أبو الغيط: تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه مرفوض    سيميوني وأنشيلوتي.. مواجهة كسر عظم    المرصد الإعلامي ل"التعاون الإسلامي": اعتداءات قوات الاحتلال على المساجد في الضفة الغربية تصل ذروتها    إيقاف شوبير وتغريم قناة الأهلي    حصل على 30 مليوناً من «أولاد رزق».. إلزام أحمد عز بزيادة نفقة توأم زينة إلى 80 ألف جنيه شهرياً    نيابة عن ولي العهد.. وزير الخارجية يصل القاهرة للمشاركة في القمة العربية غير العادية    «العقار»: 20,342 إعلاناً مخالفاً بالأماكن العامة    192 نقطة انخفاض للأسهم.. التداولات عند 6.4 مليار ريال    حرس الحدود يحبط محاولات تهريب (116,682) قرصًا من مادة الإمفيتامين المخدر و(537,087) قرصًا خاضعًا لتنظيم التداول الطبي و(717) كيلوجرامًا من مادة الحشيش المخدر    فيصل بن فهد بن مقرن يطلع على برامج جمعية الملك عبدالعزيز الخيرية بحائل    أسعار الذهب تقفز فوق 2,919 دولاراً    أمير المدينة يكرم الفائزين بجوائز مسابقة "منافس"    "الجميح للطاقة والمياه" توقع اتفاقية نقل مياه مشروع خطوط أنابيب نقل المياه المستقل الجبيل - بريدة    مشروع الأمير محمد بن سلمان لتطوير المساجد التاريخية يجدد مسجد الدويد بالحدود الشمالية ويحفظ مكانته    هطول أمطار في 6 مناطق.. والمدينة المنورة تسجّل أعلى كمية ب13.2 ملم    أوكرانيا: مستعدون لتوقيع اتفاق المعادن    الهلال يستعد لضم نجم ليفربول    أمير المنطقة الشرقية يستقبل المهنئين بشهر رمضان    أمانة المدينة تعزز خدماتها الرمضانية لخدمة الأهالي والزوار    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تعزز أعمالها البيئية بانضمام 66 مفتشًا ومفتشة    طلاب جمعية مكنون يحققون إنجازات مبهرة في مسابقة الملك سلمان لحفظ القرآن الكريم    1.637 تريليون ريال إيرادات ⁧‫أرامكو بنهاية 2024 بتراجع طفيف مقارنةً ب2023    من الرياض.. جوزيف عون يعلن التزامه باتفاق الطائف وسيادة الدولة    بالأرقام.. غياب رونالدو أزمة مستمرة في النصر    أكبر عذاب تعيشه الأجيال ان يحكمهم الموتى    الإيمان الرحماني مقابل الفقهي    في بيان مشترك..السعودية ولبنان تؤكدان أهمية تعزيز العمل العربي وتنسيق المواقف تجاه القضايا المهمة    موعد مباراة الأهلي والريان في دوري أبطال آسيا للنخبة    أبٌ يتنازل عن قاتل ابنه بعد دفنه    عقوبات ضد الشاحنات الأجنبية المستخدمة في نقل البضائع داخلياً    قدموا للسلام على سموه وتهنئته بحلول شهر رمضان.. ولي العهد يستقبل المفتي والأمراء والعلماء والوزراء والمواطنين    تعليق الدراسة وتحويلها عن بعد في عددٍ من مناطق المملكة    مهرجان "سماء العلا" يستلهم روح المسافرين في الصحاري    وزير الدفاع يبحث مع نائب رئيس الوزراء السلوفاكي علاقات البلدين في المجال الدفاعي    غزارة الدورة الشهرية.. العلاج (2)    ليالي الحاده الرمضانية 2 تنطلق بالشراكة مع القطاع الخاص    تعليم الطائف ينشر ثقافة الظواهر الجوية في المجتمع المدرسي والتعليمي    نائب أمير منطقة مكة يستقبل مدير عام فرع الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف    الأمير سعود بن نهار يستقبل المهنئين بشهر رمضان    قطاع ومستشفى تنومة يُنظّم فعالية "اليوم العالمي للزواج الصحي"    والدة الزميل محمد مانع في ذمة الله    جمعية «أدبي الطائف» تعقد أول اجتماع لمجلسها الجديد    أمير القصيم يرفع الشكر للقيادة على إعتماد تنفيذ مشروع خط أنابيب نقل المياه المستقل (الجبيل – بريدة)    محمد بن علي زرقان الغامدي.. وجه حي في ذاكرة «عكاظ»    حرس الحدود ينقذ (12) شخصًا بعد جنوح واسطتهم البحرية على منطقة صخرية    لهذا لن تكشف الحقائق الخفية    محافظ الخرج يشارك رجال الأمن وجبة الإفطار في الميدان    خديجة    وزارة الشؤون الإسلامية تنظم مآدب إفطار رمضانية في نيبال ل 12500 صائم    استخبارات الحوثي قمع وابتزاز وتصفية قيادات    «الغذاء والدواء»: 1,450,000 ريال غرامة على مصنع مستحضرات صيدلانية وإحالته للنيابة    المشي في رمضان حرق للدهون وتصدٍ لأمراض القلب    تأثيرات إيجابية للصيام على الصحة النفسية    أطعمة تكافح الإصابة بمرض السكري    6 مجالات للتبرع ضمن المحسن الصغير    قال «معارض سعودي» قال !    التسامح...    النصر يتعادل سلبيا مع الاستقلال في غياب رونالدو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أثر الإسلام الحضاري في غانا ومالي في العصر الوسيط 2من2
نشر في الحياة يوم 11 - 12 - 1998

نظراً إلى تحول أنظار المرابطين نحو الشمال، ونتيجةً لما نشب من منازعات بين قبائل صنهاجة الصحراء ذاتها، عادت غانا الى الظهور ثانية، ولكن على نطاقٍ أضيق رقعةً وأقل ثراء من قبل. ولم تلبث أن تجزأت، وآل تراث غانا القديمة آخر الأمر الى زعيم إحدى قبائل ماندي، القاطنة في وادي النيجر الأعلى.
إن امبراطورية مالي التي ازدهرت في القرنين السابع والثامن الهجريين/ الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين كانت نواتها الأولى قبائل ماندينكا Mandinka القاطنة في الرقعة الواقعة الى الجنوب من غانا، ما بين أعالي نهري النيجر والسنغال. كانت مالي معروفة في القرن الحادي عشر، ويسميها البكري مَلَلْ، ويحدِّثُنا عن إسلام ملكها آنذاك فيقول: "وملكهم يعرف بالمسلماني، وإنما سمي بذلك لأن بلاده أجدبت عاماً بعد عام، فاستسقوا بقرابينهم من البقر حتى كادوا يُفنونها ولا يزدادون إلا قحطاً وشقاء، وكان عنده ضيفٌ من المسلمين يقرأ القرآن ويعلِّم السنّة، فشكا اليه الملك ما دهمهم من ذلك، فقال له: أيها الملك، لو آمنت بالله تعالى وأقررت بوحدانيته، وبمحمدٍ عليه الصلاة والسلام، وأقررت برسالته، واعتقدت شرائع الإسلام كلها، لرجوت لك الفرج مما أنت فيه وحل بك... فلم يزل به حتى أسلم وأخلص نيته، وأقرأه من كتاب الله ما تيسر عليه، وعلمه من الفرائض والسنن ما لا يسع جهله، ثم استأتى به الى ليلة جمعة، فأمره فتطهر فيها طهراً سابغاً، وألبسه المسلم ثوب قطنٍ كان عنده، وبرزا الى ربوةٍ من الأرض. فقام المسلم يصلي والملك عن يمينه يأتمّ به، فصلّيا من الليل ما شاء الله، والمسلم يدعو والملك يُؤمن، فما انفرج الصباح إلا والله قد أعمهم بالسقي. فأمر الملك بكسر الدكاكير ]الأصنام[ وإخراج السحرة من بلاده، وصح إسلامه وإسلام عقبه وخاصته، وأهل مملكته مشركون. فوسموا ملوكهم مذ ذاك بالمسلماني".
يبدأ تاريخ مالي بالملك سندياتا حَكم 1230 - 1255م الذي اتخذ لنفسه عاصمةً جديدةً هي نياني، وتلقب بمنسى، أي سلطان. وكانت الإمبراطورية الجديدة مترامية الأطراف: من العاصمة نياني على نهر النيجر الأعلى الى المحيط غرباً، وكانت تمتد شرقاً بمحاذاة وادي النيجر الى حدود بلاد الحَوْسا Hausa. وكانت تضم مصادر الثروة المعدنية الرئيسية، كمناجم الملح في تغازة، ومناجم النحاس في تكدّا، ومناجم الذهب في الجنوب، كما اشتملت على المدن التجارية المهمة، وهي ولاتة ايوالاتن وجِنِّي وكَوْكو.
يبدو أن سندياتا كان وثنياً في بداية حكمه، ثم لم يلبث أن اعتنق الإسلام. وحتى نهاية الإمبراطورية في القرن الخامس عشر، كان كلُّ سلاطين مالي من المسلمين، وأدى كثيرٌ منهم فريضة الحج، مما زاد من هيبتهم لدى المسلمين من رعاياهم، وفي العالم الإسلامي.
إن أشهر سلاطين مالي منسى موسى حكم 1321 - 1337م الذي اشتهر بالورع والتقوى، وفي عهده شهدت مالي أوجَ رخائها وازدهارها.
أدى منسى موسى فريضة الحج الى مكة المكرمة العام 724/ 1324 فعزز ذلك من مكانة الإسلام في مالي، وأشاع أخبار ثرائها بالذهب في أرجاء العالم الإسلامي، بل وفي أوروبا، واجتذب الى بلاده الكثيرين من التجار والعلماء المسلمين، الذين ساهموا في النهضة بالبلاد اقتصادياً وثقافياً. إن حجَّ منسى موسى أصبح معلماً في تاريخ مالي والسودان الغربي، وورد ذكره في المصادر الإسلامية وغير الإسلامية. أصبحت مالي معروفة في أوروبا، وزادت تجارتها في مصر. يقول فرناند بروديل عن شهرة منسى موسى بعد حجه "إن ذهب السودان كان أكثر من أساس لرخاء شمال أفريقيا والأندلس... فهذا الذهب لعب دوره في تاريخ حوض البحر الأبيض المتوسط كله، حيث بدأ تداول هذا الذهب من القرن الرابع عشر عقب الحج الشهير لملك مالي منسى موسى".
اصطحب منسى موسى عند عودته الى بلاده من الحج عدداً من العلماء المسلمين، وابتاع جملة من الكتب الفقهية ليوفِّر لبلاده الثقافة الإسلامية. وممن رافقه الى بلاده من العرب أربعةٌ من الشرفاء من الحجاز مع أُسَرهم، والشاعر والمهندس الغرناطي أبو اسحاق إبراهيم الساحلي.
أبو إسحاق الساحلي
أبو إسحاق إبراهيم الساحلي الغرناطي - المعروف ببلده بالطويجن - أديب ومهندس معماري من غرناطة التقى في مكة المكرمة بسلطان مالي منسى موسى عند حجه الشهير سنة 724/1324، فدعاه السلطان لمرافقته الى مملكته بالسودان الغربي، حيث طاب له المقام، فبقي في مالي نيِّفاً وعشرين عاماً الى أن توفي في تنبكتو سنة 747/1346. واشتهر الساحلي شاعراً وناثراً، ومهندساً معمارياً أدخل الى مملكة مالي والسودان الغربي أساليب البناء الأندلسي - المغربي في تشييد الجوامع والقصور. ولعلَّ الساحلي قام كذلك بدور مهم في تعزيز الصلات بين سلطان مالي وبين سلطان المغرب المريني أبي الحسن علي، فتبودلت بينهما السفارات والهدايا، كما أخذ طلبة العلم في مالي يَفِدون لتلقي العلم في مدارس فاس.
عُرف عن سلطان مالي منسى موسى حرصه على بناء الجوامع. فعند عودته من الحج العام 725/1325 أمر ببناء مسجد فخم في جاو/كوكو Gao أشرف على بنائه أبو إسحاق الساحلي، وقد بناه من الطوب المحروق الذي لم يكن معروفاً قبل ذلك في السودان الغربي، وجعل صَومعته هرمية الشكل. كما بنى الساحلي قاعة الاجتماعات بقصر منسى موسى من الحجر والجبس، وزخرفها بالخشب المطعَّم بالذهب. ويُشيد ابن خلدون ببراعة الساحلي في مجال المعمار، وما استحدثه في مالي فيقول: "أراد سلطان مالي أن يتخذ بيتاً في قاعدة سلطانه ]ينِّي Jenne[ مُحكم البناء، مجللاً، لغرابته بأرضهم، فأطرفه أبو إسحاق ببناء قبة مربعة الشكل استفرغ فيها اجادته، وكان صناع اليدين، وأضفى عليه من الكِلس، ووالى عليها بالأصباغ المشبعة، فجاءت من أتقن المباني، ووقعت من السلطان موقع الاستغراب، لفقدان صنعة البناء بأرضهم".
وفي تنبكتو، شيد الساحلي الجامع الكبير، كما بنى قصراً للسلطان. ولما زار الحسن الوزان تنبكتو في أوائل القرن السادس عشر لاحظ أن بيوتها كانت أكواخاً مغطاةً بالقش، إلا أن في وسط المدينة جامعاً فخماً جدرانه من الحجر والكلس، وفي المدينة كذلك قصرٌ فخم، بناهما مهندسٌ بارع من غرناطة. وبفضل ما أشرف الساحلي على تشييده من جوامع وقصور في تنبكتو وجاو ويني، أخذ طراز المعمار الأندلسي - المغربي في الذيوع في مدن السودان الغربي كافة.
في المؤتمر الذي عقد في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية في لندن العام 1975 حول الدراسات الخاصة بقبائل ماندنج Manding، لفت أحد الباحثين في المؤتمر جون هنويك J. Hunwick الانتباه الى زيارةٍ قام بها أبو إسحاق الساحلي الى المغرب أثناء إقامته في تنبكتو، واستقبله السلطان المريني أبو الحسن. وتساءل الباحث: أليس من الممكن أن يكون الساحلي لعب دوراً في تعزيز العلاقات الديبلوماسية بين سلطاني المغرب ومالي؟
يقول ابنُ خلدون انه "كان بين هذا السلطان منسى موسى وبين ملك المغرب لعهده من بني مرين السلطان أبي الحسن مواصلةٌ ومهاداة... واستجاد صاحب المغرب من متاع وطنه وتحف ممالكه مما تحدث عنه الناس... وتوارث تلك الوصلة أعقابهما".
كان الساحلي على صلةٍ بالسلطان أبي الحسن حتى قبل مرافقته لمنسى موسى من الحجاز الى مالي، وكان يتردد على المغرب من مالي للتجارة. وفي إحدى زياراته للمغرب، أهدى السلطان أبا الحسن هديةً تشتمل على طرف فأثابه عليها مالاً خطيراً. ولما كان سلطان مالي قد عمل بعد حجِّه على تعزيز صلات بلاده السياسية والثقافية والتجارية بمصر وتونس، فإن دور أبي إسحاق الساحلي - بحُكم حظوته لدى سلطان مالي، وصِلته الخاصة بسلطان المغرب - كان من دون شك دوراً إيجابياً وفعالاً في تعزيز الصلات السياسية والثقافية وتوطيدها بين مالي والمغرب، في القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي.
علاقات مالي بمصر المملوكية
ساهم الحجُّ في تنمية العلاقات الثقافية بين مالي ومصر، وكان بعض كبار العلماء من تنبكتو في طريقهم الى مكة المكرمة وعودتهم منها يقيمون فترةً في القاهرة حيث كانوا يدرسون على أبرز العلماء في الجامع الأزهر. واستقر بعض الطلبة من بلاد التكرور أي مالي في القاهرة، ونالوا شهرة بحيث وردت أسماؤهم في كتب التاريخ والتراجم. وكان للتكارير جالية كبيرة مقيمة في مصر منذ عهد الفاطميين. وعرفت مُنية بولاق بإسم "بولاق التكرور" نسبة الى أحد صلحاء التكارير الشيخ يوسف بن عبدالله التكروري، وكان معاصراً للخليفة العزيز ابن المعز الفاطمي الربع الأخير من القرن العاشر الميلادي، فلما توفي الشيخ بنى له العزيزُ قبةً ومسجداً عرف بإسم جامع التكروري. وبعد وفاة الشيخ التكروري بمئتي سنة ظهر كُتيب للشريف محمد بن أسعد الجواني يعدد فيه مناقب الشيخ التكروري. ولما تحول مجرى النيل الى ناحية بولاق بعد سنة 790/ 1388، خشي الناس أن تغمر المياه الضريح والجامع، فحُوِّلا عن مجرى النيل.
إن الطلبة التكارنة في القاهرة اندمجوا بالمجتمع المصري، ولم يعيشوا بمعزل عنه في حيٍّ خاص بهم. واكتسبوا أرزاقهم من الحرف التي زاولوها، ومن الحوانيت التي أنشأوها، فصبيح بن عبدالله التكروري أعتق نفسه بمبلغ 500 درهم اكتسبها من صُنع الشواشي، وكان يعرف بالكلوتاني، واشتهر بالاستقامة والورع. وتوفي سنة 731/ 1330.
وعرف طالب آخر من بلاد التكرور في النصف الثاني من القرن الرابع عشر بالحراز، لممارسته إعداد الحُرز أو الحُجب. وابنه المولود في القاهرة - المعز التكروري - عُرف بالكتبي، وكانت له مكتبة لبيع الكتب في سوق الورّاقين، واشتهر بجودة الخط واتقان اعداد الكتب.
وشاهدٌ آخر على منجزات التكارير العلمية ما ورد في كتاب "نيل الابتهاج" في ترجمة عبدالعزيز التكروري الذي رحل من تكرور الى الشرق في أواسط المئة التاسعة القرن السادس عشر: "ويقال انه عَزى لأهل مصر جميع مسائل مختصر خليل لأصولها، إلا نحو ثلاثة".
ومن التكارنة من التحق بالجيش المملوكي وتَرقى، مثل عنبر التكروري الذي أحرز رتبة مقدم سنة 905/ 1499.
كانت مصر شهدت في العهدين المملوكي والعثماني تطوراً في نظام التعليم: فالكتاتيب كانت مدارس ابتدائية لتعليم اللغة العربية وحفظ القرآن، والمدارس كانت المعاهد العليا، وأشهرها الجامع الأزهر. ويبدو أنه كان لهذا النظام أثرُه في قيام نظام شبيه في السودان الغربي والأوسط، فجامع سَنكوري في تنبكتو حاكى الجامع الأزهر إذ كانت تُدرس فيه مختلف العلوم الإسلامية كالتفسير، والحديث، والفقه، والمنطق، والنحو، والبيان، والكلام، والتصوف، كما يُستدل من تراجم علماء تنبكتو في "نيل الابتهاج" لأحمد بابا التنبكتي و"تاريخ السودان" لعبدالرحمن السعدي.
وفي مجال التجارة، يبدو من كلام ابن بطوطة ان الثياب المصرية كان عليها اقبالٌ كبيرٌ في مالي. فأهل تَكِدّا مركز انتاج النحاس "يسافرون كل عام الى مصر ويجلبون ما فيها من حسان الثياب". وعن ولاتة إيوالاتن التي أقام ابن بطوطة فيها خمسين يوماً، يقول: "وثياب أهلها حسان مصرية".
ومما زاد في أهمية العلاقات بين مصر والسودان الغربي نضوب مناجم الذهب في وادي العلاقي ببلاد النوبة، فحَّول المصريون أنظارهم الى السودان الغربي موطن الذهب، ثم ان مصر المملوكية كانت المركز السياسي والثقافي في العالم الإسلامي فتحولت اليها أنظار السودانيين، كما أن انتشار الإسلام في السودان الغربي أدى الى ازدياد عدد الحجيج عبر مصر.
وازداد عدد المصريين الزائرين لمدن مالي والمقيمين فيها. ويذكر ابن بطوطة ان للبيضان في مدينة مالي كبيرين هما محمد بن الفقيه الجزولي، وابن النقويش المصري. ولما اعتل ابن بطوطة، لجأ الى بعض المصريين لمعالجته.
يتحدث ابن فضل الله العمري وابن بطوطة عن مملوكٍ يقف خلف سلطان مالي وبيده جِتْر "وهو شبه قبةٍ من الحرير، وعليه طائر من ذهبٍ على قدر البازي". فالمملوك المذكور كان يحمل مظلة شبيهة بمظلة السلطان المملوكي كما وصفها القلقشندي، ولعلها جلبت من مصر.
ان المستوى العالي للعلماء السودانيين تدل عليه حكاية أوردها عبدالرحمن السعدي على لسان الشيخ سيدي يحيى المتوفي سنة 866/ 1462 إذ قال السعدي: "وروُي أن طلبة سنكري إذا جاءوه لأخذ العلم يقول: يا أهل سنكري، كفاكم سيدي عبدالرحمن التميمي، وهو جاء من أرض الحجاز صحبة السلطان موسى صاحب ملِّي حين رجع من الحج، فسكن تنبكت وأدركه حافلاً بالفقهاء السودانيين، ولما رأى أنهم فاقوا عليه في الفقه، رحل الى فاس، وتفقه هنالك، ثم رجع اليه فتوطن فيه". لما زار الحسن الوزان مالي في مطلع القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، لاحظ أن لهم "مساجد كثيرة وأئمة يدرسون في المساجد... وهم أكثر تحضراً وذكاء واعتباراً من جميع السود، لأنهم كانوا من السابقين الى اعتناق الإسلام".
ومما يذكر أن التسمية ماندنج Manding تشمل اليوم عدداً من شعوب غرب أفريقيا تتكلم لهجات مشتقة من اللغة التي استُعملت في كتابتها حروف عربية بشيء من التحوير. ويذكر القلقشندي أن كتابة أهل مالي بالخط العربي على طريقة المغاربة. وقد وصل كتابٌ من سلطان مالي الى سلطان مصر وهو بالخط المغربي، في ورق عريض، السطر الى جانب السطر. ولباس أهل مالي عمائم تُحنك مثل العرب، وقماشهم بياض من قطن يزرع عندهم وينسج، في نهاية الرفع واللطف، يسمى الكميصا. ويركب أهل مالي الخيول بالسروج، وهم في غالب أحوالهم في الركوب كأنهم العرب.
ابن بطوطة في مالي
لدينا مادة وفيرة عن مالي في منتصف القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي وعن سلطانها منسى سليمان، شقيق منسى موسى. فبالإضافة الى ما ذكره العمري، لدينا معلومات من شاهد عِيان هو الرحالة المغربي ابن بطوطة الذي أمضى أكثر من تسعة شهور في زيارة مالي 753/ 2-1353.
تدل رواية ابن بطوطة على أن الإسلام كان قد توطد في مالي، ومع ذلك فإن السلطان كان يراعي العادات والتقاليد المحلية المنتشرة بين الوثنيين من رعاياه. وقد أُعجب ابن بطوطة باستتباب الأمن والعدالة في البلاد، كما أُعجب بتدين القوم وأدائهم الصلوات في أوقاتها، وحفظهم للقرآن الكريم.
ومما يدل على عدم وجود أي تمييز عنصري عند المسلمين، ما ذكره ابنُ بطوطة من أن ابن كبير جماعة البيضان أي المغاربة في عاصمة مالي - محمد بن الفقيه الجزولي - كان متزوجاً من ابنة عم السلطان. ويلاحظ كذلك ان المساجد كانت حرماً يلجأُ اليها المستجيرون من بطش الحاكم. فابن بطوطة يذكر أن منسى سليمان غضب على زوجته الكبرى وابنةِ عمه قاسا، إذ اتهمها بتدبير مؤامرة ضده "فخافت قاسا... واستجارت بدار الخطيب. وعادتهم أن يستجيروا هنالك بالمسجد، وان لم يتمكن فبدار الخطيب". وكان علماء المسلمين يبادرون الى الإصلاح بين المتنازعين حقناً للدماء، فابن بطوطة يذكر أنه أثناء اقامته بتكدّا توجه القاضي والخطيب والمدرس والشيخ بها الى أميرها للإصلاح بينه وبين أمير آخر.
ويوجز ابن بطوطة محاسن السودان فيقول: "فمن أفعالهم الحسنة قلة الظلم... ومنها شمول الأمن في بلادهم... ومنها عدم تعرضهم لمال من يموت ببلادهم من البيضان، ولو كانت القناطير المقنطرة، إنما يتركونه بيد ثقةٍ من البيضان حتى يأخذه مستحقه. ومنها مواظبتهم للصلوات والتزامهم لها في الجماعات، وضربهم أولادهم عليها. وإذا كان يوم الجمعة ولم يبكر الإنسان الى المسجد، لم يجد أين يصلي لكثرة الزحام. ومن عادتهم أن يبعث كل انسان غلامه بسجادة فيبسطها له بموضع يستحقه بها، حتى يذهب الى المسجد... ومنها لباسهم الثياب البيض الحسان يوم الجمعة، ولو لم يكن لأحدهم إلا قميص خَلِقٌ غسله ونظفه وشهد به يوم الجمعة. ومنها عنايتهم بحفظ القرآن العظيم، وهم يجعلون لأولادهم القيود إذا ظهر في حقهم التقصير في حفظه، فلا تُفكُّ عنهم حتى يحفظوه".
يقول توماس هودجكين - من كبار المتخصصين في تاريخ السودان الغربي - معلقاً على أثر الإسلام في مالي في نهاية القرن الرابع عشر: "إن المصادر الوثائقية الوفيرة نسبياً عن تاريخ مالي في القرن الرابع عشر تمكننا من الحكم على مدى ما حققه الإسلام آنذاك في تحوير النظم والأعراف المحلية السائدة قبل وصول الإسلام، كما هي الحال بالنسبة إلى المراسم في البلاط، وصيام شهر رمضان، والاحتفال بالعيدين، واستخدام القضاة في المدن، وتأسيس المدارس القرآنية، والاستعانة بالمتخصصين الأغراب مع تنويع العلاقات الخارجية بحيث تشمل مصر والحجاز، فضلاً عن المغرب".
* بحث قدِّم في الندوة التي نظمتها كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان بالمغرب وكلية الدعوة الإسلامية طرابلس - الجماهيرية في 12 و13 و14 أيار مايو 1998، وموضوعها: "التواصل الثقافي والاجتماعي بين الأقطار الأفريقية الواقعة على جانبي الصحراء الكبرى".
* أستاذ جامعي فلسطيني في أكسفورد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.