خمسون عاماً على وجود اسرائيل. خمسون عاماً والعالم العربي يحارب ويخفق ثم يسالم ويخفق، منتظراً منذ نصف قرن اعترافاً بالجريمة التي لم تمح معالمها بعد. كل الذي حصل طوال نصف قرن كان ولا يزال تمجيداً للمجرم ودعماً له بكل الوسائل. طبيعي، إذاً، ان يتمادى المجرم ليحصّن جريمته، لئلا يتعرض للمساءلة ولا في أي لحظة مستقبلاً. طبيعي، إذاً، ان يترسخ العرب في البديهيات، في المطالبة بالحق، وبالعدالة. بل أصبح العرب "يتمادون" في المطالبة الى حد انهم يزعجون أسياد ما كان يسمى "العالم الحر" ولم يعد يعرف هل لا يزال حراً مع ان الأميركيين يحاولون جاهدين ابلاغ العرب موت العدالة، لكن هؤلاء يرفضون الاعتراف بهذا الموت. إذاً، فليتحملوا تبعات عنادهم. الاحتلال حقيقة ملموسة، القوة واقع ساطع، العدالة وهم، والسلام مجرد ترضية تعوّض افتقاد القوة. اسرائيل تريد الخمسينية احتفالاً بالنصر، وليس اعلاناً لبدء عصر السلام. تريدها مبايعة للاحتلال، واستمراراً بل تجديداً له. وإذا ذُكِر السلام فهي مستعدة له بشرط: جيئوها بعالم عربي آخر، بعرب مختلفين، بعرب ناسين تاريخهم مستهزئين بجغرافيتهم مستسلمين لواقعهم وللأمر الواقع الاسرائيلي… وهي مستعدة للتسالم معهم، من دون ان تتعايش معهم، لكنهم مطالبون بدفع الجزية لقاء سلامتهم والقبول باستسلامهم. هذا يعني ان لا سلام مع هذا العالم العربي. لا بد من تغييره. اسرائيل ليست مضطرة لأي تغيير. بل يستحسن ان تزيد قوة وتطرفاً، ففي تطرفهاحماية لها. اسرائيل صنعة اليهود، الذين صنعوا قيماً جديدة للعالم، لا تشاطرهم اياها اكثرية الأمم من افريقيا الى أميركا اللاتينية الى كل آسيا وبعض أوروبا، لكن الشرق الأوسط العربي هو المجال المفترض لممارسة تلك القيم اليهودية. ويكفي ان تكون الولاياتالمتحدة متبنية لهذه القيم. يحق لليهود العداء، وممارسة هذا العداء بكل الوحشية التي يريدون. اما العرب فالأحرى بهم ان يخجلوا بقضيتهم، بحقوقهم، ولا يحق لهم سوى مراكمة الفشل والاخفاقات لكي يحبطوا أجيالهم الحاضرة والآتية. بل لا يحق لعربي، عربي واحد، ان يفقد صوابه وأن تخونه أعصابه فيقتل، فيوصم العرب جميعاً بالجنون والارهاب. لكن يحق لأكثر من اسرائيلي ان يبرمج ليجنّ ويرتكب مجزرة، وستتضافر كل القوانين ويتجند جميع القضاة لابقائه حراً طليقاً، بل لرفعه الى مصاف البطولة. ويحق لاسرائيل، بداعي الأمن، بداعي الديموقراطية، بداعي السلام ومتطلباته، ان تفرض على الأرض الفلسطينية واقعاً عنصرياً واضح التمييز راسخ التقسيم. لكن حذار نعتها بالعنصرية. فمن يرتكب مثل هذا التوصيف يقع في مطب اللاسامية. في أدبيات الفلاسفة والمؤلفين اليهود تأكيد متكرر لكون اليهودية والعنصرية ضدّين لا يلتقيان. هذا ممكن في الكتب، العكس هو الصحيح على الأرض. الأممالمتحدة قررت، وفقاً لميثاقها ومبادئها، ان اسرائيل دولة عنصرية. الأممالمتحدة قررت، تحت الضغط الأميركي، ان اسرائيل ليست دولة عنصرية. بهذه التبرئة الدولية السامية، نالت اسرائيل الضوء الأخضر لتكون عنصرية كيفما شاءت. ما يصح ضد جنوب افريقيا السابقة لا يصح ضد اسرائيل، فهذه لا تخضع للقوانين والقيم التي تخضع لها تلك. اسرائيل استثناء عالمي. في نهاية القرن الماضي بدأت ولادة "اللاسامية"، كأمضى سلاح امتلكه اليهود، ودفعوا ثمنه في المحرقة النازية، لكنه مكّنهم من اختراع اسرائيل دولة لليهود. في نهاية هذا القرن يعاد استخدام هذا السلاح، هذا البعبع الكابوسي للغرب. والهدف هو القول: الموقف العربي حيال اسرائيل هو "لاسامية" خالصة، "نيو لاسامية" يشهرها بنيامين نتانياهو ليسكت منتقديه. لذلك أصبحت كتابات العرب "لاسامية"، كذلك ممارساتهم. قريباً سيعلنون: مات الارهاب، عاشت اللاسامية. حولوا المقاومة للاحتلال ارهاباً، في ضوء القيم الجديدة التي صنعوها. سيحولون الاستمرار في رفض الاحتلال والمطالبة بسلام حقيقي حملة "لاسامية"… وهكذا قفزت المحرقة الى المسرح. طوال خمسين عاماً اشتغل اليهود بالمحرقة لتغطية الجريمة التي ارتكبوها في فلسطين، ولم يشتغل العرب بهذة المحرقة لتبرير حروبهم ضد اسرائيل. مع ذلك استعاد اليهود المحرقة. لم تبقَ سوى خطوة واحدة ليقولوا ان المحرقة من صنع العرب. والدليل انهم لم يعترفوا بها، ولم يبكوا على ضحاياها بل اكتفوا بالبكاء على ضحاياهم في "مذابح صغيرة" ارتكبها اليهود "اضطراراً" ليحموا وجود اسرائيل وأمنها. مذابح لا تقاس ولا تقارن مع المحرقة، فنحن هنا نتحدث عن بضع مئات او حتى عشرات الألوف، وليكونوا مئات الآلاف، فأين هم من الستة ملايين. هؤلاء بشر واولئك عرب. هؤلاء يضاهون العالم كله وأولئك لا يساوون شيئاً. هؤلاء لا تكفي تعويضات تدفع الى آخر الزمان للتخفيف من خسارتهم، وأولئك لا يستحقون أي تعويض. هؤلاء يجب ان يعتذر العالم يومياً عن قتلهم، وأولئك لا تطلب أنفسهم أي رحمة طالما انهم من العرب. هذه هي قيم المحرقة في سياق عملية الاخضاع المتسترة بالسلام. وبهذه القيم تستخرج المحرقة ليزج بها في معركة السلام… إذاً، أبكوا ضحايا المحرقة وخذوا سلاماً يدهشكم! لليهود حق مطلق في ان لا تبارح المحرقة وجدانهم، اما العرب فكل ما يسمح به لهم هو ان ينسوا المحارق التي تعرضوا لها. بل من العبث ان يتذكر العرب ضحاياهم، فهذا لن يجديهم ولن يغير شيئاً في مآلهم. بدليل ان اليهود جزء من اللعبة الانتخابية في ديموقراطيات الغرب، تمويلاً وتخطيطاً ودعاية. لهم الفضل في صعود بيل كلينتون وطوني بلير، ولاحقاً في صعود آل غور. إذاً، لا بد ان يعود الفضل لأصحابه فتقلب من أجلهم الحقائق والقيم، وينقلب الأبيض الى أسود. من أجل السلام، هذا السلام، مطلوب من العرب اعطاء اسرائيل واليهود مشروعية اذلال العرب. مطلوب اعلان الحداد على ضحايا المحرقة اليهودية كاعتراف حاسم ونهائي بوجود اسرائيل كتعويض عن المحرقة. الضحية تعلن للتاريخ ان القاتل كان محقاً في قتلها، ولأن القاتل تعرّض لمعاناة شديدة فقد أحسن صنعاً بقتلها لكي يتحرر أخيراً من عقدته وعذاباته. كان بعض مثقفي اليهود وفلاسفتهم، ولا يزال، يقول ان الألم يعتصر قلبه وهو يرى الجندي الاسرائيلي المسكين "مضطراً" لاطلاق النار على أطفال الانتفاضة! لكن وباء هذه القيم بدأ ينفذ الى اذهان بعض العرب، الذين يبدون كأنهم هابطون من كوكب آخر، ولم يكونوا مع العرب في معاناتهم الطويلة، المستمرة. وها هم ينزلون ببني امتهم توبيخاً وتعنيفاً لأنهم ينقضون المحرقة،.وهل نقضوها حقاً، هل أتيح لهم ذلك أصلاً، ألم تنتهِ محرقة اليهود على ايدي النازيين لتبدأ محرقة العرب على ايدي اليهود؟ حتى التاريخ يُعاد الى العرب معلباً ليستهلكوه مكتوباً في ضوء القيم اليهودية. ومطلوب لعملية النقد الذاتي العربية ان تتبنى قيم الصهيونية. إذاً، طالما انك لم تهزم عدوك فما عليك سوى ان تذوب في قيم هذا العدو. لا تؤمن بأي شيء على الاطلاق فتستحق البركة الاسرائيلية والأميركية، تصبح كائناً مرشحاً للمستقبل، تتعولم فتسلم.