النافذة والباب موضوع ذو نكهة انطولوجية مغرية بحاجة الى معالجة فينومينولوجية من مستوى معالجات غاستون باشلار. لكن باشلار غاب منذ أكثر من ثلاثة عقود والموضوع لا يتحمل المزيد من الانتظار. منذ سنوات بعيدة اكتشفت في دخيلتي انحيازاً صريحاً للنافذة على الرغم من خروجي ودخولي اليوميين من أبواب شتى، أو ربما بسبب ذلك. الباب للاستعمال أما النافذة فللحب. نادراً ما أقف بباب، حتى باب بيتي. اجل، لدي ديوان شعر يحمل عنوان "باب البحر" وهو حجة لي - لمن يقرأه - لا عليّ. اما النافذة فكتبت عنها قبل خمس عشرة سنة: "هي مرقاتي في آخرة الصيف اذا السرو تعرى والخطاف تأبط انثاه…". مجد الأبواب عفا عليه الزمن، مجد البوابات الهائلة، بوابات المدن والحصون بمزاليجها الضخمة، أبواب القصور المخيفة حينما لم تكن النوافذ شيئاً مذكوراً، حينما كانت الشناشيل الخشب والشبابيك الحديد تلغي فعلياً وظائف النافذة، تخفي من خلفها حياة حافلة بالدسائس والمغامرات والرغاب الكبيتة. مع ذلك، فكم من النوافد فتحت قصائد، كما أرقت من أحلام ووساوس، ثم أرخت النوافذ من شهادات وكانت شهوداً على مآس. النوافذ أسعفت لصوصاً. النوافذ التي قدمت العون لمحبين بلا صبر ولساديين رهيبين على السواء. ويا ما نوافذ روقبت بعيون مخبرين وأخرى بنظرات عشاق مدنفين حينما كانت الانفتاحة، مجرد انفتاحة النافذة الأثيرة تمنح الاحساس بامتلاك العالم. وشهدت نوافذ الرومانسيين تاريخاً حافلاً غير مكتوب، حافلاً بالنظرات المتطلعة الأرقة وبالحسرات، باللهفات والدموع، وكذلك بالعناقات والقبل المحمومة التي لا نهاية لها. وحيثما حرمت الأبواب قدمت النوافذ خدماتها لمن يستطيع اليها سبيلاً. كم من نبيلات في ليالي القصور الحصينة، قصور الروايات القروسطوية سعدن بمفاجآت عشاقهن المغامرين الفحول يتسللون الى مخادعهن المتلهفة في جنح الليل. وبخدماتها اخبرنا عمر بن أبي ربيعة عن لذائذ محبوباته وهو القائل: ولقد دخلت البيت يخشى أهله بعد الهدوء وبعدما سقط الندى بلى… بيد ان للنوافذ في المقابل ضحاياها: نساء دراكولا المداهمات بالانفتاحة المرعبة بفعل ريح غسقية غامضة في أفلام الرعب الشهيرة. وهنالك الأميرات المختطفات من عز أحلام مخادعهن، والأمراء المطعونون بفضل خدمات النوافذ، ناهيك عن المنتحرين والمقتنصين من عليائها عابرين أبرياء في حروب أهلية وعرقية لم تجف دماؤها بعد. وللمتقاعدين من سباقات العيش، وللهاربين والمتعالين، ولجميع من يرغب في رؤية دوره من بعيد في هذا المسرح أو ذاك، النوافذ دائماً موجودة حيث امكانىة ان ترى من دون ان ترى، من علو شاهق أو انخفاض واطئ. الأشياء ليست كما تراها: تقول لك النوافذ، ان كنت ممن يحسنون النظر الصاغي. انها تخفي الخصوصيات، تخفي الأفعال الرتيبة، والخبايا العجيبة، والضوء النافذ من شقوقها المريبة علامة على عالم ملغز. ألم يكن "منزل المسرات" لسعدي يوسف: يخفي عبر نوافذه سهر الليل الفائت أو ثوب فتاة ينزع في سهر الليل الفائت أو سهر الليل القادم أو في مقعد السيارة لا مراء في ان سلطان الباب أقوى، بيد ان مكر النوافذ يهزأ بسلطان الأبواب: من أخرجه الباب يمكنه ان يعود من النافذة. النوافذ تنتمي الى البيت الأبواب تنتمي الى الخارج بل الأبواب ليس لها انتماء واذا كان الباب، باب الزنزانة في السجن يبدو معادياً تمام للسجين، لأنه امتداد للسجان، فإن النافذة تظل اليفة، ان وجدت، اليفة ومتواطئة، تذكر كل يوم بالأفق المفتوح الذي هناك. عشرة قضبان على النافذة عشرة قضبان على النافذة يقول سعدي يوسف. ونافذة فرناندو بيسوا في قصيدته "طبكيريا": 2 تطل على غوامض شارع يجتازه الناس باستمرار على شارع يصعب على الفكرة ارتياده واقعي حتى الاستحالة، واضح بطريقة لا تخطر على البال. لولاها لما تحقق ذلك التماهي العجيب المخلخل بين الأنا من داخل والأنا من الخارج. الأنا من "هنا" والأنا من "هناك" بين وهمية الواقع وواقعية الوهم، في تلك القصيدة الجذرية. ونافذة مارسيل بروست لم تكن تفتح الا لماماً وتغلق دوماً بإحكام. مع ذلك فدورها في "البحث عن الزمن المفقود" حاضر باستمرار في الكثير من المقاطع الوصفية الاسترجاعية. اما نوافذ مالا رمي فكتيمة الستائر، رمادية الزجاج والمجاز، منشغلة بما تخفيه لا بما يمكن ان تبديه، وما تخفيه غامض تماماً كالبرق. ونوافذ ريتسوس بعضها حكر على عجائز يائسات بائسات يخطن من خلالها، بعيونهن الناعسة، الثقوب المطلات على الغيوب. ويقول بابلو نيرودا: من نافذتي رأيت عيد الغروب فوق الهضاب البعيدة كانت أحياناً مثل وسام، تشتعل قطعة شمس بين يدي3 ياللحنين الذي أفكر به في النوافذ أحياناً في تلك الغرف المظلمة حيث أعيش أياماً ثقيلة - متى ستشرع أحداهن وما عساها تحمل لي؟ لكن النافذة تلك غير موجودة أو انني لا أعرف ايجادها، ولربما هكذا أفضل، ربما يغدو ذلك النور عذاباً آخر بالنسبة اليّ. من يدري كم من أشياء جديدة سيبدي.4 يقول الشاعر اليوناني قسطنطين كافافي. في الرابعة عشرة من عمري علمتني النافذة المعشوقة الا اضيع وقتي بعد حلول الظلام. كانت تبدو معادية تماماً بستارها الخشبي الذي لا يكاد يسمح سوى بشعرة نور، تلك النافذة الزيلاشية المزهوة باطلالتها على شارع اسباني متعانق الشجر، النافذة التي شهدت في الصباحات الخوالي وقفاتي المتطلعة الطويلة، في طريقي الى اللاثانوية، بغية ان أحظي بسعادة رؤية انقشاعتها الأولى على صوت صرير رفع الستائر الخشبية، ثم بسعادة اشراقه محيا المحبوبة بتحية الصباح التي كنت اختطفها أو اختسلها - سيان - قبل ان يسقني اقران مصابون بعشق النافذة نفسها. كانوا يذهبون مجتمعين - من ثلاثة الى ستة أحياناً - ومتضامنين على غاية واحدة، قادمين من احياء المدينة القديمة، ليقبعوا اليوم بكامله، ان كل يوم عطلة، متسمرين قبالة الستار المسدل، يكاد لا يرف لهم جفن، يا للمساكين ومن بينهم ابن الباشا يتطلعون تطلع عاشق واحد الى نافذة صاحبة الخال الأسمهاني المحروس. 1 عنوان قصيدة لسعدي يوسف. 2 مُدرجة ضمن "مختارات شعرية" لفرناردو بيسوا "دار الرابطة الدار البيضاء 1996، وهيئة قصور الثقافة/ القاهرة 1995 ترجمة المهدي أخريف. 3 من ديوان "سيف اللهب": ترجمة ميشال سليمان - بيروت. 4 من ترجمتي الشخصية عن الاسبانية من المجموعة الشعرية الكاملة: ايبريون، مدريد 1982.