة وعن نقص المساكن وانعدام الأمن في فرنسا" الاصوليات الجديدة. الصورة الرابعة: "راديكالي ذو تفكير أحادي البُعد" تبدو هذه الصورة غريبة عما هو معروف عن التاريخ الفكري لغارودي. فبصرف النظر عن تقييم هذا التاريخ، إلا انه اتسم دائماً بالطابع الموسوعي متعدد الجوانب والمستويات، المستوعب للنظم المعرفية على تباينها، حيث يتداخل لديه التحليل الاقتصادي - الاجتماعي - السياسي بالرؤية الفلسفية والتجربة الإيمانية والخبرة الجمالية والفنية. وعلى كل حال، فإن تفنيد هذه الصورة لم يأت على لسان غارودي، بل جاء على لسان أحد الشهود ذوي الصدقية ألا وهو الراهب بارمنثيير الذي ذكرّ الحاضرين بالحوار الذي أداره غارودي بين الماركسيين والمسيحيين في سنوات الخمسينات والستينات، وأنه كان الوحيد من الماركسيين القادر على تفهم قيمة الأبعاد الإيمانية وما يمكن أن تقدمه الروحانية المسيحية من خدمات جليلة للنضال من اجل التقدم في فرنسا، وذلك في مواجهة شجاعة لمناخ ماركسي أحادي البُعد رافض لمثل هذا الحوار. وأدار غارودي حواراً خصباً آخر منذ نهاية الخمسينات مع التيارات الفكرية الفاعلة كافة في فرنسا: مع الوجودية سارتر والفلسفة الكاثوليكية خصوصاً موريس بلوندول وتيار دي شاردان والبنيوية كلود ليفي شتراوس. أما الدليل الناصع على الطابع التركيبي الخلاق المتعدد الجوانب لفكر غارودي - نكرر أياً كان الخلاف المشروع معه - فهو قدرته كفيلسوف غربي على تجاوز المركزية الغربية، قدرته على تفهم خصوصيات تطبيق الاشتراكية في الستينات التسيير الذاتي في يوغوسلافيا والخصوصية الثقافية للاشتراكية الصينية خصوصاً، وأخيراً قدرته على تفهم الثقافات والحضارات غير الغربية من داخلها ووفق منطقها الذاتي - في حدود قدرته كغربي - منذ بداية السبعينات. الصورة الخامسة: "مفكر متقلب" كرر رئيس فريق الادعاء هذا الاتهام الشائع لغارودي، فهو مفكر متقلب، انتقل من الماركسية الى المسيحية الى الاسلام، وهي التقلبات التي وصفها القاضي بأنها كانت مفاجئة. وعلى أي حال فقد سبق توجيه ذلك الاتهام لغارودي من قبل الماركسيين الارثوذكسيين مرة، ثم من قبل قطاع من الاسلاميين مرة أخرى. وإذا كان المجال المحدود في هذا المقال لا يتيح الفرصة للتعمق في تحليل هذه المسألة الجوهرية التي تتعلق بفهم الطبيعة الخاصة لمجمل المسار الفكري والروحي لغارودي، وهل يعبر عن تحول أم عن تطور، عن انقطاع أم عن تركيب متواصل؟ فإنه تجدر الإشارة باختصار الى ان تطورات فكر غارودي - ولا نقول تحولاته - لم تكن "مفاجئة" بحال من الأحوال. فالمنظور الماركسي الارثوذكسي يتغافل عن ان آراء غارودي التجديدية - ولا نقول التحريفية - خلال الستينات لم تكن وليدة فراغ، بل كانت وليدة إطلاعه المبكر على مصادر ماركسية ذات اعتبار ترفض التأويل المادي الضيق للماركسية من قبيل "الدفاتر الفلسفية" للينين و"مخطوطات 1844" لماركس، وأطروحاته حول الجانب الإبداعي الفاعل للمعرفة، وأنها - أي المعرفة - ليست مجرد انعكاس آلي للواقع المادي. تجديدات غارودي للفكر الاشتراكي تمت عبر استدعائه لكتابات ماركس الشاب وهيجل وفيخته ثم موريس بلوندل وغاستون باشلار. وعلى مستوى آخر فإن اتهامه بالتحول الطفري المفاجئ الى الإسلام يتغافل عن خبرات غارودي واحتكاكه بحضارة الإسلام منذ سنوات الاربعينات التي قضى جزءاً منها في الجزائر ووضع كتابه المبكر والمهم - والذي يتم التغافل عنه ايضاً - "الإسهام التاريخي للحضارة العربية في الحضارة العالمية" 1946. الصورة السادسة: "مفكر ساقط يبحث عن دور" جاءت هذه الصورة على لسان ممثل "رابطة الرياضة والثقافة" التي وصفها محامي الادعاء بأنها تهدف الى تعريف الثقافة اليهودية الى الآخرين لا ندري ما علاقة الرياضة بهذا الهدف الديني. المهم أن ممثل الرابطة يعتقد بأن غارودي أراد أن يصبح أحد المفكرين اللامعين في فرنسا. إلا أنه، مع الأسف، لم يحقق هذا الهدف، إذ فشل مشروعه الثوري وشعر بأن فشل هذا التنظيم هو فشله الشخصي. ولكن الرجل كان فعلاً واحداً من أبرز وجوه الثقافة والفكر ليس في فرنسا وحدها بل وخارج حدود أوروبا ذاتها. فمنذ بداية الخمسينات كان غارودي منظراً لواحد من أكثر الأحزاب الاوروبية ارتباطاً بالحركة الثقافية، وكان كتابه "النظرية المادية في المعرفة" بمثابة المرجع الأكثر عمقاً جنباً الى جنب مع كتابات المنظرين السوفيات. ومنذ نهاية الخمسينات كانت تجديداته للفكر الاشتراكي وانفتاحه على المسيحية وعلى التيارات الفكرية في اوروبا، كل هذا كان محل اهتمام كبير، إذ ترجمت هذه الكتب الى لغات عدة. أما كتابه النقدي المهم "واقعية بلا ضفاف" فقد أحدث ما يشبه الثورة في النظرية النقدية وقت صدوره. أما القول أن فشل الحزب الشيوعي الفرنسي - إن كان ثمة فشل يمكن الحديث عنه لهذا الحزب بالذات - هو فشل لغارودي شخصياً، فإننا نتصور أن العكس هو الصحيح تماماً، فلقد سبق غارودي الجميع عندما تنبأ بسقوط النموذج السوفياتي للاشتراكية الذي اختزل هدفه الاستراتيجي في "اللحاق" بالأنظمة الرأسمالية في السباق الاقتصادي العالمي، متخلياً بذلك عن السعي الى خلق نمط بديل للحياة، تلعب فيه القيم الثقافية والروحية دوراً مركزاً. ولقد كان هذا السقوط المدوي - في بعض جوانبه - تأكيداً لدعوة غارودي لتطوير نماذج بديلة للاشتراكية حسب خصوصيات كل مجتمع، وفي ضوء فهم عميق للثورة العلمية والتقنية الجديدة التي غيّرت وجه العالم ماركسية القرن العشرين 1966، منعطف الاشتراكية الكبير 1969. هل الكتاب خارج عن السياق الفكري لغارودي؟ يرتبط بالصورة السابقة تلميح إحدى المنظمات الصهيونية الى أن الكتاب "لم يكن له مبرر"، وأن شخصاً آخر ربما كتب هذا الكتاب لغارودي يقصد لأغراض سياسية. والسؤال الجدير بالطرح هنا هو سؤال حول موقع الكتاب ضمن مجمل الانتاج الفكري لغارودي، ومدى اتساق موضوعه مع اهتماماته الفكرية عموماً، وهل هو نشاذ مفتعل حقاً ضمن هذا السياق؟ اهتمام غارودي بالديانات بما فيها اليهودية والرؤى الكلية الى الوجود لدى الحضارات المختلفة هو اهتمام أصيل وقديم، وإن برز كموضوع رئيسي منذ كتابات السبعينات حوار الحضارات، نداء الى الأحياء. أما تقديره لليهودية - ضمن الديانات والرؤى الإنسانية الأصيلة - فليس محل شك، إذ يعتبر أنها "تقدمت تاريخياً وأكدت خصوصيتها لا في عزلة مضطربة ولكن من خلال انفتاحها وقبولها للاخصاب المتبادل مع الرؤى الأخرى للعالم حيث تفاعلت بشكل خلاق مع الافلاطونية الجديدة ومع التصوف المسيحي والإسلامي". نداء الى الأحباء Appel aux vivants 1979. وإذا كانت كتابات السبعينات تؤكد أن السمة الايجابية لكل الأديان والرؤى الأصيلة إنما تتمثل في الانفتاح بشكل إنساني على كل البشر وكل الرؤى، فلا غرابة في تمييزه في كتابات الثمانينات بين هذا النهج الإيجابي وبين نهج آخر سلبي في تفسير النصوص المقدسة بشكل سياسي قبلي عنصري يقصر هذا الدين أو ذاك على شعب متميز دينياً عن غيره من الشعوب، بناء على اختيار الرب له. إذن فهذه الفكرة الجوهرية الواردة في كتاب "الأساطير..." ليست طارئة على كتابات غارودي بحال من الأحوال. ولم تكن اليهودية هي الديانة الوحيدة التي انتقد غارودي جمودها في شكل نظرية سياسية رسمية تتسم بالصحة المطلقة في مواجهة أي تأويل آخر غير سياسي، فقد سبق له أن طبّق المنهج نفسه في نقده للجمود الكاثوليكي في كتابه "هل نحن بحاجة الى الله؟"، ثم الجمود الإسلامي في كتابه "عظمة الإسلام وانحلاله"... بل سبق له تطبيق المنهج نفسه على الإيديولوجيات الماركسية والعلمانية في كتاب "الاصوليات المعاصرة". وعبّر القاضي عن هذه الملاحظة - بموضوعية هذه المرة - عندما أشار الى أن "غارودي تعرض الى كل أنواع التعصب في الديانات جميعاً، ولم يحتج عليه سوى اليهود".