يلبّي المفكر الفرنسي روجيه غارودي الدعوة التي وجهها إليه المنتدى القومي العربي لزيارة بيروت ولبنان فيلتقي أهل الفكر والسياسة والإعلام ويقيم ندوات ولقاءت ويزور مقابر شهداء المجزرة الإسرائيلية في بلدة قانا الجنوبية. وكانت صدرت في بيروت ترجمات لعدد من كتبه ومن بينها كتابه «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية». ولقي الكتاب رواجاً في بيروت نظراً الى القضية التي يثيرها والضجة التي أحدثها في باريس أخيراً. وغارودي الذي يعرفه القراء اللبنانيون من خلال مواكبتهم لنتاجه الفكري في مراحله المتنوعة ومحطاته المتنوعة سوف يلتقون به ويحاورونه من زوايا مختلفة أيضاً. وأحدث خبر زيارته لبيروت ضجة قبل أيام وبدا الكثيرون من أهل الفكر والسياسة كأنهم ينتظرونه انتظارهم لشخص ليس غريباً عنهم. ولأهمية الزيارة ومشاركةً في السجال القائم حول كتابه - القضية استفتت «الحياة» بعض المهتمين بنتاج غارودي من مفكرين وباحثين جامعيين وكتّاب. وآراؤهم على اختلافها تلقي ضوءاً على تجربة غارودي وعلى أثرها في الثقافة اللبنانية والعربية الراهنة. * منح الصلح: مشروع انقلاب في الفكر الغربي كنّا كطلبة عرب في باريس في أوائل الخمسينات كأننا على سوء تفاهم مع زملائنا الطلبة الفرنسيين. نحن معجبون بهم وهم معجبون بنا. وكان منهم من يقول لنا من قبيل الاعجاب بحركاتنا الوطنية وحركات العالم الثالث بصورة عامة، أنتم شباب هذا العالم ونحن - أي الغربيين - شيخوخته. لقد كانت عقدة الاعجاب بالخصم هي السائدة وكان من ابرز قادة الفكر المعجبين بالثورة الجزائرية حتى من قبل قيامها روجيه غارودي الذي هزته الثورة تلك من الجذور، فأخذ يتعمّق في القيم التي أطلقت هذه الثورة وكانت وراءها. وكان بين هذه القيم ومفاهيمها ومناهج طلائعها الفكرية والدينية بعض ما يُعجب. ألم يكن الشيخ عبدالحميد بن باديس يقول ممهّداً للثورة قبلها بعشرات السنين «اللهم اجعلنا في الدنيا من أهل اليسار وفي الآخرة من أهل اليمين» موجّهاً التحية لبعض اليساريين الفرنسيين المناصرين للثورة؟ ثم ألم يكن هو نفسه القائل في التمسك بقيم الاسلام المناضل ان امهاتنا الجاهلات عليهن الرحمة اللواتي أنجبن للجزائر أبناء يعرفونها خير من أخريات عالمات يلدن للجزائر أبناء لا يعرفونها؟ وأوصل حب الثورة الجزائرية غارودي للانكباب على الاسلام والاعجاب به حتى الافتتان. كلما اندفع اكثر في محبتها والعمل لها علمتّه من امر حضارات الاخرين ما لم يكن يعلم. وكان من المقولات الرائجة يأخذ بها دعاة الحرية من اهل الشرق والغرب معاً: اعط نفسك للنضال والنضال كفيل بأن يعرّفك حقائق الحياة الانسانية من داخلها. ومع بداية الانتصارات الجزائرية، بل بعد ظفرها بالاستقلال، رحل غارودي الى «قاهرة» جمال عبدالناصر فاتصل بثورييها ومفكرّيها وكان له من مجتمع مجلة «الطليعة» قاعدة انطلق منها فأخذ من المصريين الكثير وأعطاهم الكثير. وعاد من القاهرة أعلمَ بالامة العربية وبحضارتها واسلامها ومسيحيّتها منه يوم جاء اليها. اعتنق غارودي الاسلام كدين لمظلومي هذا العالم، اذ لاحظ ان الشعوب الاسلامية هي الشعوب المظلومة او ابرز الشعوب المظلومة وأكثرها دوراً في حركات التحرر. وآمن بالاسلام كدين للمستقبل لا للماضي فقط، وآمن بالاسلام كمناخ حضاري. وكان الزمن زمن تململ من جفاف النظرية الماركسية وأخذها بأولوية المادة ومحدودية الطبقة الواحدة في التعبير عن نتاج الشعوب، فثار على الشيوعية المغلقة واضعاً في وجهها تجارب الحضارات الاخرى. وبينها الاسلام. ولربما كان المفكر المصري انور عبدالملك من زملائه واقرانه في هذا النهج الذي كان قد بدأ يدوّر الزوايا في النظرية الماركسية ويفتح العقول والقلوب على أسرار الحضارات وأنماط تكاملها وتصارعها وولادتها الدائمة. وبادل العالم العربي والاسلامي روجيه غارودي وفاء بوفاء. فأكرمه مسلماً وغير مسلم. ولا شك فى ان كتاب «الاساطير المؤسسة للسياسة الاسرائيلية» الذي ألفه غارودي وترجمه الى العربية حافظ الجمالي وصيّاح الجهيم هو من اجود ما قدمه مفكر اجنبيّ حرّ لثقافة العالم السياسية الراهنة وللحقّ العربي المضاع في فلسطين. ان قراءة هذا الكتاب تعرّف القارىء من حيث لا يريد المؤلف الى كم كانت القضية اليهودية ولا تزال قضية محورية في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية في شكل خاص. فإنه منذ بداية الحرب العالمية الثانية حتى الآن تكاد تكون القضية اليهودية شغل العالم الشاغل، شغله في السياسة وشغله في الثقافة وشغله في الاقتصاد. كتاب روجيه غارودي هو مشروع انقلاب فكري يصحّح تلك الخطيئة الاصلية في عالم ما بعد الحرب. يهدف الى تغيير الصورة كلياً ليطيح باللاسامية كتهمة ضد كل من يقف في وجه اليهود وأولهم العرب ويضع مكانها تهمة أصح وأشد انطباقاً على الواقع وهي تهمة الانحياز المسبق للصهيونية واسرائيل من قبل اقوياء هذا العالم من اميركيين واوروبيين. ويأتي هذا الكتاب في ظرف جدّ مناسب هو الوقت الذي تمارس فيه اسرائيل عبر نتانياهو والليكود ابشع انواع الاعتداءات على العرب مسخِّرة العالم كله لنصرتها في قضايا غير محقة. فالعالم كله مهيّأ حالياً لسماع الكلام على الغلوّ والتطرف الصهيونيين، وشرف للتألق اللبناني ان يكون لبنان هو البلد الذي انفضح فيه التطرف الاسرائيلي في مجزرة قانا وفي التشبث الاسرائيلي الفاجر بالارض اللبنانية جنوباً وبقاعاً غربياً. فهل يكون الكتاب الطموح كما اراده صاحبه مؤشرا على اقتراب اليوم الذي سيبدأ فيه دولاب العقل السياسي السائد في الغرب الدوران في الاتجاه المعاكس فلا يبقى رأي جانب واحد ومصلحة فريق واحد ومثل جماعة واحدة هي السائدة. فالسلام الصحيح هو السلام المعقود على ارادتين. اما السلام القائم على ارادة طرف واحد فليس سلاماً، الاّ إذا كان السلام في عرف الغرب مرادفاً للقهر. * رضوان السيد: الإسلام المختلف كان ذلك العام 1972، وكنت وقتها استعد للذهاب الى ألمانيا لمتابعة الدراسة بعد ان حصلت على منحة لذلك. وما ازال اذكر ان روجيه غارودي زار يومها دار الفتوى ببيروت، وألقى محاضرة عن اسباب اعتناقه الاسلام. وبحكم عملي في سكرتاريا مفتي لبنان وقتها حضرت المحاضرة التي لم نفهم نحن الحضور من الازهريين كثيراً مما قاله فيها لعدم معرفتنا للفرنسية، على رغم الجهد الكبير الذي بذله المرحوم الشيخ صبحي الصالح في الترجمة والايضاح. وقد احتفى به المسلمون كثيراً يومها لاعتزازهم بمغادرته للكاثوليكية ثم للماركسية الى الاسلام. على انني سمعت نقاشاً محتدماً بعد المحاضرة بيومين او ثلاثة بين المفتي الشيخ حسن خالد من جهة، والشيخ صبحي الصالح من جهة ثانية. وكان واضحاً ان المفتي - الذي كان يعرف الفرنسية - ما اعجبته المحاضرة التي حظيت بإعجاب الشيخ الصالح. كان المفتي يرى ان المحاضرة ركزت على امرين: المشتركات بين الديانات الثلاث (الابراهيمية)، والتجربة الذاتية في المسألة الدينية بالذات. فإذا صحّ ان الديانات الثلاث متشابهة الى هذا الحد، فما الحاجة لمغادرة الكاثوليكية الى الاسلام؟ ثم اذا كانت «التجربة الذاتية» حاسمة الى هذه الدرجة في فهم الدين: فماذا يبقى لأحكام الدين وشرائعه؟! كان غارودي - في نظر مفتي لبنان - يفهم الاسلام فهماً صوفياً غائماً يخرجه عن «طبيعته» او يمسّحُهُ شأن فعل ماسينيون من قبل. وعندما ألّف المفتي اواخر السبعينات كتابه عن «الاسلام والاديان»، واورد فيه اقتباسات من كتابات لمعتنقين جدد للاسلام، تجاهل غارودي، ولجأ الى موريس بوكاي الطبيب الفرنسي (او البلجيكي) الذي اعتنق الاسلام، ونشر كتاباً في نقض التوراة والانجيل استناداً الى القرآن. في ألمانيا، وفي شتاء احد العامين 73 او 74، اذكر انني قرأت كتابين لغارودي مترجمين الى الالمانية، احدهما عن رأسمالية القرن العشرين، والآخر عن النقاشات داخل الحزب الشيوعي الفرنسي حول الاشتراكية الاوروبية. وكان الواضح في الكتابين - اللذين اصدرهما غارودي وهو ما يزال ماركسياً - النبرة الاخلاقية العالية التي تشدد على قيم الحرية، والاختيار الفردي، والديموقراطية، والتأسس غير العقلاني للاخلاق بالمعنى الكبير. وما تابعت كتاباته اللاحقة على اسلامه الى ان قرأت مطلع الثمانينات كتابين صغيرين له مترجمين الى العربية: «حوار الحضارات»، و«وعود الاسلام» - وما عدت اذكر ايهما الاسبق في التأليف - لكن الثاني منهما تميز بالسمات التي قرأها الشيخ حسن خالد في محاضرته بدار الفتوى. فقد رأى غارودي ان الامل الباقي للاسلام في عالم تتوارى فيه الديانات يكمن في الحياة الروحية الثرية التي يتمتع بها التوجه الصوفي بداخله. وما اهتمت لكتابه «حوار الحضارات» غير قلة من المثقفين المسلمين آنذاك، في حين حظيت «الوعود» بمناقشات مستفيضة اختلفت منازعها باختلاف مشارب القارئين. فالمسلمون العاديون ركزوا على انه مفكر كبير اعتنق الاسلام مغادراً «الثقافة الغربية على اختلاف وجوهها»، اما الصحويون الاسلاميون فكانوا يشيرون من طرف خفي الى غربته بين المقبلين على اعتناق الاسلام. فالمقبلون على الاسلام عادة من الاوروبيين والاميركيين (رأيت عدداً منهم في انكلترا واميركا واثنين في ألمانيا) يتشددون في المسائل الشعائرية والرمزية، وينعون على المسيحية التي غادروها تهافتها الاخلاقي، وعلى الغرب الذي كرهوه انحلاله ووثنيته المادية. بينما يتشدد غارودي اخلاقياً، ويتساهل شعائرياً ورمزياً، ولا تلعب الهوية او الخصوصية دوراً معتبراً في مسوّغات اعتناقه للاسلام، ولا في مسوّغات اقتناعه بأن للاسلام مستقبلاً في هذا العالم. بل على العكس من ذلك يرى غارودي ان انفتاح الاسلام واستيعابيته، وقدرته على التكيف في اصوله، وفي المدى التاريخي والثقافي، كل ذلك هو الذي يهبه الوعد المستقبلي. وعلى هذا الوعد انصب اهتمام الاسلاميين فأوردوه ضمن اطروحتهم الشاملة التي لا علاقة لغارودي بها: الاسلام باعتباره الباقي والمستولي بعد انهيار الاديان والثقافات والمذاهب والايديولوجية! لكن غارودي المختلف والمتقلّب عاد لمفاجأتهم في التسعينات بكتابه عن الاصوليات التي ذكر من بينها الاصولية الاسلامية واعتبرها عدوة للاسلام وللحضارة الانسانية. كما رأى انها ظاهرة عابرة ناجمة عن عدوانية الغرب، وانكماشية الثقافة الاسلامية المعاصرة، بمعنى انها رد فعل ما يلبث ان يتوارى ويتضاءل عندما يتغير موقف المسلمين وموقعهم من ضمن متغيرات العالم. اما اهتمامات غارودي المستجدة بالمحرقة اليهودية فتأتي في سياق آخر، وتلقى ترحيباً وعناية من جمهور آخر غير جمهور الصحوة والهوية الاسلامية. من جانبه هو يأتي هذا الاهتمام لدوافع اخلاقية، تتصل ببحثه الدائب عن «الحقيقة»، وبالقلق الاخلاقي ذي الطابع الناقد والمتسائل داخل الثقافة الغربية (ولدى البروتستانت اكثر مما لدى الكاثوليك، وان يكن لذلك كله استثناءاته!). فما تزال الحرب الهتلرية على اليهود تُثقل الضمير الغربي، وتُثير اسئلة هائلة العمق لا تجد غالباً اجابات شافية. ولا يقصد غارودي من وراء تقليله من شأن المحرقة تبرئة الاوروبيين او الالمان على الخصوص، فالحروب الكارثية التي اثارتها اوروبا على نفسها وعلى العالم طوال القرنين الماضيين، هي جرائم بالغة الهول، سواء كانت المحرقة او لم تكن. ما يقصده ان الانسانوية والمسيحية الاوروبية مُدانتان على حد سواء، دونما حاجة للاسطورة الابوكالبتية (من وجهة نظره) المتمثلة في مرويات المحرقة وتقاريرها ومحاكماتها. ويبقى غارودي - بعيداً عن اشكاليات الثقافة العربية المعاصرة - مثقفاً مختلفاً، ومسلماً مختلفاً. اسلامه نتاج تجربة خاصة وشخصية (ما لجأ عندما احتاج الى «دعم اخلاقي» الى «شيخ» مسلم بل الى كاهن كاثوليكي!)، وبحثه عن «الحقيقة» وعن «الغائية الاخلاقية» نتاج مجال ثقافي وحضاري آخر، لا يهتم له الاسلاميون (فخّار يكسّر بعضه)، ويُسيء تأويله القوميون. * مارلين كنعان: من التعمية الأيديولوجية الى السلام الحقيقي يثير اسم روجيه غارودي اليوم تحدياً فكرياً لكثيرين في زمن التحولات والازمات الثقافية والسياسية والدينية. ففي حين يتخبط العالم في مشكلات عجاف ويعيش حالة الانحطاط، يدعو صوت غارودي الى رجاء عظيم. فالانسان برأيه قادر في كل لحظة على خلق تاريخه وطيّ الصفحة الماضية كيما ينتج نسيجاً اجتماعياً جديداً ومفهوماً سياسياً يتوافق مع حاضره بُغية الوصول الى نظام عالمي جديد بدءاً من حوار متواضع مع الآخر وحضاراته كلها بعيداً عن كل تعصب أثنيّ. وغارودي المقبل على الاسلام والثقافة العربية من مسيحية بروتستانتية، متواضع فكر، ماركسي الانتماء، فلسفي التنشئة، غير مرتهن لقباحات الزمان. فانطلاقاً من مقولة ان «الحياة تطرح المسائل والفلسفة تجيب عنها» يعمد غارودي بدون انقطاع الى ترجمة هذا القول والشهادة له على رغم قدسيات الازمنة المتكسرة. وما ماضيه النضالي الا خير تعبير عن مصداقية فكره والتزامه بمساره الانساني. من هذا المنطلق نفهم نتاجه وتحولاته الفكرية، فبدءاً من انتمائه للحزب الشيوعي في العام 1933 وادراكه لاحقاً واقع الشيوعية وحقيقة الماركسية وحدودها في ما يتعلق ببعد الانسان الروحاني وصمتها ازاء معنى الوجود والموت، يرجع غارودي الى الله من دون ان يتنكر لأهداف الماركسية النبيلة من عدالة اجتماعية وتكافؤ فرص ومشاركة حياة. وهكذا نراه يتفهم التحولات الجذرية في عقليات عديد من الفرنسيين الذين اصبح الايمان لديهم ثورة وانتفاضة لا قبولاً بواقع مرير. ويشدد غارودي في كتاباته جمعاء على ضرورة الابتعاد عن الدوغماتية مؤكداً على اهمية التعددية وحوار الماركسية مع المسيحية والفلسفات المعاصرة وبخاصة الوجودية والبنيوية منها. ولعل استشهاده بتجربته الذاتية تمكّننا من فهم مقاصده في ما يتعلق بخيار الكونية والحوار الحق. فاستنطاق حكمة القارات والثقافات كلها كان سبيله الى اثراء ثقافي وانساني. من هنا نفهم لقاءه بالاسلام واقباله على تراثه. مدهش هذا الرجل في خياراته. يرفض الاستلاب ويبحث عن الفعل الانساني الخلاّق كنقطة بدءٍ وتخطّ لكل مجتمع في كل زمان ومكان. فإذا ادركنا واعترفنا معه يقيناً ان الحياة مشاركة والصدق عبور من التعمية الايديولوجية الى السلام الحقيقي مع الآخر نفهم عظمة الرجل وعمق رؤياه وصدقه مع نفسه في زمن الاصنام والاغتراب المكرّس وجوداً حقيقياً.