لا تكتسب بالزواج.. تعديلات جديدة في قانون الجنسية الكويتية    الدفعة الثانية من ضيوف برنامج خادم الحرمين يغادرون لمكة لأداء مناسك العمرة    يونس محمود ينتقد ترشيح المنتخب السعودي للقب كأس الخليج    الشرقية تستضيف النسخة الثالثة من ملتقى هيئات تطوير المناطق    تحت رعاية خادم الحرمين.. «سلمان للإغاثة» ينظّم منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع فبراير القادم    سلمان بن سلطان يدشن "بوابة المدينة" ويستقبل قنصل الهند    افتتاح إسعاف «مربة» في تهامة عسير    رضا المستفيدين بالشرقية استمرار قياس أثر تجويد خدمات "المنافذ الحدودية"    بلسمي تُطلق حقبة جديدة من الرعاية الصحية الذكية في الرياض    وزارة الداخلية تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    "مستشفى دلّه النخيل" يفوز بجائزة أفضل مركز للرعاية الصحية لأمراض القلب في السعودية 2024    وزارة الصحة توقّع مذكرات تفاهم مع "جلاكسو سميث كلاين" لتعزيز التعاون في الإمدادات الطبية والصحة العامة    أمانة جدة تضبط معمل مخبوزات وتصادر 1.9 طن من المواد الغذائية الفاسدة    نائب أمير مكة يفتتح غدًا الملتقى العلمي الأول "مآثر الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- وجهوده في الشؤون الدينية بالمسجد الحرام"    السعودية تستضيف الاجتماع الأول لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب    المياه الوطنية: خصصنا دليلًا إرشاديًا لتوثيق العدادات في موقعنا الرسمي    ارتفاع أسعار النفط إلى 73.20 دولار للبرميل    وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    التحذير من منتحلي المؤسسات الخيرية    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



غارودي إذ يحذف ويعدّل ويتراجع تكتيكياً . وضع المحرقة في منظار عادل هو الجواب على ... المغالاة
نشر في الحياة يوم 29 - 03 - 1998

مع أن محاكمة السيد روجيه رجا غارودي قد انتهت قانونياً، فإن ذيولها وأصداءها لا زالت تتواصل فرنسياً وعربياً ويهودياً. وقد تكون المغالاة هي الصفة البارزة التي طغت على ردود الأفعال، وعلى قسم كبير من السلوكات الذهنية، التي لابست المناظرة الدائرة حول كتاب غارودي "الأساطير المؤسسة للسياسة الاسرائيلية"، وحول مثوله أمام المحكمة في باريس. والمغالاة، كما نعلم، تفتح الباب على مصراعيه، أمام الأهواء والانزلاقات والمبالغات الناجمة كلها عن النزعة السجالية ومقتضياتها.
ومغالاة الهيئات العربية في تضامنها مع السيد غارودي، بدون أي قيد أو شرط، هي أشد مضاضة من غيرها، لأسباب بديهية، وكان حرياً بهذه الهيئات المشتملة على كتّاب ومثقفين وعاملين في المهن الحرة من المحسوبين على "طبقة وسطى" يحسب لها اعمال النظر والنقد العقلاني وصيانة الحريات، كان حرياً بها أن تبدي في أقل تقدير، بعض التشدد والتحفظ والتمسك بمبدأ المسؤولية والمحاسبة حيال صنيع السيد غارودي، على الأقل حيال بعض وجوه هذا الصنيع والتي، هي دون غيرها، جعلته يمثل أمام المحكمة ويتلقى حكماً بالادانة وبغرامة 120 ألف فرنك فرنسي. وما يستدعي هذا التشدد يعود بالضبط وبالذات الى الاعتبارين اللذين جعلتهما الهيئات العربية ذريعة قصوى للتضامن المحموم مع غارودي ظالماً أم مظلوماً. والسببان هذان هما تأييد غارودي للحق الفلسطيني واعتناقه الاسلام. أي ان إفصاح الرجل عن التحامه بهذين الاعتبارين لا يعصمه عن الخطأ، ولا يجيز له أن يقول أي كلام. بعبارة أخرى لا يجوز ولا ينبغي، من حيث المبدأ، أن يتحول الحق الفلسطيني واعتناق الاسلام الى مطيّة للأهواء خصوصاً عندما تكون هذه المطية تصفية حسابات فرنسية - فرنسية.
لتكن نقطة الانطلاق المقاطع التي حذفها غارودي عندما أصدر الطبعة الثانية على نفقته الخاصة في ربيع 1996 أي بعد أشهر قليلة من صدور الطبعة الأولى، أواخر 1995، ضمن منشورات "لافيي توب" المتخصصة مع صاحبها بيار غييوم في فنون "المراجعة" والنفي. والحق أن المقارنة بين الطبعتين جاءت إثر قراءتي لمقالة عن جلسة محاكمة غارودي، نشرتها جريدة "لاكروا" المسيحية المعتدلة والمنفتحة في عددها الصادر يوم السبت في 11/1/1998. ويظهر من وقائع الجلسة ان السيد غارودي سعى الى التقليل من شأن المسائل التي تضمنها كتابه. فعندما طرحت قضية غرف الغاز، أجاب غارودي، بحسب الجريدة المذكورة والتي لا تكن له أي عداء وان كانت تأسف على بعض صيغه: "غرف الغاز؟ هذه مشكلة لا أملك الكفاءة والأهلية للبت فيها، ما أطلبه هو فقط اقامة مناظرة حولها".
وعندما أشار رئيس المحكمة جان - إيف مونفور، مخاطباً غارودي، الى أن هذا الأخير حذف من الطبعة الثانية لكتابه بعض المقاطع، وبالتحديد المقطع الذي يتحدث عن القمع الذي تعرض له مراجعون ذائعو الصيت، مثل روبير فوريسون وهنري روك اللذين كانا حاضرين في قاعة المحكمة، حاول غارودي التخفف من وطأة صحبة مشبوهة مع "النافين" للمحرقة، فقال: "لقد حذفت أشياء معينة لأنني لم أكن أريد اخراج الكتاب عن محوره المركزي. وأنا آسف لأنني لم أحذف أيضاً مقاطع أخرى، ولأنني بالغت في الاصرار على الجانب التاريخي". ثم أضاف السيد غارودي: "لقد نعتني فوريسون بأنني جبان، ووصفني المراجعون بأنني متملق، وذلك لأنني لم أدن اليهودية".
حذف وتعديل
المقارنة بين الطبعتين تظهر أن السيد غارودي ادخل تعديلات طفيفة على بعض العبارات، وأنه حذف بالفعل مقاطع، من بينها المقطع المشار إليه وفيه لائحة بالمراجعين والنافين الذين يطلق عليهم بسخاء اسم "المؤرخين النقديين". فهو يتحدث في الطبعة الأولى ص 119 عن القمع والاضطهاد الذين تعرّض له هؤلاء، فيقول ان "المؤرخين النقديين لم يقابلوا بأية عملية دحض نقدية، ولا بأي نقاش علمي مناقض: قوبلوا فقط بالسكوت في أحسن الأحوال، وبالقمع في أسوأ الأحوال". ويعرض بنبرة اتهامية ودعاوية زهاء عشر حالات.وقد تغيب هذه اللائحة عن القارئ العربي، لأننا نرجح الظن أن الترجمة العربية للكتاب استندت الى الطبعة الثانية، وهي ترجمة اشترط السيد غارودي تبديلها، لقاء ذهابه الى القاهرة، إذ يبدو أن المترجم العربي وضع كلمة "يهودية" محل كلمة "صهيونية" معتقداً على الأرجح أن الفارق بين الصفتين والتعريفين واهٍ وطفيف. والسيد غارودي محق تماماً في تشدده واشتراطه هذين. والحق ان اللائحة هزيلة جداً بالقياس الى حجم المسألة في بلدان تعج بالمؤرخين والكتّاب وتستفيق في جنباتها حركات عنصرية تقتات من الإرث النازي، ناهيك عن أن اللائحة هذه يختلط فيها الحابل بالنابل والغث بالسمين.
وحذف السيد غارودي من الطبعة الأولى ص 145 مقطعاً يستشهد فيه بقول مارتن بروسزات العامل في معهد التاريخ المعاصر في ميونيخ والذي ينفي حصول عمليات قتل لليهود أو غيرهم بواسطة الغاز في معتقلات داشو وبيرغين - بيلسن وبوشنوالد. وقد أصبح الأستاذ هذا في 1972 مديراً للمعهد المذكور. ويضيف غارودي أن قول بروسزات يتمتع بأهميته لأنه يسمح بالتشكيك في العديد من "الشهادات" التي تؤكد وجود غرف الغاز في داشو. غير أن كلام الباحث الألماني يفهم منه بأنه لم يحصل قتل بواسطة الغاز في المعتقلات الواقعة ضمن الحدود الألمانية المعروفة أي الرايخ الثالث، ويفهم منه، بالتالي، ان القتل عن طريق الغاز حصل في معتقلات أخرى، وتحديداً في "الشرق" الأوروبي وهي تسمية جغرافية أطلقها النازيون على مناطق شاسعة تشمل بولندا وبلاد البلطيق وأجزاء من الاتحاد السوفياتي سابقاً الخاضع للاحتلال النازي. وليس مستبعداً أن يكون السيد غارودي قد حذف هذا المقطع مخافة أن يستخدم ضده، إذ أنه يميل الى التشكيك حتى في وجود غرف الغاز. كما حذف السيد غارودي مقطعاً آخر، للاعتبارات ذاتها تقريباً.
لا نسعى، من خلال الرجوع الى المقاطع المحذوفة، الى محاكمة نوايا غارودي، ولا الى تناول عمله بطريقة تفتيشية نسبة الى محاكم التفتيش بل الى التدليل على بعض حساباته الفرنسية التي يجهلها المتضامنون العرب. ويسعنا، بهذا الصدد، أن نستعين بموقف قدّيس الفقراء والمحرومين الأب بيار. ففي جلسة المحاكمة نفسها، المنعقدة يوم الخميس في 8/1/1998 أفاد غارودي بأن الأب بيار جدد تضامنه معه وأنه تلقى منه رسالة في 28 تشرين الثاني نوفمبر في هذا المعنى، كما تلقى رسالة تضامن من الموسيقار العالمي اليهودي لمن يهوى الهويات الأصلية يهودي مينوهين. والحق أن الرسالة هذه تجمع بين التعاطف المبدئي الذي تستدعيه الصداقة الطويلة، وبين التحذير والتحفظ والاشتراط الضمنيين. فالأب بيار يشير الى اقتراب المحاكمة المستندة الى قانون وهو قانون غايسو في تموز/ يوليو 1990 قال عنه وزير العدل السابق جاك توبون بأنه في حال جرى التصويت عليه فإنه سيكون غير قابل للتطبيق. "وأفضل شيء يسعني أن أفعله، باسم صداقة تربو على الأربعين سنة، والمستمرة وان كان قد تخللها أكثر من خلاف، انما هو التعبير ثانية عن التقدير الذي تستحقه، في نظري، القناعات التي تبرهن عليها. فأنت لم تتوقف عن القول بأنك جاهز للاعتراف فوراً بأي خطأ يجري اثباته وتبيانه. أوليس ها هنا تكمن النزاهة الحقيقية والكاملة؟ عسى أن يتمتع الجميع على هذه النزاهة".
استعداد للتراجع، ولو تكتيكياً
قصارى القول إن السيد غارودي أجرى حساباته الفرنسية وارتأى أن يجعل موقفه وصورته أقرب الى الأب بيار الذي طاولته حملة تشهير لم تكن خلواً من المغالاة منها الى أوساط فرنسية أخرى سيئة السمعة. وهذا معنى تراجعه عن صحبة "النافين" الذين يجدون زبائنهم في أوساط اليمين المتطرف وحزب "الجبهة الوطنية" بزعامة جان - ماري لوبن الحاصل على ما يقارب 15 في المئة من أصوات الناخبين الفرنسيين على قاعدة "برنامج" يعلن صراحة عن كراهيته لأسماء ووجوه وروائح المهاجرين الأجانب، وفي مقدمهم العرب والمسلمون. ويتضح كذلك أن مغازلة هذه الأصوات راودت غارودي وهذا نوع من الاصطياد في الماء العكر. كنا نتمنى أن نعرف ما هي المقاطع الأخرى التي يأسف غارودي لأنه لم يحذفها، وأن نعرف ماهية الصلات التي عقدها مع المراجعين والنافين الذين وصفوه بالخساعة والتملق لأنه لم يقم بإدانة اليهودية جملة وتفصيلاً، وأن نعرف إذا ما كان قرر التخلي عن الفصل الذي يشكك فيه في وجود غرف الغاز بعد أن صرح أمام المحكمة بأنه لا يملك الكفاءة اللازمة للبت في هذا الموضوع... الخ. في كل الأحوال، يبدو أن غارودي مستعد للتراجع، ولو تكتيكياً، عن بعض وجوه كتابه، بحيث تطلع الهيئات العربية المتضامنة "استراتيجياً" مع غارودي، بسواد الوجه الذي سيطاول صورتنا العامة.
الراجح لدينا أن غارودي لم يجد سبيلاً الى الرد على مبالغات ومغالاة المستظهرين بالمحرقة لتسويغ السياسات الاسرائيلية، إلا بمبالغات ومغالاة من الطينة الدعاوية ذاتها. والراجح كذلك أن غارودي سعى حثيثاً الى المحاكمة آملاً في الضجة الإعلامية التي كان يتوقع ان تصاحبها. ومقدمة ناشر الطبعة الأولى الذي انتقل، على ما يبدو، من اليسار المتطرف الى اليمين المتطرف، تستحث على هذه المحاكمة، اذ أنها تتحدث عن نهاية الحريات في فرنسا وعن سيطرة القمع والتخويف بسبب قانون غايسو - فابيوس العتيد، أي أنها مقدمة الناشر لا تترك مجالاً لعدم تطبيق القانون ولغض الطرف. والحق أن القانون هذا زائد عن اللزوم، ناهيك عن أنه ليس للدولة أن تقرر في مسائل الحقائق والأعمال التاريخية، بل هذا شأن يخص المؤرخين وحدهم، ومعظم هؤلاء يعترضون على هذا القانون بدون أن يشاطروا غارودي رأيه ودعواه.
ويخيل لقارئ بيانات المتضامنين العرب مع غارودي، أن فرنسا ومحاكمها لم تشهد قضية من هذا النوع منذ محاكمة الضابط اليهودي ألفرد دريفوس في أواخر القرن الفائت والحكم عليه بالسجن بتهمة الخيانة ظلماً وجوراً ومعها محاكمة الكاتب أميل زولا صاحب رسالة "إنّي أتهم". بل ذهبت هذه البيانات الى المقارنة بين غارودي وبين دريفوس وزولا، وهي مقارنة بائسة ولا وجه لها. ويبدو أن أصحابنا المتضامنين يجهلون مثلاً ان المستشرق الأميركي برنار لويس وهو من هو في التعاطف الحاذق مع اسرائيل وفي تلفيق شواغل تاريخية ينسبها الى الاسلام تعرّض منذ سنتين تقريباً الى المحاكمة بعد أن رفعت المنظمات الأرمنية دعوى ضده بتهمة أفكاره لحصول جرائم ضد الانسانية طاولت الأرمن على يد الأتراك. ويجهلون أن السيدة بريجيت باردو تعرضت كذلك للمحاكمة بسبب تصريحاتها العنصرية حيال المسلمين. ويجهلون ربما أن السيدة كاترين ميغريه زوجة الرجل الثاني في حزب "الجبهة الوطنية" ستحاكم قريباً بسبب تصريحاتها ودعوتها الى اجراءات عنصرية تحرم المهاجرين الأجانب ومعظمهم من العرب والمسلمين من حقوقهم المنصوص عليها والمعترف بها. وينسون كذلك أن جان - ماري لوبن يكاد يتحول الى ضيف موسمي في المحاكم بسبب تصريحاته الهتلرية حيال اليهود والمهاجرين في آن. الخ.
ولو أن السيد غارودي قصر كتابه على فضح وادانة السياسات الاسرائيلية وتلفيقات أنصارها ودعاتها، لكان يسعنا أن نرحب به في حدود طابعه الدعاوي الجائز والشرعي مثله مثل غيره في فرنسا، وليس باعتباره بحثاً تاريخياً مرموقاً. ولو أنه أبقى عمله في حدود البيان الاعلاني الذي نشره مع آخرين في جريدة "لوموند" الفرنسية عام 1982، إبان الغزو الاسرائيلي للبنان، والذي بسببه تقدمت منظمة "ليكرا" أي العصبة العالمية لمكافحة العنصرية واللاسامية بدعوى مجحفة ومغالية ضده وضد موقعي البيان، لكان يسعنا أن نتضامن معه في حال أقدمت المنظمة المذكورة على رفع دعوى مشابهة. والحال أن غاردوي ربح الدعوى آنذاك بالرغم من طلب "ليكرا" استئناف الحكم ثلاث مرات خسرتها كلها. وهذا ينقض مبالغات السيد غارودي عندما يتحدث عن سلطان اللوبي الصهيوني في فرنسا. أما وأنه قرر، لاعتبارات قائمة على السجال والغلو فيه، الاصطياد في الماء العكر، فلا شيء يلزمنا بالتضامن معه، لا أخلاقياً ولا سياسياً. نقول الاصطياد في الماء العكر، لا في معنى إقباله على "المراجعة"، إذ يحق لأي كان أن "يراجع" ما يحلو له شريطة أن يلتزم قواعد البحث النقدي إذا كان يريد لعمله أن يتمتع بالصفة العلمية. ولكنه عندما يروح يجمع، كما فعل غارودي، استشهادات مقطوعة كلها من سياقاتها، ولا يلتفت الى زمان ومكان وغايات أصحاب هذه الاستشهادات والفئات التي يصدرون عنها، بل يروح يذيب هذه الأمور في سياق مفترض قائم كله على الدعاوة والانشاء، فإن الأمر يصبح مختلفاً وبعيداً عن قواعد البحث. وكتاب السيد غارودي يعج بأمور ومبالغات يصعب قبولها، كي لا نقول أكثر من ذلك. فهو يخلط بين عدد الضحايا في معتقل أوشفيتز وحده وبين العدد الاجمالي للضحايا. وهو يزاوج بارتياح كامل بين قراءة نقدية ووضعانية مفرطة للوقائع وبين قراءة "أصولية" تجعله يوازي ويقارن بين نص توراتي يتحدث عن إبادة الكنعانيين على يد العبرانيين بقيادة يوشع بن نون، وبين المحرقة النازية.
استخدام الأسطورة
إلى ذلك، يستخدم غارودي كلمة "أسطورة" لا في معناها الأناسي والتاريخي المستند دائماً الى لحظة تأسيس وواقعة كبيرة تصبح مدار توظيفات رمزية شتى كما هي الحال مع أساطير الشعوب كلها، بل يستخدم غارودي الأسطورة في معناها الدعاوي والمجازي المتعلق بالتلفيق والاختلاق واختراع الأكاذيب. ويعترض على كلمات "إبادة" gژnocide لأنها لا تتطابق مع المعنى القاموسي الذي يقتضي، بحسب غارودي، أن لا يبقى أحد على قيد الحياة. في هذه الحالة لا ينبغي أن نطلق صفة "الابادة" على الملايين الخمسين من الهنود الحمر لأنه بقي منهم أحياء يرزقون، ولا على الأربعين مليوناً من الملونين السود الذين أبيدوا أثناء اصطياد العبيد وتجارة الرق، ولا يعود جائزاً لغارودي ولغيره أن يتحدث عن "إبادة" للشعب الفلسطيني على يد الصهاينة وهذا بالضبط ما احتج عليه غلاة الدفاع، في فرنسا، عن الاجتياح الاسرائيلي للبنان وما رافقه من مجازر.
أما احتجاج السيد غارودي على أسطورة "محكمة نورمبرغ" فهو ليس جديداً على الاطلاق. فقد صدرت آنذاك اعتراضات على الصفة العالمية والحقوقية لهذه المحكمة باعتبارها محكمة منتصرين وغالبين يحاكمون المغلوبين. وقد توقفت حنه آرندت غير مرة عند هذه المسألة في كتابها النقدي، والمتمتع مثلها بدرجة عالية من النباهة والنزاهة، حول محاكمة "ايشمان في القدس" وهو كتاب صدر بالانكليزية قبل 35 سنة من كتاب غارودي. والحق أن هذا الأخير "يستعير" من آرندت ومن غيرها الكثير من الأفكار إلا أنه يضعها في سياق مختلف تماماً. وتذهب آرندت في قراءتها النقدية لمحاكمة ايشمان عام 1961 في القدس أبعد من غارودي وبدون أن تحيد عن نصاب الحق والعقل.
ما لا يطاق في كتاب غارودي، ليس تشكيكه في رقم الستة ملايين قتيل، اذ ثمة مؤرخون معترف بمرجعية أبحاثهم يتحدثون عن خمسة ملايين، وليس التشكيك في وجود غرف الغاز مع أن هذا أمر ثابت، وليس اعتراضه على التفسير الشائع لعبارة "الحل النهائي" بوصفها ترميزاً نازياً للابادة الجسدية، وذلك بدعوى أنها كانت تعني الترحيل والتشغيل القسري، بل ما يستحيل قبوله في كتاب غارودي، المناخ الدعاوي العام الذي يتألف من جملة هذه الشكوك والمراجعات. فالمناخ هذا ينم، في مواضع عدة من الكتاب، عن مسعى ونزوع الى "تطبيع" الفظاعة الاستثنائية التي ألحقها النازيون وزبائنهم وأمثالهم باليهود وبغيرهم، كالغجر والمتخلفين عقلياً، ناهيك عن مجموعات بشرية أخرى كانت مرشحة لمصير مماثل في حال انتصار النازيين في الحرب الثانية، ومنهم مثلاً البولنديون، خصوصاً عندما أفصح القادة النازيون عن مشروعهم لاعتماد "سياسة ديموغرافية" جديدة وعن رغبتهم في اقامة "فضاء فارغ" في بولندا، علماً بأن الأرض مأهولة ومعمورة. ويفعل ذلك غارودي من خلال الاستعانة بعبارات انشائية وخطابية من نوع "البربرية النازية" أو "أن قتل أي انسان بريء هو جريمة ضد الانسانية، سواء كان يهودياً أم لم يكن". وهذا النوع من العبارات الجذابة الزاعمة الصدور عن مذهب "انساني مفرط في انسانيته" يعطل امكانية التعقل التاريخي والحقوقي لما حصل ويحصل لأنه يلغي موجبات التمييز بين الدلالات والمعاني والمستويات، وهي كلها مدار العقل والتاريخ ومدار السياسة كذلك. فعلى هذا النحو لا يعود في وسعنا أن نعرف ما الذي يميز النظام النازي عن غيره، وأين يكمن الوجه والطابع الاستثنائيين للبربرية النازية.
والطابع الاستثنائي هذا انما هو حصيلة مجموعة من "الخصوصيات" التي امتاز بها النازيون عن غيرهم واختصوا بها وبتبعاتها دون سواهم. وعن هذه الوقائع والأحداث والشواهد، وكلها تفقأ العين، لا يقول السيد غارودي شيئاً يذكر، خصوصاً في الفصول التي يتناول فيها تاريخ المحرقة تناولاً "نقدياً". فهو لا يقول شيئاً يذكر عن الاستهداف المنهجي لمجموعات بشرية بكاملها، في مقدمها اليهود، لا لشيء سوى تحدرها البيولوجي من "عرق" ولون وجنس بعينه. ولا يتوقف عند ظاهرة تعميم هذا الاستهداف، وما يصاحبه من صنوف الاضطهاد والقتل ومخاطبة الغرائز الوحشية، على امتداد القارة الأوروبية وفي كل موضع وقع تحت قبضة النازيين. ولا يقول شيئاً عن حصول هذه الأمور في العقدين الرابع والخامس من هذا القرن في قلب أوروبا، وأن ادامة التنفيذ المبرمج للسياسة العنصرية هي الدولة نفسها، وهي دولة بيروقراطية جداً وعلمانية جداً وحديثة جداً، بحيث جعلت "علم" الأعراق والأجناس أحد المبررات والموجبات الرئيسية لقيام الدولة نفسها ولطريقة ومبدأ وآلية اشتغالها: دولة لا تتوانى عن حرمان قسم من رعاياها، كي لا نقول مواطنيها، من جنسيتهم وانتمائهم الألمانيين لأنهم من عرق لا يستحق الوجود أصلاً باعتبارهم أقرب الى الحيوانات منهم الى البشر. باختصار شديد، أنشأ النازيون "دولة عنصرية في المطلق، ودولة مجرمة في المطلق، ودولة انتحارية في المطلق" ميشال فوكو. ولا يعني هذا، بطبيعة الحال أن الدول والمجتمعات الغربية الأخرى وغيرها كانت خلواً من العنصرية. فالتشريعات التي تحرم الملونين السود من بعض حقوقهم المدنية والسياسية والتي ظل معمولاً بها في الولايات المتحدة حتى مطلع الستينات، أمر معروف. والممارسات والاجراءات العنصرية التي صنعها البريطانيون والفرنسيون وغيرهم، خصوصاً في المستعمرات هي أيضاً معروفة. ما هو جديد تماماً في الحالة النازية هو تحويل العنصرية الى أفق وغاية للدولة. والذريعة التي تسعى الى "تطبيع" الشر والاجرام الفالتين من الضوابط القانونية والأخلاقية، بدعوى أن العدالة المطلقة غير موجودة في أي مكان في العالم، لهي من أقبح الذرائع.
الأقرب الى الظن أن السيد غارودي يسكت عن وقائع كثيرة خصوصاً الواقعة الكبيرة والثابتة المتعلقة بفرز المعتقلين عند مدخل أوشفيتز واصطفاء قسم منهم، تحديداً اليهود، لكي يتلقوا "معاملة خاصة"، لأنه يحسب أن الاقرار بالفظاعة الاستثنائية التي ألحقها النازيون باليهود وبأجناس أخرى، وبأن التعاطف مع الضحايا، يترتب عليهما الاذعان والاقرار بصوابية السياسات الاسرائيلية وبصلاحية التلفيقات الدعاوية الصادرة عن عتاة الحركة الصهيونية "ولوبياتها". ها هنا يخطئ غارودي، وخطأه مثلث الاضلاع: تاريخي وسياسي وأخلاقي، للأسباب التي ذكرنا بعض وجوهها.
حقل من الاختلاف
لكن بين المحرقة وبين المشروع الصهيوني في اقامة دولة توسعية واستيطانية في فلسطين وعلى حساب أصحابها الفعليين، بين الأمرين هذين حقل شاسع وكبير ترعى فيه غزلان كثيرة، من بينها غزلان "الأساطير" الدعاوية، التي يبثها دعاة وغلاة يسعون حثيثاً الى تذويبهما واحلالهما في بعضهما البعض حلولاً صوفياً. والحقل هذا جدير بأن يكون هو مدار الرصد والتقصي والبحث التاريخي. والحال أن وجوه "الأسطرة"، في المعنى الدعاوي للكلمة، والتي بواسطتها يسعى دعاة وغلاة الحركة الصهيونية الى عقد صلات تحدر عضوي وتلازم جوهري بين المحرقة وبين اقامة دولة "استثنائية"، تتكشف كلها عندما تطرح السؤال الفعلي والذي سبق للسيدة حنة آرندت أن طرحته، وهو التالي: هل الشقاء الذي يصيب شعباً أو جماعة بشرية يجيز ويسوغ للأبناء أن يخرجوا عن دائرة الحقوق والقواعد السياسية والأخلاقية التي تجمعهم مع سائر البشر، وأن يصبحوا بالتالي بمنأى عن المحاسبة والمسؤولية عن وعلى أفعالهم، بحيث يتوجب معاملتهم "معاملة خاصة" في المعنى الذي تحمله هذه العبارة في القاموس النازي واللاسامي، ولكن في صورة مقلوبة؟ بكلمة أخرى، هل الهذيان الاجرامي للدولة النازية، والهذيان الأكثر التباساً وتعقيداً لأسباب تاريخية للاسامية واللذان تعاملا مع اليهود ومع غيرهم، بوصفهم أدنى من سائر البشر، هل يجدان الجواب العادل والصائب في جعل الدولة اليهودية والمتصلين بها والمدافعين عنها أعلى من سائر البشر؟
أقول بأن غارودي يخطئ لأنني لا أعتقد بأنه، في العمق، لاسامي، في المعنى الفعلي والحقيقي للكلمة. لكن رغبته في تصفية حسابات وفي التشفي من غلاة الدفاع عن السياسة الاسرائيلية، جعلته يمعن ويغلو في السجال والدعاوة والتشكيك في حقائق تاريخية والتقليل من شأنها، بدون أن يتفطن الى أنه يحذو حذو الغلاة هؤلاء، ولو من موقع النقيض، والى أنه يقدم الى هؤلاء أسلحة نظرية ودعاوية ضده وضد المتعاطفين في فرنسا مع حقوق الفلسطينيين والعرب. وقد لا تكون تقلبات غارودي وانتقالاته، الصاخبة في كل مرة، من البروتستانتية الى الكاثوليكية ومن ثم الشيوعية والاسلام، أمراً شائناً في حد ذاتها. والحق أن بعض منتقدي غارودي ليسوا بأقل تقلباً ودعاوة منه. لكن اللافت للنظر هو أن غارودي بقي، أثناء تقلباته هذه، ثابتاً ومحافظاً على وجه بارز في سلوكه الذهني والكتابي: الدوغمائية والميل الى الدعاوة حتى في مجال البحث الفلسفي والتاريخي. وهذا السلوك الذهني، المستغرق والممعن هذه المرة، في السجالية والزجل الدعاويين، هو ما يجعل غارودي يدير ظهره لمنطقة وسطى شاسعة ومشتركة يخوض فيها عشرات ان لم يكن مئات الكتّاب والمفكرين والمؤرخين المتمتعين بمقادير متفاوتة من النزاهة ومن الموضوعية، بحيث لا يرى سوى الغلاة والدعاة المتحذلقين والمتفننين في "تغطية" صنائع وجموحات وانتهاكات الدولة العبرية. أي ان السيد غارودي لم يجد، من بين نماذج كثيرة، في قراءة المحرقة والصراع العربي - الاسرائيلي، سوى الغلاه المشار اليهم كي يحذو حذوهم من موقع الند والنقيض. ويقودنا هذا الى الحديث عن الصنف الثالث من المغالاة والمغالين الذين يستخدمون المحرقة والتهويل باللاسامية كلما كانت السياسة الاسرائيلية موضع انتقاد واعتراض شرعيين في فرنسا. ولكن هذا لا يجيز، في كل الأحوال، أن يُرمى الطفل مع ماء غسيله، أي التشكيك في المحرقة نفسها. والحال أن الغلاة هؤلاء، أو بعض نجومهم على الأقل، يتمتعون ببحبوحة اعلامية من شأنها أن تثير حسد ونقمة الآخرين وجنوحهم الى التصريح بأن "اللوبي الصهيوني يسيطر على 95 في المئة من الإعلام في فرنسا" وفي الغرب ربما، بحسب ما قال غارودي. وهذه مبالغة كبيرة، لا في معنى أنه لا يوجد "لوبي" يهودي وصهيوني، بل هو موجود جداً وفاعل جداً، بل في معنى أنه لا يسيطر على الاعلام وعلى مواقع أخرى سيطرة شبه تامة، في المعنى الذي يقصده غارودي للسيطرة. ولا حاجة الى التوسع في تبيان ما نقوله، إذ يكفي لهذا أن ننظر في وجوه الاندفاع ورفع العقيرة بالصياح احتجاجاً على هذا الاعلام وطريقة تغطيته لأحداث ومسائل تطاول السياسة الاسرائيلية. وهذه الاحتجاجات المنشورة في مقالات صحافية أو في كتب "بحثية" تصدر عن غلاة على شاكلة "زغلول" جوقة الفلاسفة الجدد والمتجددين على الدوام، و"الغندور" الاعلامي للمآسي البشرية خصوصاً في الظروف والأوقات والأمكنة التي لا تزعج الأميركيين ولا تحرجهم، على ما يبدو، ونقصد بذلك برنار هنري ليفي. أو، في صورة مختلفة بعض الشيء حيث تستعير الدعاوة نبرة بحثية جامعية "متخصصة"، على شاكلة السيدة آني كريغيل التي أصدرت إبان الغزو الاسرائيلي للبنان، وبالتحديد في تشرين الثاني 1982 كتاباً دعاوياً بعنوان "هل اسرائيل مذنبة؟".
والسيدة كريغيل التي توفيت عام 1995، جعلت كتابها هذا بمثابة رد وتحليل "دقيقين" و"علميين" لمغالاة وأخطاء الاعلام الفرنسي في طريقة تغطيته الصحافية للاجتياح الاسرائيلي للبنان وخصوصاً لمجزرة صبرا وشاتيلا. على هذا النحو راحت تحلل العبارات والمصطلحات المستخدمة والأرقام المتعلقة بعدد الضحايا، في الاجتياح وفي المجزرة، كما وردت في خمس صحف فرنسية بارزة.
يمكن القول إن كتاب السيد غارودي يحمل الى حد بعيد أعراض ردّة فعل سجالية ومغالية على جموحات غلاة ناشطين في الأوساط اليهودية وغيرها كي يجعلوا المحرقة مادة تأثيم وتجريم مفتوحين بحيث يتكون رصيد وجودي أنطولوجي مفتوح قائم على مديونية لا نهاية لها ولا قرار ولا يمكن التعويض عنها مهما بلغت درجة التقارب والتوافق وتبادل المصالح والخدمات بين الدولة العبرية وفرنسا. أي ينبغي أن تبقى عقدة الذنب لا الشعور بالمسؤولية التاريخية والأخلاقية والحقوقية قائمة وفاعلة ومستديمة. يضاف الى ذلك حصول نوع من التخمة الاعلامية في ما يتعلق بالمحرقة، منذ اكتشاف المؤرخين في مطلع الستينات، الطابع الخاص للفظائع التي طاولت اليهود. وهذه التخمة التي يعبر عنها في لغتنا بكلمة "انفلقنا" أدت الى حصول نوع من العياء والانهاك في فرنسا، بحسب ما يلاحظ المؤرخ بيار فيدال ناكيه وهو يهودي لمن يرغب في التعريف وصاحب كتاب "قتلة الذاكرة" ومتعاطف على طريقته مع حقوق الفلسطينيين. والرد على هذه التخمة يكون في ارجاع الأمور الى الاعتدال والتوازن، لا في "تطبيع" المحرقة.
قصارى القول إن الاقرار بحصول المحرقة حق، وأن الاقرار بالتعاطف مع الضحايا حق. وليس هناك بالضرورة، ومن حيث المبدأ، أي تناقض بين التعاطف هذا وبين مقاومة العنجهية الاسرائيلية ومشاريعها الاستيطانية والاصرار على تحقيق عدالة هي بالتأكيد سلسلة طويلة من المحاكمات التي تطاول أسس المشروع الصهيوني والعمل على تنفيذه منذ الربع الأخير من القرن الفائت، أي قبل وصول النازيين الى السلطة، علماً بأن هؤلاء أسدوا أكثر من غيرهم، ولو بطريقة غير مباشرة، خدمات جليلة للمشروع المذكور، والقول الزاعم بأن المحرقة هي الأساس الذي ارتفعت وانبنت عليه السياسات الاسرائيلية بحيث يكفي فضح الطابع الأسطوري المختلق لهذا التأسيس، لهو خرافة دعاوية سواء استخدمها غلاة يهود أم غلاة عرب أم غلاة "المراجعة" في أوروبا والغرب ومنهم غارودي، في كتابه الأخير. بعبارة أخرى، ان وضع المحرقة وتعقل سائر وجوهها التاريخية، في منظار حقوقي وانساني واسع ذي طابع عالمي، لا ينتقص من قيمة الحق الفلسطيني والعربي، بل على العكس من ذلك، إذ أنه يسمح باخراج هذا الحق من دائرة التمثيلات القومية الضيقة بحيث يسعه أن يحظى بمكانة وقيمة انسانيتين وعالميتين. وإذا كان ثمة عبرة تاريخية للمحرقة، في المنظار الذي نتحدث عنه، فهي لا تعود فحسب الى استهداف اليهود وأجناس بشرية أخرى دون سواها على يد النازيين، بل هي تعود الى الجنون الاجرامي الذي يجيز لدولة واقعة في قلب الحضارة المعاصرة، أن تنزع، من خلال المثال اليهودي، عن كائنات بشرية صفتها ومنزلتها وحقها الجوهري: الانسانية. وهذا الحق هو الذي يخولنا المطالبة باشتراط العدالة والنزاهة لبناء السلام. وهذا يعطينا الحق في أن نأمل، أنا على الأقل، كاتب هذه السطور، ان أرى بعيني هاتين السيد آرييل شارون ماثلاً في محكمة يكون فيها ادعاء عام وهيئة دفاع، وتكون أقل دعاوية واستعراضية وأقل ثأرية من تلك التي نظمها بن غوريون لمقاضاة أدولف ايشمان عام 1961 مع احتساب الفوارق الكبيرة والكثيرة بين الحالتين، وذلك لتحديد حجم مسؤوليته ودرجة رعايته للمجازر التي ارتكبها أو تسبب بها، خصوصاً في صبرا وشاتيلا. وباسم الحق ذاته، أريد أن أرى في المحكمة الضابط الاسرائيلي الذي أعطى الأمر الى زبانيته في ميليشيا سعد حداد كي يقتلوا سبعين شيخاً مسناً، من الرجال والنساء، في بلدة الخيام اللبنانية الحدودية. وأريد أن أرى، بعيني هاتين دائماً، محاكمة قانونية للطيار الاسرائيلي الذي ألقى قنابل صغيرة فوق الحقول والتلال المحيطة بالقرى والبلدات الجنوبية، مع كامل إدراكه بأن هذه القنابل سوف تغمرها الأمطار والأتربة بحيث لا يمكنها أن تنفجر إلا في حالات محددة، لا علاقة لها بأية اعتبارات عسكرية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.